الحرية والثقافة لجون ديوي ..2


الأحوال الاقتصادية


الفيلسوف الأمريكي جون ديوي

ينقل الكتاب عن المؤرخين أن ما حدا بزعماء الثورة قبل مائة وخمسين سنة من كتابة هذا الكتاب إلى الخروج على بريطانيا العظمى لم يكن غير تلك القيود التي فرضها الإنجليز على التجارة والصناعة، وما فرضوه من ضرائب كثيرة ومرهقة، وما كان من الأمر أن الزعماء قد عمموا أمر هذه القيود الخاصة التي أرهقتهم، إلى أفكارٍ ومطالب عامة، لم يكن العامة ليحفلوا لولاها بالنضال من أجل الثورة، وتم المناداة بأن أي نظام لم يفرضه الناس على أنفسهم نظامٌ أجنبي عن الطبيعة البشرية. ولم يكن هذا التصريح يعني أن المؤرخين يعتقدون أن القوة الاقتصادية هي القوة الوحيدة المؤثرة، ولم يكن يعني أن خداعًا ما تم على الناس، ولكنهم بوصفهم مؤرخين بينوا ما للعوامل الاقتصادية من أثرٍ على إحداث الثورة.


كما بين المؤرخون أثر الأحوال الاقتصادية التي طرأت عقب تحقيق الاتحاد على الشكل النهائي الذي تمت صياغة الدستوربه. ولذلك يمكن ملاحظة فروق بارزة بين وثيقة الاستقلال والدستور؛ حيث يمكن اعتبار الأولى أكثر يسارية من الثانية لأن من كتب الأولى أثبت الزعماء على مبادئ الديمقراطية – جفرسون، كما أن القوى جميعها كانت موحدة ضد العدو الأجنبي أثناء كتابتها بينما دفعت الأمور غيره في المؤتمر الدستوري للصفوف الأولى، وكانت الحاجة الأكثر بروزا هي "حماية المصالح الاقتصادية من هجمات الجماهير التي تتخذ من الحرية قناعًا للهجوم على النظام والاستقرار" (ص57)


ربما كان كافيًا  في البداية – نظرًا للظروف التي تم فيها تبني هذه القواعد – التأكيد على شكل سلبي للحرية يعتمد على منع القوى القامعة، وحماية الفردية، والتأكيد على حقوق مثل: عدم القبض على الناس بشكل تعسفي، حق التملك، حق التعبير، وغيرها، لكن الأحوال وقت كتابة الكتاب كانت أكثر تعقيدًا حتى أن التعرف على النتائج المترتبة على أفعال معينة غدا أكثر صعوبة؛ "فالتغيرات من حيث الزمان والمكان أضحت عظيمة بشكل يجعل التنبؤ بذلك العدد الكبير من العوامل التي تحدد النتائج وتعيينه لم يعد ممكنًا" (ص 62-63)، وبالتالي أدى تراجع مستوى الوعي بما يجري فعلا، وبأسبابها وطرق علاجها، إلى تراجع كفاءة قيام المؤسسات بدورها، فالمواطن المشوش يختارُ ممثلا له مشوشًا أيضًا ولا يفهم الصورة بالضرورة، والنتيجة هي تصاعد في الهجوم لاحظه الكتاب على الديمقراطية من اليمين واليسار معًا.

التغيرات الاقتصادية الكبيرة التي حدثت، وما صاحبها من أحداث كالبطالة، ودورات الكساد المتكررة التي تعرضت لها طبقة الملاك، والحراك السياسي الشعبي للعمال الذي صاحب ذلك، أدى إلى سعي طبقة الملاك أيضًا إلى التكتل سياسيًا، والدفاع عن مصالحهم، وكلما زاد نشاط الطبقة التي تعد يسارية من وجهة نظر الملاك كلما نشطت هي أيضًا. "وعندما تحدث اضطرابات على نطاق واسع، تتجه الطبقة الوسطى عادة إلى التزام جانب القانون والنظام، ومن السخرية أن الرغبة في الأمان التي تصدر عن الفريقين المختلفين كل الاختلاف من حيث مركزهما الاقتصادي – هذه الرغبة تعاون على زيادة استعدادهما للتفريط في أشكال العمل الديمقراطية والنزول عنها. فاتفاق مصدرين مختلفين متضادين على الرغبة في الأمن والسلام كان عامل من العوامل التي أدت إلى إحلال الديكتاتوريين محل البرلمانات في البلاد الأوروبية" (ص64-65)، و" من السخف أن نظن أن الطبقة التي في مركز اقتصادي متفوق نسبيًا، يمكن أن تعاون على قيام ديكتاتورية، إلا إذا كان وراءها تأييد يسندها من أولئك الذين في موقف سيء نسبيًا؛ فكلمة (الأمان) تشمل أنواعًا كثيرة من المصالح ذات الاتصال بالأحوال اللازمة لصيانة الديمقراطية" (ص65)

            "إن تضارب المصالح، وتنازع الأحزاب والطوائف بعضها مع بعض، مضرٌ بوجه خاص، ما دامت المشكلة مشكلة إنسانية عامة. فالطرق التي تعالج بها، والنتائج التي تترتب عليها، تؤثر في الجميع سواءً بسواء؛ فأول ما يجب علينا أن نعمله هو البحث عن الطراز التعاوني القائم على أسس علمية. فمن الميسور نظريًا أن نتصور أن تضارب المصالح قد يؤدي إلى أن ندرك بشكلٍ جلي المصالح المختلفة التي ينطوي عليها الأمر، والتي يجب جعلها منسجمة متوافقة في شكل حل دائم للمشكلة، ومع ذلك فما دام الصراع يدار، من كل جانب، بفرض أن الحقيقة عتيدة موجودة لدينا من قبل – وهو موقف يبلغ حد إنكار الحاجة إلى فحص الأحوال فحصًا علميًا كي نتمكن من تحديد السياسة التي ينبغي أن تتبع، فإن تنازع الأحزاب سيكون مصدر انقسام واضطراب كبيرين"  (ص75)

الماركسية

عزلت الماركسية عاملا واحدًا وأعطته كل الانتباه هو العامل الاقتصادي، ورتبت عليه كل ضروب النشاط الأخرى،  ويجب التأكيد هنا أن ماركس لم يكن أول من أكد على أهمية العامل الاقتصادي، فقد أبرز الفلاسفة الإنجليز الذين أثروا على أفكار مؤسسي الجمهورية الأمريكية، على العلاقة بين توزيع الملكية وبين صيانة الحكومة الشعبية، لكن ماركس تجاوز علاقات الملكية إلى فعل قوى الإنتاج، وأثرها. " ذلك إلى أنه فرق بين حالة الكفاية الإنتاجية، وبين حالة الإنتاج العقلي القائمة في وقت معين، وأشار إلى ذلك التخلف الذي كثيرًا ما يحدث في الحالة الأخيرة. وقد أوضح لنا بتفصيل كاف أن سبب هذا التخلف هو إخضاع القوى المنتجة للأحوال القانونية والسياسية التي ما هي إلا بقايا تخلفت عن نظام سابق للإنتاج. فنقد ماركس لوضع الأمور الحالي كان من وجهة النظر هذه نافذًا له قيمته"

لكن مشكلة الماركسية أنها تجاوزت هذه التحليلات التي قد تكون صالحة للاستخدام في  البحوث الاجتماعية والتاريخية، إلى الزعم بأنها قد وضعت العامل الوحيد المؤثر والذي وفقًا له يتم تحديد مجرى التغير الاجتماعي بناء على التغير الاقتصادي. وهنا يجب التأكيد أنه يمكن قبول نوع من أنواع الجبر الاقتصادي لكن هذا لا يحولُ المرء إلى ماركسيًا لأن جوهر الماركسية يتمثل في أفكارها حول ضرورة صراع الطبقات الذي تراه هو وسيلة القوى الاقتصادية لإحداث التغير الاجتماعي.

إدعاء الماركسية للعلمية لم يعد يتناسب مع مفهوم العلم الحديث؛ فالبحث عن قانون فذ شامل يفسر كل شيء كان من سمات مرحلة سابقة، أما هذه المرحلة فتعلي من قيم التعدد والاحتمال؛ " فما أبعد الشقة التي بين الفكرة القائلة بأن توالي الأسباب يمكن أن يوجد في أية مجموعة معينة من الأحداث تعرض على نطاق البحث، وبين الفكرة التي تقول بأن كل مجموعات الأحداث مرتبطة ببعضها ببعض بقانون علّي واحد فذ يجعلها كلا واحدًا"، ويعتبر ديوي أن هذا النقد ليس موجهًا ضد أي مبدأ عام وضعه ماركس على أساس ملاحظة الأحوال الواقعية بل على العكس فجوهر هذا النقد هو " ضرورة العناية بملاحظة الأحوال الواقعية ملاحظة مستمرة، مع اختيارجميع المبادئ العامة السابقة ومراجعتها من جديد على أساس ما هو مشاهد الآن" (ص89) ويرى ديوي أن ماركس وضع باسم العلم إجراءً ضد العلم، عندما تجاهل ضرورة الالتجاء المستمر إلى الملاحظة. ويؤكد ديوي في المقابل "انزلقت الفردية التي في مذهب حرية التعامل الاقتصادي هي الأخرى إلى مثل هذا المبدأ الجارف، إلا أن انزلاقها كان في اتجاه آخر مناقض لاتجاهه." ويوضح أن نقده لمذهب ماركس هنا كان لتوضيح عيوب أي مذهب واحدي، وكان يمكن اختيار القائلين بمذهب حرية التعامل لطرح نفس هذه القضايا.

ويوضح كيف ساعد تبني الاتحاد السوفيتي لأفكار ماركس، والترويج للممارسات التي تقوم بها الدولة هناك على أنها مجرد تطبيق لمذهب ماركس، وهو ما ساعد على النظر لمذهب ماركس كخطرٍ مرعبٍ في أقطار، في مقابل الترحيب المبالغ في أقطار أخرى. ولكن يجب الانتباه هنا إلى أن الماركسية كمذهب واحدي، لم تؤدي لتقليل سلطة الدولة، بل على العكس أدى إلى دولة فيها حزب واحد، يسيطر على كل وسائل الإعلام، ويراقب كل أشكال التعبير، ويمنع كافة أشكال النشاط السياسي، باعتبارها معادية للثورة، ويحتكر وحده بالتبعية حق تفسير النظرية.

20 يونيو 2011
ـــــــــــــــــــ
اقرأ أيضًا: 

الحرية والثقافة لجون ديوي ..3

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

النوافذ

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات