شجاعة الإبداع: اقتباسات

Rollo May
روللو ماي

 بقلم: روللو ماي
ترجمة: فؤاد كامل

لن تكون الشجاعة في مضاد اليأس، وإن كنا سنواجه اليأس في كثير من الأحيان، كما واجهه حقًا كل شخص على شيء من الحساسية في هذه البلاد خلال العقود الأخيرة ومنذ ذلك الحين أعلن كيركجور ونيتشة وكامو وسارتر أن الشجاعة ليست غياب اليأس، وإنما هي بالأحرى القدرة على التحرك قدمًا مع اليأس.

كذلك لا تتطلب الشجاعة مجرد العناد فمن المؤكد أننا سنبدع بالتعاون مع آخرين. ولكنك إن لم تعبر عن أفكارك القديمة الخاصة، ولم تنصت لوجودك الخاص، فإنك سوف تخون نفسك، بل ستخون مجتمعنا إذ تفشل في إسهامك في المجموع.

ومن الصفات الرئيسة لهذه الشجاعة أنها تقتضي تمركزًا داخل وجودنا الخاص، وبدونه نشعر بأننا مجرد فراغ. هذا الخواء الداخلي يناظر اللامبالاة في الخارج، وهذه اللامبالاة تدعم الجبن على المدى الطويل، ولهذا ينبغي علينا دائمًا أن نؤسس التزامنا في المركز من وجودنا الخاص، وإلا لن يكون ثمة التزام حقيقي في نهاية الأمر. 
  
*** *** ***

النوع الثالث من أنواع الشجاعة هو عكس التعاطف الذي وصفناه من فورنا وأنا أطلق عليه اسم "الشجاعة الاجتماعية". وهي القدرة على المخاطرة بالنفس أملا في تحقيق حميمية Intimacy ذات معنى. وهي شجاعة استثمار الذات فترة من الزمن في علاقة تقتضي "انفتاحية" أو مكاشفة آخذة في الازدياد. والعلاقة الحميمية تتطلب الشجاعة لأن المخاطرة فيها شيء لا مهرب منه إذ لا نستطيع في بداية الأمر أن نعرف كيف ستؤثر فينا هذه العلاقة. فهي كالمزيج الكيميائي إذ تغير أحدنا تغيرنا نحن الاثنين، هل ننمو فيها إلى نوع من التحقق الذاتي، أم أنها ستحطمنا معًا؟ شيء واحد نستطيع أن نكون على يقين منه وهو أننا لو أسلمنا أنفسنا تمامًا لهذه العلاقة في الخير والشر فإننا لن نخرج منها دون تأثير. 
 
*** *** ***

وتتطلب الشجاعة الاجتماعية مواجهة صنفين مختلفين من الخوف وهذان الخوفان يصفهما واحد من المحللين النفسيين الأوائل هو أوتو رانك Otto Rank وصفًا جميلا، فيسمي الخوف الأول "خوف الحياة"، وهذا هو الخوف من أن يعيش المرء وحيدًا مهجورًا، ويتمثل في الحاجة إلى الاعتماد على شخص آخر. ويكشف هذا الخوف عن نفسه في الحاجة إلى أن يلقي المرء بنفسه تمامًا في علاقة بحيث لا يبقى من نفسه شيء يرتبط به، والواقع أن هذا الإنسان يصبح إنعكاسًا للشخص الذي يحبه – أو يحبها – بحيث تصبح هذه العلاقة – إن عاجلا أو آجلا – مدعاه للضجر في نظر الشريك. وهذا هو خوف تحقق الذات كما يصفه "رانك". ولما كان "رانك" قد عاش أربعين عامًا قبل أيام تحرير المرأة ، فقد تنبأ بأن هذا الصنف من الخوف هو من أكثر السمات تمييزًا للنساء.

أما الخوف المضاد فيسميه رانك "خوف الموت" وهذا هو الخوف الذي [لا] يجعلنا مستغرقين كلية في الآخر خوف خسران الذات واستقلالها، خوف انتزاع اعتماد المرء على نفسه. وهذا هو الخوف المرتبط بالرجال – كما يقول رانك- وذلك لأنهم يحرصون على أن يتركوا الباب الخلفي مفتوحًا حتى يستطيعوا اللجوء إلى انسحاب سريع في حالة أصبحت العلاقة حميمة أكثر من اللازم. وبالفعل لو أن "رانك" عاش حتى يومنا هذا لوافق على أن هذين النوعين من الخوف يستحقان المواجهة، بنسب متفاوتة بكل تأكيد من الرجال والنساء على حد سواء. فنحن نتأرجح طوال حياتنا بين هذين الخوفين. 
 
 *** *** ***

وهنا تواجهنا مفارقة عجيبة يتسم بها كل صنف من الشجاعة، ألا وهي ذلك التناقض الظاهري من أنه ينبغي علينا أن نلتزم التزامًا تامًا. ولكن يجب علينا أيضًا أن ندرك في الوقت نفسه أننا من الممكن أن نكون مخطئين. هذه العلاقة الجدلية بين الاقتناع والشك سمة مميزة لأعلى أنماط الشجاعة. كما تكذب التعريفات التبسيطية التي توحد بين الشجاعة وبين مجرد النمو.

فالأشخاص الذين يزعمون أنهم مقتنعون اقتناعًا مطلقًا بأن موقفهم هو الموقف الوحيد الصحيح، أشخاصُ خطرون. وليس هذا الاقتناع هو جوهر القطعية (الدجماطيقية) فحسب، ولكنه أيضًا من أشد أبناء عمومته تدميرًا، ألا وهو التعصب. ذلك أنه يحول بين من يستخدمه وبين تعلم حقيقة جديدة، كما أنه قضاء على شك لاشعوري. إذ يضاعف المرء عندئذٍ احتجاجاته لا لكي يخمد المعارضة فحسب، وإنما ليخمد أيضًا شكوكه اللاشعورية.

وكلما سمعت – كما سمعنا كلنا في معظم الأحيان أثناء قضية نيكسون "ووترجيت" – النغمة التي تتردد "أنا مقتنع اقتناعًا مطلقًا" أو "أريد أن أوضح توضيحًا مطلقًا" الصادر عن البيت الأبيض .. كلما سمعت هذا استجمعت شتات انتباهي، إذ كنت أعلم أن شيئًا من الخداع سوف يطرق أسماعنا وعلامته هي هذا التوكيد المشدد. …

وكان "بول سيزان" يؤمن إيمانًا راسخًا بأنه يكتشف ويرسم شكلا جديدًا من المكان سيؤثر جذريًا على مستقبل الفن، ومع ذلك كان ممتلئًا في الوقت نفسه بشكوك أليمة دائمة الحضور. وليست العلاقة بين الالتزام والشك علاقة عدائية بأي حال من الأحوال، ذلك أن الالتزام لا يكون "أصح" عندما يخلو من الشك، ولكن "على الرغم" من الشك. وأن يؤمن المرء إيمانًا راسخًا ولديه في الوقت نفسه بعض الشكوك ليس تناقضًا بحال من الأحوال: وإنما تفترض هذه الحالة احترامًا أعظم للحقيقة، وإدراكًا لأن الحقيقة يمكن أن تتجاوز كل ما يمكن أن يقال أو يصنع في لحظة معينة. ولكل دعوة thesis نقيضها، ولكل نقيض مركب للموضوع. ومن ثم فإن الحقيقة عملية لاتنتهي أبدًا. وهكذا نعرف العبارة المنسوبة إلى ليبنتس: “إنني على استعداد للسير عشرين ميلا لكي أستمع إلى ألد أعدائي إذا كان من الممكن أن أتعلم منه شيئًا". 
  
*** *** ***

يسعفنا جورج برنارد شو بشيء من العون فبعد أن حضر حفلا موسيقيًا أقامه عازف الكمان هايفيتس، كتب خطاب بعد عودته إلى منزله:

“عزيزي السيد هايفيتس: بهرتنا زوجتي وأنا حفلتك الموسيقية .. ولو أنك واصلت عزفك بمثل هذا الجمال لاخترمك الموت في شرخ شبابك بكل تأكيد، ما من أحد يمكن أن يعزف بمثل هذا الكمال دون أن يثير غيرة الآلهة وأتوسل إليك – بكل جدية- أن تعزف بطريقة رديئة كل ليلة قبل أن تأوي إلى الفراش …..”

ووراء كلمات شو الفكهة، كما هي عادته دائمًا، حقيقة علمية هي أن الإبداع يثير غيرة الآلهة، ولهذا يحتاج الإبداع الأصيل كثير من الشجاعة: فهنا معركة نشطة تدور رحاها مع الآلهة.

وليس في وسعي أن أعطيك تفسيرًا كاملا لماذا كان الأمر على هذا النحو؛ كل ما أستطيعه هو أن أجعلك تشاطرني في خواطري. فمن خلال العصور وجدت الشخصيات المبدعة الأصيلة نفسها دائمًا في مثل هذا الصراع.

وقد كتب ديجا Degas ذات مرة قائلا: “إن المصور يرسم اللوحة بنفس الشعور الذي يرتكب به المجرم جريمته. “ وفي اليهودية والمسيحية تناشدنا الوصية الثانية من الوصايا العشر: “لا تصنع لك تمثالا منحوتًا ولا صورة مما في السماء من فوق وما في الأرض وما في الماء من تحت الأرض" (الكتاب المقدس – سفر الخروج – الإصحاح العشرون – آية 4). وأنا أعتقد أن الغرض الظاهر من هذه الوصية هو حماية الشعب اليهودي من عبادة الأوثان في تلك الأزمنة التي تفشت فيها الوثنية.

غير أن هذه الوصية تعبر أيضًا عن الخوف الذي لا يخص زمنا دون آخر والذي يعانيه كل مجتمع من فنانيه وشعرائه وقديسيه. ذلك أنهم هم الذين يهددون الوضع القائم الذي يكرس كل مجتمع نفسه لحمايته. ويتضح ذلك الخوف أشد الوضوح في الصراعات الدائرة في روسيا للتحكم في أقوال الشعراء وأساليب الفنانين؛ غير أن هذا أيضًا يسري على بلادنا وإن لم يكن صارخًا بهذا الشكل. ومع ذلك، على الرغم من هذا التحريم الإلهي، ورغم الشجاعة اللازمة لانتهاكها، كرس عدد لاحصر له من اليهود والمسيحيين أنفسهم خلال العصور للتصوير والنحت، وواصلوا نقش الصور وإنتاج الرموز في هذا الشكل أو ذاك. وكثير منهم مر بتجربة الصراع مع الآلهة.

وهناك طائفة من الألغاز الأخرى – ليس بوسعي إلا أن أذكرها دون تعليق- ترتبط بهذا اللغز الرئيس. منها أن العبقرية والمرض النفسي متلازمان إلى حد كبير ومنها أن الإبداع يحمل في طياته شعورًا بالذنب لا سبيل إلى تفسيره، ولغز ثالث هو أن كثيرًا من الفنانين والشعراء ينتحرون، وفي كثير من الأحيان يكون ذلك وهم في قمة إنجازهم.

وفيما أحاول حل لغز الصراع مع الآلهة، رجعت إلى الأنماط الأولية في تاريخ الحضارة البشرية، إلىتلك الأساطير التي توضح كيف كان الناس يفهمون فعل الإبداع. وأنا لا أستخدم كلمة "أسطورة" بالمعنى المنحط المبتذل الشائع في أيامنا على أنها "أكذوبة". وهذا خطأ لا يمكن أن يقترفه إلا مجتمع أصبح منتشيًا بتكديس الوقائع التجريبية بحيث يحكم الإغلاق على الحكمة الأعمق في التاريخ الإنساني. فأنا أستعمل" أسطورة" من حيث أنها تعني عرضًا دراميًا للحكمة الأخلاقية التي صدرت عن الجنس البشري. والأسطورة تستخدم مجموع الحواس لا مجرد العقل وحده.

وفي المدنية الإغريقية القديمة نجد أسطورة برومثيوس وكان تيتانا (عملاقًا) يقيم على جبل الأوليمب، وقد رأي أن الكائنات البشرية لا يملكون النار، فكانت سرقته للنار ومنحها للجنس البشري علامة اتخذها الإغريق منذ ذلك الحين على أنها بداية المدنية، لا في الطهي وغزل المنسوجات فحسب وإنما في الفلسفة والعلم والدراما والثقافة نفسها.

غير أن النقطة المهمة هي أن زيوس ثارت ثائرته، وأصدر قراره بأن يعاقب بروميثيوس بتقييده إلى جبل القوقاز حيث يأتي نسر كل صباح ليلتهم كبده التي تنمو مرة أخرى أثناء الليل. هذا العنصر في الأسطور تصادف عرضًا أن يكون رمزًا واضحًا على عملية الإبداع. والفنانون جميعًا يمرون في وقت من الأوقات بهذه التجربة في نهاية اليوم عندما يشعرون بأنهم مجهدون مستهلكون، موقنون أنهم لن يتمكنوا أبدًا من التعبير عن رؤياهم فيقسمون على نسيانها وعلى البدء في شيء غيرها صباح اليوم التالي، ولكن "أكبادهم تنمو مرة أخرى" أثناء الليل، فينهضون من فراشهم مفعمين بالطاقة والنشاط ويعودون إلى أداء مهمتهم بأمل متجدد. 
  
*** *** ***

كان كارل يونج (Carl Yung) يشير في كثير من الأحيان إلى أن هناك استقطابًا؛ نوعًا من التضاد بين التجربة الشعورية وبين اللا شعور، وكان يعتقد أن العلاقة بينهما تعويضية: الشعور يتحكم في أهواء وتقلبات اللاشعور الوحشية اللامنطقية، بينما يحافظ اللاشعور على ألا يجف الشعور في العقلانية المبتذلة الخاوية القاحلة. وهذا التعويض يعمل أيضًا في مشكلات خاصة: فلو أنني كنت عاكفًا بوعي ومتوغلا في اتجاه واحد بالنسبة لقضية ما، فإن لا شعوري يميل إلى الاتجاه الآخر، وهذا بالطبع هو السبب الذي يجعلنا نقاتل قتالا قطعيًا (دجماطيقيا) مسرفًا من أجل فكرة حين نكون منقسمين على أنفسنا لاشعوريًا بشكوك تساورنا حول هذه الفكرة. وهذا أيضًا هو السبب الذي يجعل أشخاصًا مختلفين مثل القديس بولس على طريق دمشق والسكير في الحانة تعتريهم تلك التقلبات الروحية المباغتة ذلك أن الجانب اللاشعوري المكبوت في الجدل العقلي يبتهج (إذا جاز لي هذا التعبير) بهذا التفجير والتدمير لكل ما نتمسك به بصرامة في تفكيرنا الواعي.

وليس ما يحدث في هذا البزوغ هو مجرد نمو، بل هو شيء أشد دينامية بكثير. وهو ليس مجرد اتساع في الوعي، بل الأحرى أنه نوع من المعركة. فثمة صراع دينامي يجري داخل شخص ما بين ما يفكر فيه عن وعي من ناحية، وبين شيئ من البصيرة، أو المنظور الذي يناضل لكي يولد، من ناحية أخرى. وبعدئذٍ تولد البصيرة ممتزجة بالقلق والشعور بالذنب، وبالفرح والرضا الذين لا ينفصلان عن إخراج فكرة جديدة أو رؤية إلى حيز الواقع.

والشعور بالذنب الذي يكون عندما يحدث هذا البزوغ (Break through) (أو الانبثاق) مصدره هو أن البصيرة لا بد أن تدمر شيئًا ما. بصيرتي دمرت افتراضي الآخر، وسوف تدمر ما كان يعتقده عدد من أساتذتي، وهذه حقيقة شغلتني إلى حد ما. فأينما يكون ثمة بزوغ لفكرة ذات دلالة في العلم، أو بشكل جديد مهم في الفن، فإن الفكرة الجديدة تدمر ما يعتقد كثير من الناس أنه جوهري لبقاء عالمهم العقلي والروحي. هذا هو مصدر الشعور بالذنب في العمل الخلاق الأصيل وكما لاحظ بيكاسو: “كل فعل من أفعال الإبداع هو في المقام الأول فعل من أفعال الهدم".

وهذا البزوغ يحمل في ثناياه أيضًا عنصرًا من عناصر القلق فهو لم يهدم افتراضي السابق فحسب، بل زعزع علاقتي بعالمي الذاتي أيضًا وفي مثل هذه الأوقات أجدني ملزمًا بالبحث عن أساس جديد لا أدرى عن وجوده شيئًا. وهذا هو مصدر الشعور بالقلق الذي يأتي في لحظة البزوغ؛ وليس من الممكن أن تظهر فكرة جديدة دون حدوث هذا الاهتزاز بدرجة ما.

وعبر هذا الشعور بالذنب والقلق – كما ذكرت آنفًا – هناك ذلك الشعور الرئيسي الذي يصاحب البزوغ وهو شعور الرضا. لقد رأينا شيئًا جديدًا وغمرنا الفرح. فرح مشاركتنا فيما يسميه علماء الفيزياء والعلوم باسم "تجربة الرشاقة" (أو الروعة) (Elegance). 

مقتطفات من كتاب:
شجاعة الإبداع/ روللو ماي؛ ترجمة فؤاد كامل
دار سعاد الصباح، 1992 

تعليقات

  1. اختيارات فاخرة الحقيقة ..المدونة دون اطراء تحمل الكثير من الادب والعلم الفاخر المنتقى بعناية ..جازاك الله وشكرا لك ..متابعون ..انا استعمل feedly واتابع بالـ rss :) شكراا

    ردحذف
    الردود
    1. أسعدني مرورك وإطراؤك ... وسعيد أن أعجبك الاقتباس وأن أعجبتك المدونة :) شكراا لك

      حذف

إرسال تعليق

أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

مقتطفات عن أينشتاين

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات

ما هو الفن الطليعي؟ (Avant Garde)