العسكري الأسود
إعادة قراءة يوسف إدريس هذه الأيام كانت مصادفة مفيدة للغاية لي، فيوسف إدريس كأديب اهتم وحلل الواقع السياسي والاجتماعي بحس عميق وممتع في مجمل أعماله حتى أني وجدت أن الحديث عن بعض روايته التي قرأتها له في الأسبوع الماضي أمرًا مهما.
يسير السرد في هذه الرواية في خط رئيسي واحد –لا نجد فيه التنوع والتشابك في الشخصيات الموجودة في كثير من روايات محفوظ مثلا- لكنه يرسم الشخصية ببراعة ويحملها برؤية عميقة وواضحة للمجتمع يمكن الخروج منها بعد قراءة الرواية.
شوقي وعباس هما شخصيتا الرواية الرئيستان اللتان التقتا في ماضٍ يعرف عنه الرواي الطبيب زميل شوقي المزيد مع تطور الأحداث.
في الصفحات الأولى للرواية يقول التومرجي واصفًا حالة طبية وقع نظره على الملف الخاص بصاحبها "دا خلاص يا بيه الراجل بقى يهبهب زي الكلاب ويعوي زي الديابة. حسبتها أول الأمر إحدى مبالغاته ومبالغات عبد الله التومرجي كانت شيئًا مشهورًا في المكتب" ليعود من هذا المشهد بعد سطور قليلة إلى الماضي: "كنت وشوقي شابين من شباب الجيل الذي اصطلحوا على تسميته بالجيل الحائر. صديقين بلا سبب يدعونا للصداقة، أو حتى الانتساب إلى جيل واحد، تفتقت عنا الحرب العالمية الثانية لنجد أنفسنا هكذا زملاء كلية أو جامعة واحدة، بنزعات سياسية وأراء في الناس والحياة لا يمكن أن يربط بينها رابط، ومع هذا كنا أصدقاء لا لأننا كنا هازلين في خلافاتنا إذ الحقيقة أننا كنا فيها أكثر من جادين، وتمسك كل منا برأيه ووجهة نظره كان يصل أحيانا إلى حد ارتكاب الجريمة. ربما السبب في الصداقة المهيمنة الكبيرة أننا كنا جميعا نؤمن – رغم اختلاف طرقنا ووسائلنا- أن لنا رسالة واحدة نحن مبعوثوا العناية لتحقيقها .. إنقاذ بلادنا وتغيير مصير شعبنا".
في الصفحات الأولى للرواية يقول التومرجي واصفًا حالة طبية وقع نظره على الملف الخاص بصاحبها "دا خلاص يا بيه الراجل بقى يهبهب زي الكلاب ويعوي زي الديابة. حسبتها أول الأمر إحدى مبالغاته ومبالغات عبد الله التومرجي كانت شيئًا مشهورًا في المكتب" ليعود من هذا المشهد بعد سطور قليلة إلى الماضي: "كنت وشوقي شابين من شباب الجيل الذي اصطلحوا على تسميته بالجيل الحائر. صديقين بلا سبب يدعونا للصداقة، أو حتى الانتساب إلى جيل واحد، تفتقت عنا الحرب العالمية الثانية لنجد أنفسنا هكذا زملاء كلية أو جامعة واحدة، بنزعات سياسية وأراء في الناس والحياة لا يمكن أن يربط بينها رابط، ومع هذا كنا أصدقاء لا لأننا كنا هازلين في خلافاتنا إذ الحقيقة أننا كنا فيها أكثر من جادين، وتمسك كل منا برأيه ووجهة نظره كان يصل أحيانا إلى حد ارتكاب الجريمة. ربما السبب في الصداقة المهيمنة الكبيرة أننا كنا جميعا نؤمن – رغم اختلاف طرقنا ووسائلنا- أن لنا رسالة واحدة نحن مبعوثوا العناية لتحقيقها .. إنقاذ بلادنا وتغيير مصير شعبنا".
اللقاء الذي تم في بداية الرواية عند قدوم شوقي كزميل جديد للرواي في العمل يشهد التعرف على شوقي يختلف كثيرًا عن شوقي القديم الذي عرفه الرواي، شوقي آخر ينتقل الراوي في فهمه وتحليله مع تعمق الحوارات بينهما من مستوى لمستوى، شوقي انطفأ حماسه ولمعة عينيه التي كانت، ينتقل الرواي بين الحاضر والماضي ليصل إلى حادثة مركزية في هذا التغير الكبيرحادثة اعتقاله.
أما الرجل الذي كان "خلاص بقى بيهبهب زي الكلاب" والذي لم يلتفت شوقي لملفه في البداية إلا بعد أن أخبره عبد الله التومرجي أن عباس صاحب هذا الدوسيه هو نفسه العسكري الأسود، الاسم الذي انتشر كأسطورة بين الناس، والذي يذكر عبد الله كيف وصل إلى مرحلة كان له فيها نفوذ يفوق نفوذ كثير من ضباط الشرطة، نظرًا لقربه من مسؤولين مهمين كانوا معجبين به. الرجل الذي أشار ملفه كما أشارت حكايات عبد الله إلى بدايته المتواضعة كعسكري ثائر مزعج، لا يرضي رؤساءه، ووجهوا له كثير من الإنذارات والجزاءات إلى أن يتم نقله إلى البوليس السياسي، ليعلو نجمه ويصبح أسطورة، فهو عباس قروي الأصل اشتهر في قريته بقوته وباعتدال قامته في القرية قبل أن يتحول إلى عسكري.
يروي عنه عبد الله حكايات تكاد تكون أسطورية، يقول: " والله بعيني دي مرة شفته قفلوا عليه الأوضة اللي ف الدور الثاني بتاع المحافظة اللي قصاد المكتب الطبي على طول هو وواحد من السياسيين، وقعد يضرب فيه من صباحة ربنا والجدع يقول أي! ولا هو سائل فيه ولغاية ما روحنا احنا الساعة خمسة وشرفك سبناه بيضرب فيه.
بطل الكلام دا يا عبد الله البيت فين، كان القائل هو شوقي"، وشوقي يصرح بعد قليل " إنت عارف مين اللي كان بيضربه العسكري الأسود في المحافظة ده من الصبح للمغرب؟ عارف مين؟ ... كنت أنا"
مشاهدة عباس المريض المصاب بحالة غريبة كانت هي الجانب الآخر من الجدلية التي تطرحها الرواية، وهي جدلية تعبر فيه الرواية عن الأثر الأليم والمشوِّه للتعذيب على طرفي العملية المُعذِّب والمعذَّب. " أصبح البقاء أمرًا لا يتحمله عقل، وقطعة من لحم عباس بين أسنانه [عباس] ودماؤه تكاد تصبغ كل ما تقع عليه العين، سمعت المرأة تمصمص بشفتيها وتهمس للواقفة بجوارها: لحم الناس يا بنتي .. اللي يدوقه ما يسلاه.. يفضل يعض انشالله ما يلقاش إلا لحمه .. الطف بعبيدك يا رب" الرواية تنتهي باقتناع الرواي بعدم قدرته على إعادة شوقي القديم الذي كان يعتقد طول الرواية أنه قادر على إعادته، فشوقي: "قد خرج ليحيا بدافع جديد تماما عن الجنس البشري .. فهو لا يحيا ليتكاثر أو يتطور، وإنما دافعه للحياة كان أن يهرب ويفر ... ما أغربه من كائن فقد أمنه البشري وكأنما عقره كلب من نفس الجنس، وخيل إليه أنه أفلت نفذ بجلده من العقرة الأولى فجند نفسه وحياته كي يتعافى من العقرة الثانية، وأصبح لا يرى في البشر غير قطيع من ذئاب أو كلاب أو شياطين لا يستطيع أن يهرب من أرضها إلى كوكب آخر، أو يعتزلها في جزيرة نائية". أما الجيل الذي كان يريدُ أن يغير العالم فقد شوهته دولة شمولية متوحشة، يرفضُ عسكرها أن ينتقدهم أو يخالفهم أحد.
الرواية ليست الأفضل بالضرورة، بل قد أتشكك حول تصنيفها كرواية بدلا من تصنيفها كقصة طويلة مثلا، لكنها جيدة بالتأكيد، وهي تحمل سمات سرد إدريس الممتع في لغته وفي وصفه للأحداث والأماكن والشخصيات. وهي تحلل مشكلة ساخنة في الوقت الحالي ولهذا - كما قلت- اهتممت بعرضها هنا الآن.
اقرأ أيضًا: حوار قديم مع يوسف إدريس
تسلم ايديك
ردحذفرااااااااائع
ردحذفممكن شرح ماهو التومرجي والنوبتجي
ردحذفالتمرجي ... مهنة من المهن المساعدة في المجال الطبي، يساعد في خدمة المرضى والتعامل معاهم ... مختلف عن الممرض اللي بيكون دارس
حذفالنوبتجي .. بتختلف حسب السياق ... بس هو اللي بيشتغل بالليل .. أوقات بتتكتب نبطشي أو نوبتجي... الدكتور النبطشي هو المكلف بالتواجد خلال فترة الليل في الوقت دا ...
ممكن شرح ماهو التومرجي والنوبتجي
ردحذف