الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات

حقل قمح مع الغربان لفان جوخ



(من كتاب: الغراب: التاريخ الطبيعي والثقافي)

في مجال واسع من الثقافات الممتدة من الصينيين إلى هنود السهول، تعتبر الغربان حملة النبوءات. ومثال جيد على ذلك هو التقليد الذي يعرف أحيانًا ب "عد الغربان"، والذي يستخدم مع طيور العقعق والغربان على حد سواء للتنبؤ بالمستقبل. ويتم العد عادة عندما تبدأ الغربان بالتحليق فوق الرؤوس. وقد سجل كُتَّاب التراث الشعبي العديد من الأشعار، خاصة في بريطانيا وأمريكا، تربط عدد الغربان التي تراها بالقدر. وأحد أشهر الأشعار المتعلقة بعد الغربان يأتي من اسكتلندا :
واحد يعني الأسف
اثنان يعني المرح
ثلاثة تعني الميلاد
أربعة تعني الزفاف
خمسة تعني الفضة
ستة تعني الذهب
سبعة تعني سرًا لا يجب إفشاؤه
ثمانية تعني الجنة
تسعة تعني النار
وعشرة هي الشيطان نفسه.

تختلف رموز الأرقام كثيرًا من نسخة شعرية إلى أخرى. 

*** *** ***

في النهاية حل الطاووس محل الغراب في خدمة هيرا (ملكة آلهة الأولمب، وشقيقة زيوس وإلهة الزواج في الأساطير الإغريقية). وفي إحدى الخرافات الشعبية والتي كان أول من قصها فايدروس، أن غراب زيتون التقط بعض ريش طاووس ليزين نفسه به ثم تخلى عن جنسه وحاول الالتحاق بسرب الطواويس. 

فقامت الطيور بمهاجمته فورًا وجردته من الريش واستمرت بنقر الغراب المسكين حتى طار بعيدًا وحاول الانضمام ثانية إلى بقية الغربان ولكنهم لم يقبلوا به. 

*** *** ***

وروى أوفيد في قصيدته فاستي رواية أخرى مفادها أن إله الشمس لم يكن راضيًا عن خادمه الغراب. وبينما أبولو يحضر لوليمة من إجل جوبيتر، أرسل الإله غرابًا ليحضر الماء من الينبوع، وأخذ الغراب دلوًا وطار في الهواء ولكنه لمح شجرة تين محملة بالثمار فهبط الغراب وتذوق التين ووجد أن الثمار ليست ناضجة بعد فجلس هناك حتى نضجت ثمار التين وأكل حتى شبع ثم فكر بواجبه نحو الإله. والتقط ثعبان ما، وطار عائدًا إلى أبولو وقال إن الثعبان اعترض مسار الجدول. واكتشف أبولو الكذبة وأعلن أنه على الغراب ألا يشرب من ماء الينبوع حتى تنضج ثمار التين على الأشجار ولهذا تتخاطب الغربان بصوت خشن من العطش. ثم قام أبولو بوضع الغراب والدلو والأفعى في دائرة البروج ليُذكر الناس بحماقة الغراب. 

*** *** ***

وفي نسخة بديلة لقصة كورونيس أعاد روايتها أوفيد في كتابه التحولات جعلها فتاة شابة جميلة لها العديد من الخاطبين ثم رآها إله البحر وافتتن بها ولكنها رفضت محاولاته التقرب منها. وعندما بدأ الإله بملاحقتها تضرعت الحسناء إلى منيرفا نظيرة أثينا الرومانية وفجأة وجدت الفتاة نفسها ترتفع فوق الأرض، فقد حولتها الإلهة إلى غراب. 

*** *** ***

وفي الكوميديا التي كتبها أرسطوفانيس بعنوان الطيور تستخدم إحدى الشخصيات عبارة "ليكن مصيرك إلى الغربان!". وهذه العبارة هي أصل اللعنة المشهورة "ليكن مصيرك إلى الكلاب!" والتي كان لها في مضى معنى أكبر مما تحمله اليوم. فقد كانت تعني الموت وحيدًا حتى تلتهم الكلبيات والغربان جثث هؤلاء الذين لم يدفنوا فورًا. 


*** *** ***
شاهد قبر إدجار آلان بو


ومع ذلك كانت لغة الكتاب مجازية وملونة أكثر بكثير من العلماء المعاصرين، حيث فكر أرسطو بالفصائل المختلفة على أنها حلفاء وأعداء كما يفكر بالممالك البشرية. ولاحظ أرسطو أن الغراب كان صديقًا للبلشون (مالك الحزين) ولكنه عدو للبوم، حيث أن الغراب يأكل بيوض البوم في وضح النهار عندما لا يستطيع البوم الرؤية بوضوح بينما يقوم البوم بأكل بيوض الغراب في الليل. أكد علماء الطيور المعاصرون أن الغربان والبوم تهاجم بعضها بعضًا، ولكن الوصف المبالغ فيه والذي استعمله أرسطو سيلهم لاحقًا رواة الحكايات مثل إلهامه للعلماء على حد سواء. 

أحيانًا كان الرومان يفكرون في الحيوانات بما فيها الغرابيات بكثير من الوله، وكتب بليني "دعونا نقدم الامتنان الواجب للغربان" ومضى في حكاية الغراب الذي فقس على سطح معبد مكرس لكاستور وبولو. وطار إلى دكان إسكافي حيث رحب صاحب الدكان بالطير على أنه مبعوث من الآلهة. وخلال حياته بين البشر بدأ الغراب بالتحدث مثلهم وكان يطير كل يوم إلى المنتدى ويحيي الامبراطور ييبريوس باسمه، ثم يحيي قادة جيشه والعامة من الحضور. وأصبح الدكان الذي كان الغراب يعيش فيه مشهورًا جدًا حتى أن مالك دكان منافس قتل الطائر في غمرة غضبه، فقتل المواطنون الثائرون المالك وأقاموا للغراب جنازة مهيبة حضرها حشد كبير تقدمهم عازف ناي وحمل عبيد بحزن النعش المغطى على أكتافهم. 

*** *** ***

وبينما امتص الرومان حضارات الشعوب التي قهروها ازداد تنوع وتعقيد التراث الشعبي الخاص بالحيوانات مثل الغربان. وقص بيليني حكاية رجل اسمه كراتس مونويسوس ذهب إلى الغابات والغربان تجثم على كتفيه وقمة خوذته، وهي الطيور التي كانت تستخدم في الصيد (كالصقور). وذكر الروماني المثقف أن روح رجل يدعى أريستياس شوهدت تطير خارجة من فمه على هيئة غراب أثناء نومه. 

كانت الغربان في الديانة الفارسية القديمة تعتبر تجسيدًا لإله المعارك المظفرة، فيريثراغانا، وكان ريش الغربان تمائم شائعة. وأصبحت أخوية "الغربان" أو الشعائر الاستهلالية السبعة في ديانة ميثراس، التي نشأت أصلا في بلاد فارس، وكانت شائعة بشكل خاص بين الجنود وأصبحت المنافس الرئيسي للمسيحية في القرون الأخيرة للإمبراطورية الرومانية. وكان ميثراس يعرف باسم (الشمس التي لا تقهر) وكان يرتبط بأبولو على نطاق واسع. فقد كان ميثراس يشترك مع الإله الشمسي الإغريقي – الروماني في صلته بالغربان. وفي الطقوس السرية، كان الناس يتنكرون بهيئة الغربان والأسود ويرقصون حول مذبح تحت الأرض. 

*** *** ***

(العصور الوسطى وعصر النهضة في أوروبا)
 
ذكر المؤرخ الروماني ليفي، والذي ينحدر من سلالة الست، أن رجلا غاليًا ضخمًا دخل إلى معسكر الجيش الروماني وتحدى أي رجل ليلاقيه في معركة منفردة. وقد هال حجم الغريب وجسارته أغلب الجنود، ولكن شابًا من التريبون يدعى ماركوس فاليروس قبل التحدي. 

وبينما كان القتال على وشك أن يبدأ حط غراب على خوذة فاليروس ونظر نحو الغالي. وعندما أصبح المتنافسان داخل مدى المبارزة، نهض الغراب وهاجم الغالي، وضربه بجناحيه ومزقه بمخالبه وأثار في نفسه الفزع. وسرعان ما قُتل المتحدي وطار الغراب نحو الشرق. وانتعش الرومانيون وفازوا بالمعركة الناشبة حيث أنهم كانوا مقتنعين أن آلهة ما قد أرسلت الطائر. وحمل الريبون اسم فاليروس كورفوس أي "فاليروس الغراب".

*** *** ***

تصنف الغربان والفيلة بين الحيوانات القليلة التي غالبًا ما يبدو أن لديها حسًا بالفكاهة يتعارض مع ريشها الداكن. ومن الطبيعي أن تكون الغربان من أكثر الحيوانات تعقيدًا وإثارة للاهتمام في هذه الحكايات النابضة بالحيوية. ففي القصص الملحمية للفايكنج والسلت والساكسون تكمن الغربان والغربان السوداء تقريبًا بشكل دائم في مكان ما في الخلفية وتُسمع نداءاتها المشؤومة في اللحظات المهمة. 

ارتبط الغراب أو الغراب الأسود بشكل خاص بأودين، الإله الأسمى لدى الفايكنج، والذي يدعى في بعض الأحيان بلقب (ملك الغربان)، وكان له غرابان يجثمان على كتفيه ويدعيان (هوغين) أي الفكر و (مونين) أي الذاكرة. في قصيدة حكايات جريمنير من الشعر الشمالي إيدا، يقوم إودين بزيارة ملك القوط جيرود متنكرًا بقناع أزرق، وذلك ليختبر ما عُرف عن الملك من استهزاء بقوانين الضيافة. فاعتقل الملك جيرود أودين وعلقه على شجرة بين نارين وبينما كان يُعذب، أخبر أودين عن الجنة والأرض، وقال: 

هوغين ومونين يطيران كل يوم
فوق العالم الواسع،
وأخشى ألا يعود هوغين
ولكني أقلق أكثر على مونين.

حيث يُمنح المعذَب حق الوصول إلى المعرفة السرية. وقد يكون أودين إله السحر والحرب، شامانا في الأصل، في حين أن الغربان والذئاب التي ترافقه قد تكون مساعديه من الحيوانات. 

أصبحت الغربان طيورًا مشؤومة لدى الفايكنج، ربما أكثر من اليونانيين والرومان، حيث أن نعيب غراب أمام منزل قد يتنبأ بموت رب المنزل، وأصبح الغراب ذو الجناحين المبسوطين مقياسًا لقادة الفايكنج الذاهبين إلى المعركة. وتقص ملحمة فلوكي من القرون الوسطى كيف اكتشف أحد البحارة أيسلندا عبر إطلاق غراب والإبحار خلفه. 

كان للغربان والغربان السوداء أهمية مماثلة لدى السلت الأوائل. كان لوغ، ويعني اسمه (الشخص المشرق)، هو إله النور عند السلت. ويرتبط الاسم بالكلمة الغولية لوغوس التي تعني الغراب الأسود، مما يوحي أنه في إحدى المراحل، قد يكون لوغ ملك الغربان، شأنه شأن أودين، وهو أيضًا يتشارك مع أودين الصلة بالمعارك والشعوذة. وفي الكتاب الأيرلندي (كتاب الغزوات) Book of Invasions  تقوم الغربان بتحذير لوغ باقتراب أعدائه الفورميان. والاسم الأصلى لمدينة ليون هو لوغدينوم ويعني تل الغربان، وسميت هكذا لأن تحليق الغربان هو ما أرشد المستوطنين الأصليين إلى المكان الذي بنوها فيه.
ولكن وبشكل عام، صوَّر السلت الغربان والغربان السوداء على أنها مخلوقات من العالم السفلي أكثر منها مخلوقات تطير تحت الشمس وقد تم العثور على الكثير من الغربان التي دفنها السلت في حفر في العصر الحديدي، وأحدعل في إنكلترا في وينكليبوري،  ويلشاير، وكان موضوعًا بشكل متعمد في قاع الحفرة وأجنحته منبسطة، مما يوحي أنه قد يكون جزءًا من شعائر أضحية. 

*** *** ***

وكما رأينا من قبل فقد فهم الرومانيون نداء الغربان على أنه كلمة (كراس Crass) والتي تعني الغد، وأصبح هذا النداء يُفهم على أنه تذكير بالموت قرب نهاية العصور الوسطى عندما اجتاحت الأوبئة الخبيثة والحروب الضارية أوروبا. في الوقت نفسه، كان هذا النداء رمزًا للمماطلة وغالبًا ما يكون المقصود هو الشخص الذي يؤجل برضاه التصالح مع الرب، وهو لا يعي أنه يمكن أن يموت في أية لحظة. ومع انتعاش المعرفة الوثنية في عصر النهضة أصبح الغراب بحسب الأسطورة اليونانية التي كان هزيود أول من ذكرها، رمزًا للفتاة باندورا والتي قامت بفتح صندوق يحتوي شرور العالم جميعها.

وعندما لاحظت ما حدث أغلقت غطاء الصندوق ولكن الأمل وحده بقي في القاع. وفي الوقت الذي بدأ فيه التشاؤم المتطرف في أواخر العصور الوسطى وبدايات عصر النهضة بإفساح الطريق أمام هدف التطور، وتغيرت نظرة الناس نحو الفتاة باندورا فأصبحت رمزًا للخطأ البشري وبشكل أقل رمزًا للذنب. وبدا صدى الغراب (كراس Crass) (أو الغد) أكثر تفاؤلا، ورسم الفنانون في بعض الأحيان الغراب على الصندوق أو على كتف باندورا. 

ما يزال ارتباط الغربان بالفناء يرافقنا في المصطلح (أقدام الغراب) والتي تعني خطوط الشيخوخة حول العينين. ولعل هذا المصطلح يعود إلى استخدام أقدام الغربان في التعاويذ السحرية. وينعكس ارتباط الغربان بالنبوءات في المصطلح (عش الغراب) والذي يعني برج المراقبة قرب قمة سارية السفينة. ويعود المصطلح جزئيًا إلى عادة الغراب بناء عشه قرب قمة الشجرة، وعلى اعتبار أن البحار المناوب في عش الغراب يسعى لرؤية الأرض أو السفن البعيدة، فهو يشبه المستبصر (الغراب) قليلا.
    
*** *** ***

وفي بريطانيا، عاش الاحترام الطوطمي للغرابيات أكثر من أي قسم آخر في أوروبا، على الرغم من أنه قد تجرد من محتواه الأسطوري الأصلي. وذكر بيير بيلون في كتابه "التاريخ الطبيعي للطيور" (والذي نشر لأول مرة في 1555) أنه يمنع في انكلترا تحت طائلة غرامة كبيرة إيقاع أي نوع من الأذى بالغربان. وكان السبب الذي قدمه بيلون أنه إذا لم تقم الغربان باستهلاك الجيف فستتحلل اللحوم وتسمم الهواء. ونستطيع أن نقول أنه سبب بيئي ولكن الإنكليز فكروا فيه بطريقة عملية جدًا. وكانوا واعين بالفطرة للعلاقة بين اللحوم المتحللة والأمراض ولكنهم كانوا يرغبون وقبل كل شيء تجنب الروائح والمشاهد المؤذية.

وبعد نصف قرن من بيلون، قدم ميغل دي سيرفانتس الإسباني تفسيرًا آخر للحظر الذي فرضه الإنكليز على قتل الغربان في روايته الرائعة دون كيشوت حيث قدم البطل تفسيرًا مفاده أن الملك البريطاني آرثر تحول إلى غراب وبقي قومه في انتظار عودته، وهم لن يقوموا بقتل غراب خوفًا من أن يكون هو الملك الأسطوري. وأكد كتاب التراث الشعبي أن هذا الاعتقاد ساد في ويلز وكورونيل على الأقل حتى العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر. في بعض روايات الأسطورة تحول الملك إلى غراب أعصم، وتعكس القصة في الغالب التبجيل الدائم للغراب كحيوان طوطمي. 

وكان هناك نوع غريب من التطابق في الأدب الشعبي للعصور الوسطى وعصر النهضة بين رمزية المقدس والمدنس، وفي الكثير من الأحيان قد يرمز الشيء أو المخلوق نفسه إلى كلا الصفتين. وبالتالي فإن التفاحة هي رمز السقوط عندما تصبح في يد حواء، ولكنها في يد مريم (حواء جديدة) أصبحت رمزًا للخلاص. وبطريقة مشابهة، قد يمثل الغراب الدرجة القصوى للخير أو الشر، بالاعتماد على المحتوى الذي يظهر فيه. ففي حضرة القديس فينسينت، كان الغراب مبعوثًا من الرب، ولكنه عندما يرافق مشعوذة يكون رسول الشيطان. 

*** *** ***

وذكر الأخوان جريم في مجموعتهم من الأساطير الألمانية أن رجلا وامرأة من لوتيش أعدما في عام 1610 لتجولهما في هيئة ذئبين، في حين رافقهما ابنهما ذو الاثني عشر عامًا في هيئة غراب. وقالت أسوبل غوودي وهي امرأة اسكوتلندية اعترفت بممارسة الشعوذة في عام 1662 إن الغربان كانت الهيئة المفضلة لدى الساحرات عندما يتجولن في الليل. 

وعلى أي حال، فإن مرافقي الساحرات كانوا في العادة حيوانات أصغر من الغربان. وحكي ويليام من مالميسبوري عن ساحرة إنجليزية في بيركلي واسمها جلوسيستيرشير، أن غراب الزيتون كان رفيقها المفضل، وهو طائر تبدو نداءاته وكأنها تقليد لإيقاع الكلام البشري غالبًا. 

*** *** ***

(آسيا)

ويقول اليابانيون مثلا إنَّ البطل جيمو تينو كان يتجول باحثًا عن مكان ليؤسس فيه مملكته عندما لمح غرابًا أرسلته إلهة الشمس أميراتسو وتبعه إلى ياموتو حيث استقر هنالك في عام 660 ق. م ليصبح جد جميع أباطرة اليابان. 

وتحكي قصة النبَّال يي YI، وهو أحد أشهر الشخصيات في الأساطير الصينية عن العلاقة الحميمية بين الغربان والشمس، حيث عاشت عشر شموس في شجرة التوت السماوية خلف المحيط وهذه الشموس كانت أطفال تيايانغ ديجون ملك السماء وإكسي إلهة الشمس، وفي كل يوم كان أحد الأطفال يصعد في السماء. وفي أحد الأيام تمردت هذه الشموس على أوامر السماء وظهرت جميعًا في السماء في وقت واحد، فاحترقت المحاصيل وجفت البحار حتى أن أنهار الجليد ذابت. وتضرع الإمبراطور الكونفوشيسي الأسطوري ياو إلى تيايانغ ديجون طالبًا المساعدة، وأرسل الإله يي  مع أسهمه ليخيف الشموس ويعيدها إلى شجرتها، ولكن يي قرر أنه ليس لديه خيار سوى إصابة الشموس، ومع كل سهم أطلقه كانت تظهر كرة نارية كبيرة في السماء ويسقط غراب بثلاثة أرجل على الأرض. وشعر الإمبراطور ياو بالخوف، فإن لم يتوقف يي فسيبقى العالم حبيس الظلمة إلى الأبد، وقام بسرقة أحد السهام من جعبة الرامي وهكذا تم الحفاظ على الشمس الأخيرة. ويصور النحاتون الصينيون في عهد سلالة هان الحاكمة غرابًا بثلاث أرجل في الشمس، وترمز الأرجل الثلاث إلى الفجر والظهر والغسق. 

Crow on a Snowy Plum Branch
By: Kawanabe Kyosai


وفي الصين، كما في أغلب بقاع العالم، احتلت الغربان أهمية كبيرة في الأساطير العالمية كما في الأساطير المحلية على الأقل. وتدور إحدى القصص الساحرة حول رجل أصبح غرابًا  وهي من المجموعة القصصية المعروفة باسم قصص غريبة من استوديو الصين والتي كتبت في القرن السابع عشر وتنسب إلى ياو سونغ لينغ. وهي تحكي قصة شاب من عائلة فقيرة يدعى يي جونج من مقاطعة هونان، وقد فشل في اجتياز امتحاناته وشعر باليأس، فتوقف للصلاة في معبد وو وانغ إله الغربان الطاوي. وكاد الشاب أن يجلس ليستريح عندما جاء خادم وقاده إلى حضرة وو يانغ بنفسه. وبناء على أوامر الملك مُنح الطالب المسكين ثوبًا أسود، عندما ارتداه تحول إلى غراب. وتزوج من غراب أنثى تُدعى شو شيينغ ومعًا وبرفقة آخرين من سربهما كان يلتقط الكعك وبقايا اللحم التي يلقيها البحارة من أجل الحظ. ومع ذلك لم يتمكن الشاب من العمل بنصائح زوجته واقترب من البشر مغامرًا فأصابه سهم جندي في صدره. وفجأة عُثر على يي جونغ نفسه في هيئته البشرية وهو يتمدد مصابًا على أرض المعبد. ولدى شفائه لم ينس حياته كغراب مع شو سيينغ وعاد للتعبد في المعبد، والتضرع لوو وانغ وترك طعامًا للغربان. ولاحقًا وبعد أن اجتاز يي جونغ امتحاناته قدَّم خروفًا كأضحية مما جلب سربًا من الطيور وكانت شو شيينغ من بينهم والتي أصبحت روحًا للنهر. وأعادت الثوب الأسود لزوجها وأخبرته أنه لو رغب في رؤيتها فكل ما عليه هو ارتداء الثوب الأسود والتحليق إلى منزلها. 

وفي الملحمة الشعرية الهندية القديمة رامايانا يتخذ ياما إله الموت شكل غراب ليختبئ من الشيطان رافانا. ولدى عودته إلى شكله الحقيقي، يبارك ياما الغراب قائلا إن هذا الطائر لن يموت أو يشيخ أو يمرض أبدًا ولكن مع ذلك يمكن أن يُقتل. وبسبب هذه المباركة تأكل الغربان قبل البشر حتى في أوقات المجاعات القاسية. وبعض الهندوس يتركون طعامًا للغربان كتقدمة لياما على أمل أن يكون رحيمًا مع أصدقائهم أو عائلاتهم الراحلين. ولكن الغراب في الهندوسية لا ينسب إلى ياما فقط، بل أيضًا إلى فارونا ملك السموات الرحيم.
قد يكون البوم مشهورًا بالحكمة في التراث الشعبي الغربي ولكن في الهند فإن هذا الشرف يعود للغراب. وفي كلا المعتقدين فإن الغربان والبوم تقتتل فيما بينها في حرب ملحمية، قد تمثل الصراع بين النهار والليل. 

*** *** ***

(ثقافة سكان أمريكا الأصليين (الهنود الحمر))

كان للغراب شهرة واسعة في معرفة النبوءات بين الأنويت (الإسكيمو) كما هو الحال في أوروبا وآسيا، حيث يقوم الأنويت (الإسكيمو) في بعض الأحيان بالاحتفاظ بمخلب غراب كتميمة (طلسم) ليساعدهم في البحث عن الطعام، على اعتبار أن الغربان تظهر دائمًا عندما يُقتل حيوان أو إنسان.

في بعض الأحيان ولدى رؤيتهم للغربان تحلق فوق رؤوسهم كانوا ينادون عليهم متسائلين ما إذا رأت أيلا (غزالة الرنة) أو دبًّا. كانوا يعتقدون (وفي الأغلب أنهم ما زالوا) أن الغربان ستحني أحد جناحيها لترشدهم إلى حيث الطريدة. ويقول الأنويت (الإسكيمو) أنه غالبًا ما يُرى غراب يطير فوق كوخ الشامان عندما تغادر روحه جسده لتبدأ التحليق. 

*** *** ***

كانت سرقة الغراب لنور العالم من أشهر مآثره، وهي قصة تحكى بروايات عديدة بين قبائل الساحل الشمالي الغربي. يورد هنود تسيمشان أن الغراب قام بنثر السمك والفواكه على طول العالم حتى يجد دائمًا ما يأكله، ولكنه خشى أن يكون العثور علي هذا الطعام صعبًا، حيث أن العالم كان ما يزال يعيش في الظلام. فطار الغراب من خلال فتحة في السماء حيث عثر على عالم يشبه عالمنا كثيرًا. وأتت ابنة زعيم الجنة لتغرف بعض الماء من الجدول، وحول الغراب نفسه إلى هيئة ورقة إبرية من شجرة أرز وطفا إلى دلوها، وعندما شربت الأميرة الماء دخل الغراب إلى جسدها وأصبحت حاملا وولدت الغراب في هيئة صبي صغير. افتتن الزعيم وزوجته بالطفل الرضيع وسمحا له باللعب بالصندوق الذي يحتوي على ضوء النهار. وفجأة فر الغراب هاربًا وهو يحمل الصندوق واستعاد هيئته الأصلية وطار عائدًا إلى الأرض عبر الفتحة في السماء. وفيما بعد، كسر الغراب الصندوق في فورة غضب، وامتلأت السماء بالشمس والقمر والنجوم. 

قد يذكرنا تعقيد وغموض وتغيرات الهيئة المتكررة التي يقوم بها الغراب في قصص سكان أمريكا الأصليين في الساحل الشمالي الغربي بالعديد من آلهة العالم القديم، حيث يشبه الغراب قليلا الإله دينوزيوس اليوناني والإله النرويجي لوكي أو الإله سيفا الهندوسي على الرغم من أنه أقل تجسدًا بكثير من أي منهم. وبسبب حيويته المفرطة يمكن أن يكون شخصية يصعب الارتباط بها، على الأقل بالنسبة لغير الأعضاء في الثقافات القبلية لتابعيه. ويمكن أن تصبح الحكايات معقدة جدًا لدرجة أن شخصية الغراب تغدو مبدأً تجريديًا  أكثر منها حيوانًا. وفي الحقيقة قد تشبه نوعًا ما القصص التي يرويها علماء الكونيات المعاصرون حول القوى البدائية أو الجسيمات في بداية الكون. 

*** *** ***

ووفقًا لإحدى الأساطير لدى هنود ليناب في بنسلفانيا فإنه كان للغراب ريش ملون ساطع رخيم. وعندما بدأ الثلج يغطي العالم للمرة الأولى، تم إرسال الغراب كمبعوث إلى الخالق، ولكنه كان مشغولا جدًا ولم يلق انتباهًا إلى ضيفه غراب قوس قزح كما كان يُدعى. واستطاع الغراب جذب انتباهه بأغنية جميلة، فأخبر الخالق الغراب أنه لا يمكن إيقاف الثلج ولكنه أعطاه شعلة من الشمس فحملها الغراب عائدًا إلى الأرض حيث أنقذت الحيوانات بفعل الدفء الصادر منها. 

ولكن للأسف بسبب إحضاره لتلك الشعلة، احترق الغراب حتى تحول ريشه إلى اللون الأسود وأصبح صوته أجشًا. وتقديرًا لبطولته تلك، جُنب الغراب سيطرة البشر، وما تزال نداءاته تحذر الحيوانات بوجود خطر في الغابات، وما يزال من الممكن رؤية ألوان قوس قزح من ريش الغراب القاتم عند النظر بدقة. 

*** *** ***

فمثلا يورد أحد الكتب التي صدرت مؤخرًا عن علم التنجيم لدى الهنود الحمر أن: ( الأشخاص من طالع الغراب هم أفراد استثنائيون بشكلٍ خاص فهم يتصرفون كمحفز طبيعي للتغيير في حياة الآخرين. ولتحقيق ذلك فإنهم دبلوماسيون ويظهرون اهتمامًا واحترامًا كبيرين لبني جنسهم من البشر، ولكن يتوجب الحذر فإن الأشخاص من طالع الغراب يميلون للشعور بالاكتئاب إذا ما حرموا من التواصل الاجتماع). 
 
مقاطع من كتاب: 

الغراب: التاريخ الطبيعي والثقافي
بوريا ساكس
ترجمة: ايزميرالدا حميدان
كلمة، أبو ظبي 
 _________

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

مقتطفات عن أينشتاين

ما هو الفن الطليعي؟ (Avant Garde)