مختارات من شوقي بزيع 2

الشاعر اللبناني شوقي بزيع


لم يلدني شجر قط

مطفأٌ صدري
وأدنى رسلي اليأسُ
وأعلى خضرةً مني ذبولي
لم يلدني شجرٌ كي أرتق الأرضَ بأضلاعي

وأدعو الماءَ ضيفي
أو نزيلي
والذي يُثقلني ليس حديدًا
كي تؤاخي وحشتي القاعَ
ولا جمهرةً من رغباتٍ لم أنلها
كي أُمنّي بصباحٍ هادئِ الموجِ
مناديلَ رحيلي
لكأني طائرٌ يخبط في أوديةٍ عمياءَ
يرتابُ ظلامي بي
ويمحوني دليلي
لكأن الأرضَ شاخت من قرونٍ
والذي يخفق في أرجائها
محضُ دمٍ
يقطر من حبل ضحاياها الطويلِ
ليتني نارٌ فأرى فأصفو
أو لقاحٌ فأرى ما تُتئم الشهوةُ
في مخدعها الأبيضِ من جمرٍ
وما يجعلُ من رائحة الأنثى
ممرًّا للخيولِ
أيها الموتُ الذي يفغر في وهدةِ روحيَ فاهُ
تَوِّجْني بإكليلكَ
زَوِّجْ ظلماتي لدمٍ آخرَ
مازجْني
امتزجْ فيَّ لتصفو خمرتي فيكَ
تَنَاوبْني لكي أصنع من ضدّي
بديلي
رُدَّني طينًا كما كنتُ
ليسعى لهبي نحوي
وترثيني قرائيني
وأحجارٌ تلّمْستُ بها نبضَ الفصولِ
لم يلدني شجرٌ قطُّ
ولا رعدَ يُسمّيني
لكي أقرعَ في هذا المدى الخاوي طبولي
وأنا أكثر من اسمٍ
لكي يُكملني المعنى
ولا تكفي لراياتي سهولي
وأنا النهرُ الذي يدفعه المجرى
لكي يبلغ بحرًا ميّتَ الموجِ
ويطوي فُلْكَه الأعمى
على نَوْحِ الأفولِ
أين أُعلي رايتي بعدُ؟
إلى أي مجازٍ أُسند الجملةَ
كي تختلط الأشياءُ مع أسمائها فيَّ
وكي يرشدني الرمزُ
إلى ما يجعل البرقَ مصبًّا لسماواتي
وغيمًا لهطولي
كل ما حُمِّلتُه حُمِّلتُه قسرًا
ولم أنهض إلى حربٍ
لكي يلتقيَ الجمعانِ في زحمة أصدائي
ولا خُيِّرتُ بين الماء والنارِ
لكي أختار عنقاءَ ارتفاعاتي
وآياتِ نزولي
لستُ يوحنا لكي ترقص من أجليَ سالومي
وكي يُحمل رأسيَ في صحنٍ
ويُسعى لي إلى عرش نبوءاتي
ولا عيسى لكي تنكرني قبل صياحِ الديكِ
أعضائي
ولا مريمُ أمّي
كي تُسجّي نعشَ أحلامي
على ورد الجليلِ

ما الذي يَصْفُر في صدري
وقد أُفرغتُ من مجرايَ كالرمحِ
وآختني طواحينُ الهواءِ؟
ما الذي يحقن رأسي بالشياطينِ
ويعوي في خلايايَ
كأني مُدُنٌ مذبوحةٌ في الشمسِ
من دون غطاءِ
بِتُّ لا أسمع في ذروة فوضايَ
سوى أجنحةٍ تخفق في الريحِ
ولا أُبصرُ إلا ما تدلّى
من مرايايَ
إلى
بئرِ عمائي
لم يصلني أحدٌ بي
ولم أعثر على وسوسةٍ تشبهني
كي أدّعي وصلًا بأطرافي
ولا أفضتْ إليَّ امرأةٌ بالسرِّ
كي أفتضَّ هذا الشبقَ الملغزَ
في جوف النساءِ
لم تعد تحلم بي أرضٌ لكي أُوسعَها موتًا
ولا شمسَ تحاذيني
لكي أُسند كالنخلةِ
جدرانَ
السماءِ
شَبِقٌ كامرأةٍ تمتحن النهرَ بساقيها
وناءٍ كربيعٍ لم تعد أزهارُهُ
من كربلاءِ
تتهجّاني شعوبٌ من مراراتٍ
وتعدو أبجدياتٌ من الخوف ورائي
أَسْرِجوا لي فرسًا من خشب الوهمِ
لكي أطعن تِنّينَ الخساراتِ
بأعقاب حنيني
ولكي أمضي إلى عشبٍ
يُغطّيني بأهداب بلادي
فلقد أنشبني في لحمه الأسودِ
تُفّاحُ الصباحاتِ
التي ترفلُ في ثوب الحِدادِ
أَسْرِجوني كي أرى قطرةَ ضوءٍ
لم تزل تنبض في هذا السوادِ
ها أنا ألتفّ كالحبل على عنقِ انكساراتي
وأُقعي مثلَ برجٍ خربٍ
فوق حطامي
كلَّما انهار جدارٌ في مكانٍ ما
تحسّستُ انهدامي
كلَّما صفّق قمحٌ بجناحيهِ
تراءت لي ينابيعُ دمي الأولى
وأطيافُ قرًى بيضاءَ
تصطكّ على مرمى عظامي
ها أنا أفترشُ الريحَ كحطّابٍ
وأستجلي مرايا الوقتِ وحدي
لم يلدني شجرٌ قطٌّ
ولكني محاطًا برعايايَ
سأمشي نحو يأسي
كغرابٍ رابط الجأشِ
وأُملي ما تبقّى من وصايايَ
على من يرفعُ الصخرةَ بعدي


4/2/1999


***


قمصان يوسف


[1 - قميص التجربة]

 قبَّرات الحقول،
تقافُزُ قلب الثعالبِ
حول الينابيع،
نومُ النمالِ الطويلِ
على طرقات الشتاء،
عراكُ المجرَّات
من أجل نجم تغازله الشمسُ
من خلف ظهر الفَلَكْ
كلها الآن تسجدُ لك
كلها الآن تجثو على قدميك الإلهيتين،
ميممةً شطرَ أهدابك السود،
مسرعةً كي تقبلَ ثغر الهلال الذي قبَّلك
الذي قبلكَ
ولكن سرُّكَ في أن تكون جديرًا بسحرك
في أن تخضَّ المياة التي سكنتها الشياطينُ
كي تستعيد البراءةَ،
أو تستعيد بجذع اختياركَ
من حاسدٍ حسدك
وسرُّك في أن تعود إلى نقطة الصفرِ
 كيما ترى جسدكْ
نظيفًا كجوهرةٍ في العراء
وكيما تخلِّص نرجسك المتوجسَ
من نفسه،
لا تصدق جمالَك
صدِّق ظلالك فوق الجدار
وغص نحو وحل الحقيقةِ
كيما تجدِّدَ
ما قوَّض الطين فيك
فهذا الزمانُ الذي برأ الذئبَ
من شبهة الدم
فوق قميصكَ
ليس زمانك
وهذا الحصان الذي لم تخنْ
برقَه المتردد
خانك
 وإخوتك اتحدوا مع قميصكَ
ضدَّ دموع أبيك
فلا تتعلق بدلو الأمانِ
الذي انتحلوه لكي يخدعوكَ
تَوَقَّ أحابيلهم
وابتكر من خيوط الهلاك
حبالك
دع قميصك للذئب
كي تنتهي عاريًا مثلما كنتَ
واهبط إلى آخر البئرِ
كي تستحقَّ جمالكْ


[ 2 - قميص الشهوة]


حين عدتُ من البئرِ
أحسستُ أني أعودُ غريبًا
كمن مسَّه
من نسيم الألوهة
برقٌ خفيفُ
يباعدني عن يدي ملاكانِ
لا يبصرانِ سوى شبحي فيهما
وتسبح صحراءُ من خجلٍ
في عروقي
ولكنني منذ أبصرتها
ضاق صدريَ بي
فأسلمتُ خوفَ أبي للذئاب
ولحيته للرياحِ
وأحسستُ أني سوايَ
وقد راح يركضُ في خرز الظهرِ
ماءٌ كفيفُ
وإذ راودتني زليخةُ
عن جنتي شفتيها
انشطرتُ
وراح الملاكان يقتتلان
على كتفيَّ الثقيلين
فيما براكين حمراءُ كانت
تمزِّقُ أقفالَها
وتهرول تحت ثيابي
وما بين كفيَ جمرٌ يطوفُ
كأن دمي ملعبٌ للوساوسِ
بعضي يحاربُ بعضي
وتشهرني
ضد نفسي السيوفُ
ليس بيني وبين زليخةَ
إلا قميصانِ من عفةٍ وتَشَهًّ،
كأن الصراع المؤبد
ما بين إبليس والله
قد ضاق
حتى غدا بحدود القميصينِ،
أيهما الآن أختارُ؟
عدتُ من لجةِ البئر
كي لا أعود إلى البئر ثانيةْ،
غيرَ أن فحيح الأنوثةِ يشتدُّ
حول خناقي
وجسمي ضعيفُ
كان لا بد أن ينقذ الله صورته فيَّ
فلما هممتُ
وهمت
تدلت مراياهُ من خشب السقفِ
حتى حسبتُ بأني أعانق نفسي
وأن زليخةَ ليست سوى
صرخةِ الإثم في داخلي
فاستدرتُ إلى الخلف
أعدو وراء جمالي
ويعدو ورائي
نباحُ الدماء المخيفُ!



[3 - قميص الرؤية ]


تدور الكواكب من دون يوسف
من دونه يتراكض آذارُ
بين الشهورِ
ليجبي شقائقه من دم الورد،
من دونه
يلطم الموجُ صومعةَ الانتظارِ
المضاءةَ في قلب يعقوب،
كان يوسفُ أعذب من نجمةٍ
تتزينُ للموت،
أطول من سروةٍ
بين نهرين،
والقمح كان يدلُّ على شعره
كلما هبَّت الريحُ
والحزنُ كان يسابقُ عينيه
نحو دموع السفرجلِ
أجمل أخوته كان
أشبههم خلقةً بنحيب الثلوجِ
على قمرٍ في حداد
لذلك خبأْتُه في حنايايَ
دثرتُه بقميص الوفاء الملون
من دونهم
كي يضلل هذا الهياج السماويَّ
عن فتنة الخلق،
قلتُ له: يا بنيَّ
ستبصرُ أشياء لم ترها العينُ،
سوف تَشُقُّ لك الأرض أحشاءها
كي ترى سوأة الطين،
والزرع يركضُ أعمى
أمام جراد النهاياتِ،
والماء يصعدُ نحو الينابيع
مرُّ المذاق،
ولن يرث العشب
عشبٌ سواه
سترى الشمس خاشعةً
والكواكب ساجدةً تحت رجليكَ
فاكتم عن الناس رؤياك
كي لا تشمَّ الذئابُ
التي تتقمصُ أرواحهمْ
ما تراه
لماذا، إذن لم يُصخْ
لصراخ المرايا التي انشقَّ عنها تورد خديه،
وانحاز للذئب
ضدَّ وصايا الإلهْ
تدور الكواكبُ من دون يوسفَ،
لا البئر عادت به
معْ خيول الشتاء
ولا الريح تحملُ
نحو أبيه الذي شاخَ
وقع خطاه ..
ولكنَّ باقة عطرٍ
تهبُّ على بيت يعقوب
حاملةً مع قميص ابنه
نجمتين اثنتين،
تصبَّان في بئر عينيه
ضوءها المشتهى
وتعيدانه من عماهْ

12/1/1995


______________
 
اقرأ أيضا :



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

النوافذ

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

قصائد من الشعر الأفريقي المعاصر