ما هو الفن الطليعي؟ (Avant Garde)
تأليف: كريستوفر آينز
ترجمة: سامح فكري
لقد أصبح مصطلح "الطليعة" Avant Garde مصطلحًا له حضوره الواسع حتى أنه بات يُلصق – وبشكل انتقائي- بأي نمط من أنماط الفن يناقض ما هو تقليدي من حيث الشكل؛ وفي أبسط معانيه يؤخذ المصطلح أحيانًا باعتباره وصفًا لما هو جديد في زمن ما –ذلك الجديد الذي يمثل أبعد حد يمكن أن تصل إليه التجربة الفنية، وهو الحد الذي يصبح موضع تقادم باستمرار بالنسبة إلى الخطوة التالية المجاوزة له. إلا أن مطلح "الطليعة" ليس مصطلحًا حياديًا من الوجهة القيمية كما يوحي الاستخدام السابق بذلك، فهو بالنسبة للنقاد الماركسيين من أمثال جورج لوكاش أصبح مرادفًا لذلك الانحطاط (decadence) الذي يعد عرضًا ثقافيًا لحالة الخمول الذي يتمخض عنها المجتمع البرجوازي؛ و"الطليعة" بالنسبة للمدافعين عنها والمتبنين لها هي الضرورة الحتمية في كل فنون عصرنا، ذلك أن "العبقرية الحديثة هي عبقرية طليعية في جوهرها".
وكان "باكونين" هو من استعار هذه التسمية من المصطلح العسكري وجعلها عنوانًا لجريدة لم تستمر طويلًا وتميزت بنزعة فوضوية معادية للحكومة، وقام بنشرها في سويسرا عام 1878 وهي جريدة "لافان جارد" L’avant garde. ولم يستخدم المصطلح في الإشارة للفن إلا على يد مريدي باكونين وتلاميذه، وكان هؤلاء في تثويرهم لجماليات الإبداع يهدفون إلى طرح تصور مسبق لثورة اجتماعية؛ ولا زال الفن الطليعي يتسم باقترانه بتوجه سياسي راديكالي. وإذا كان الفن الطليعي يستشرف مستقبلًا ثوريًا فقد كان بالدرجة ذاتها يقف موقف العداء، مع التقاليد الفنية سواء ارتبطت هذه التقاليد بالأجيال السابقة أو ارتبطت بالحضارة المعاصرة ذاتها. إن توجهات الفن الطليعي باعتبارها جميعًا كلًا كبيرًا تبدو من الخارج وكأنها اجتمعت على رفض المؤسسات الاجتماعية والمواضعات الفنية الراسخة والوقوف موقف العداء من العامة (باعتبارهم ممثلين للنظام القائم)، على الرغم من ذلك فبعض الجماعات الفنية الصغيرة المنعزلة بل المعادية لبعضها البعض قد تتبنى برامج وتوجهات إيجابية. وهكذا يبدو لنا أن الفن الحديث يتصف بالتجزؤ والتشيع sectarian، ويلازمه إصدار البيانات manifestos جنبًا إلى جنب مع العمل الإبداعي، والفن الحديث هكذا إنما يعبر عن ذلك التعقد الشديد الذي يتصف به المجتمع بعد الصناعي postindustrial وذلك من خلال مجموعة متعدد من الحركات الفنية سماتها الدينامية واللاثبات وتبني مقولات وتجريدات فلسفية؛ وهكذا تعددت المصطلحات والتوجهات التي تعبر عن هذه الحركات ما بين رمزية، ومستقبلية futurism، وتعبيريه، وشكلانية، وسريالية.
رغمًا عن ذلك فهذا التعدد يحمل في طياته بشكل واضح محدد المعالم وحدة في الهدف والاهتمام (على الأقل في المسرح) لها كل سمات التيار المتسق، ذلك أن المبادئ التي تشكل هذه الوحدة يمكن الكشف عن وجودها لدى التيارات الفنية المختلفة على الرغم من عدم وجود آي تأثير مباشر بين بعضها البعض؛ ومثالنا على ذلك و تلك المشابهات اللافتة بين اسهامات كل من أنطونين آرتو Artaud في الثلاثينيات وجيرزي جروتوفسكي Grotowski في الستينيات ذلك على الرغم من ان جروتوفسكي عند صياغته لمفهوم "المسرح الفقير" لم يكن يعلم شيئًا عن "مسرح القسوة. في الوقت ذاته يمكن للمرء تلمس مجمل شبكة التلاقح الفكري cross-fertilization التي عادة ما تحدد معالم حركة فنية ما وذلك من خلال التأثير المتواتر الذي يمكن أن يحدثه رائد من الرواد (مثل آلفريد جاري Alfred jarryAlfred jarryL، وأوجست سترندبرج August Stindberg) أو من خلال استخدام مفردات مشتركة (مثل المعمل المسرحي theater laboratory)، كما يمكن تلمس هذا التلاقح أيضًا من خلال التعاون المشترك بين أعضاء هذه الحركة الفنية أو من خلال محاكاتهم لخبرات بعضهم البعض.
وهكذا نجد أن كلًا من آرتو وروجر فيتراك Roger Vitrac قد أطلقا اسم "جاري" على مسرحهما، كما كان يوجين يونسكو عضوًا في "الكوليج دي باتافيزيك" college de pataphysique وهي جماعة معادية للنظام القائم تحلقت حول أفكار جاري. وكان يونسكو قد ضمن شخصية "جاري" في إحدى مسرحياته، بينما ارتكز جان- لوب بارو jean- louid Barault في واحد من أواخر عروضه الرئيسية على حياة جاري ذاتها. كذلك قام بيتر بروك، وجو تشايكين joe chaikin، والمسرح الحي بقيادة بيك Beck ومالينا Malina بإخراج مسرحيات جاري التي تتخذ من شخصية باسم أوبو Ubu محورًا لها [1]؛ في الوقت ذاته قام جون جولياني John Juliani بتأسيس فرقة مسرحية في كندا تحمل اسم الإله المتوحش Savage God (والتسمية هنا ترجع إلى رد الفعل المستهجن الذي أبداه و. ب. ييتس W.B. Yeats إزاء العرض الأول لمسرحية أوبو ملكًا). وبشكل مشابه فقد خرجت الحركة التعبيرية الألمانية بجملتها من عباءة ستريندبرج، كذلك فإن مسرحية ستريندبرج المسماة بمسرحية حلم A dream play كانت إحدى العروض المبكرة التي قدمها آرتو، كما أن المسرحية ذاتها تركت أثرها أيضًا في فرناندو آرابال. أما "آرتو" فقد عمل مع كل من "روجيه بلان" الذي أخرج كل مسرحيات جينيه الرئيسية، و"بارو" الذي ينسب إليه تأسيس مركز بروك للبحث المسرحي الدولي بباريس، وهو أحد المعامل المسرحية العديدة التي تأسست في بلجيكا والدينمارك والولايات المتحدة في الستينيات وسارت في ذلك الاتجاه الذي سبق إليه جروتوفسكي. وكان تأثير آرتو على وجه التحديد هو الذي دفع بروك إلى أن يخرج من مسار المسرح التقليدي، كما كان لكتابه المسرح وقرينه theater and its double –بعد ترجمته إلى الإنجليزية- أثرًا شبه مباشر على الفرق المسرحية الأمريكية المتبنية لثقافة نقيضة counter – culture. وكانت آريان مينوشكين تسير في اتجاه مواز لكل من آرتو وبروك وذلك بشكلٍ واعٍ. آما يوجينيو ياربا فقد تدرب على يد كل من جروتوفسكي وتشايسكين وبيك ومالينا، وفيكل من جروتوفسكي وبروك وتشايكين في مشروعات مشتركة. كذلك عمل بروك مع تشارل ماروفيتيز والذي كان مسرحه (المسمى بمسرح الفضاء المفتوح) هو اللذي قدم أول مسرحية هامة ل"سام تشيبيرد" الذي تعاون بدوره مع "تشايكين"، أما "هاينز موللر" -الذي تتواشج أعماله المبكرة مع أعمال آرتو، هذا فضلًا عن أعمال التعبيريين- فقد انضم في الثمانينات إلى واحد من السرياليين المحدثين Neo- surrealist وهو روبرت ويلسون. ترسم لنا هذه العلاقات المتبادلة الحركة الطليعية في مسارها الرئيسي، وإن بقيت هناك أسماء عديدة يمكن الإشارة إليها.
غالبًا ما كانت البلاغة الملازمة للبيانات الصادرة عن الحركات الفنية سواء في العشرينيات أو حتى الستينيات – غالبًا ما كانت هذه البلاغة تحجب كل ملمح محوري وجوهري يجمعها وذلك بالنسبة لأي مراقب معاصر لهذه الحركات، ولم يكن التمييز الذي تدعيه أي من هذه الحركات سوى جانبًا مختلفًا من حركة عامة واحدة؛ إلا أننا إذا نظرنا إلى هذه الحركات من منظورنا اليوم لبرز أمامنا بوضوح اهتمامات وتوجهات مشتركة بينها ذلك لأن هذه التوجهات لها سمة التواتر؛ وهذا التواتر إنما يكتسب دلالة أكبر لأنه يعكس بشكل تام أفكارًا شائعة وقناعات أيدلوجية سائدة، وإن كان هذا التواتر يعد أيضًا استجابة للقيم الأخلاقية للعصر.
ولعل ما يحدد ملامح هذه الحركة الطليعية (وهو أمر يتسم بالمفارقة) ليست السمات العصرية الواضحة المتمثلة في النزعة التكنولوجية التي سادت في العشرينيات مثلًا وكان من نتاجها مفاهيم وأفكار من قبيل "سوناتا الطائرة" لجورج آنثيلي Antheil ، والشعر الكهربي "Poesie elettriche" لكورادو جوفوني Govoni، ومسرح الآلية Theater of Mechanics لإنريكو برامبوليني Prampolini. وإنما ما يحدد ملامح هذه الحركة هو النزعة البدائية؛ ولهذه النزعة جانبان يكمل أحدهما الآخر:
أولها: هو استكناه وسبر غور الحالات الحلمية ومستويات العقل الباطن والغريزة الخاصة بالبشرية؛ وثانيهما: التركيز على الأسطورة والسحر بشكل شبه ديني، وهو الأمر الذي أدى في المسرح إلى التجريب على الطقس والصياغة الطقوسية للعرض المسرحي. ويتواشج هذان الجانبان ليس فقط من خلال هذا المفهوم الذي وضعه يونغ Jung والذي يرى فيه أن كل أشكال الأسطورة تتواجد في اللاوعي كتعبيرات عن أنماط نفسية أصلية psychological archetypes ، وإنما يتواشج هذان الجانبان أيضًا من خلال تلك الفكرة القائلة بأن التفكير الرمزي الذي يقوم على خلق الأسطورة إنما يتقدم على كل من اللغة والتفكير الاستطرادي باعتبار أنه يكشف عن جوانب جوهرية في الواقع يصعب الإحاطة بها من خلال أية طريقة أخرى. وهذان الجانبان إنما يمثلان صياغتين مختلفتين للهدف ذاته ألا وهو العودة إلى جذور الإنسان سواء كان ذلك من خلال النفس البشرية ذاتها أو عبر مرحلة ما قبل التاريخ، وينعكس هذا على المسرح بالعودة إلى الأشكال الأصلية مثل الطقوس الديونيسية في اليونان القديمة، والعروض الشامانية [2] والدراما الراقصة الخاصة بجزر بالي. إن ما تتميز به الدراما الطليعية جنبًا إلى جنب مع نزوعها إلى ضد المادية وإلى بولوطيقا ثورية هو تطلعها إلى ما هو مفارق[3] Transcendence وإلى الروحي بالمعنى الواسع؛ وفي هذا السياق يبدو لنا زعم أنطونين آرتو بما أسماه "بالمسرح المقدس" Holy Theater (وهو زعم تلقفه بعده العديد من فناني الطليعة كان آخرهم موراي شافر Murray shafezr) أمرًا كاشفًا. كذلك يرى علماء الأنثروبولوجيا وعلماء الأعراق أننا دائمًا بإمكاننا أن نرى ونتلمس ذلك العنصر البدائي خلال منظومة الثقافة الغربية المعاصرة؛ والفنانون المبدعون وحدهم هم الذين يعيدون تأويل هذه النماذج الأولية ويوظفونها لأغراض مغايرة لطبيعة الثقافة الأصلية، إلا أن هذا الاهتمام بما هو بدائي في الثقافة الغربية من جانب الدراما الطليعية هو أكثر من مجرد افتتان مظهري بما هو "مستغرب" أو ما هو "همجي" barbaric؛ فالنزعة البدائية في الدراما الطليعية (كما تدلنا على ذلك مصطلحات من قبيل "المعمل المسرحي" والتي ذاع استخدامها في الستينيات والسبعينيات) تتواشج مع تجريب جمالي يهدف إلى الارتقاء بالتقدم التقني للفن المسرحي، وذلك من خلال البحث في أسئلة جوهرية من قبيل:
غالبًا ما كانت البلاغة الملازمة للبيانات الصادرة عن الحركات الفنية سواء في العشرينيات أو حتى الستينيات – غالبًا ما كانت هذه البلاغة تحجب كل ملمح محوري وجوهري يجمعها وذلك بالنسبة لأي مراقب معاصر لهذه الحركات، ولم يكن التمييز الذي تدعيه أي من هذه الحركات سوى جانبًا مختلفًا من حركة عامة واحدة؛ إلا أننا إذا نظرنا إلى هذه الحركات من منظورنا اليوم لبرز أمامنا بوضوح اهتمامات وتوجهات مشتركة بينها ذلك لأن هذه التوجهات لها سمة التواتر؛ وهذا التواتر إنما يكتسب دلالة أكبر لأنه يعكس بشكل تام أفكارًا شائعة وقناعات أيدلوجية سائدة، وإن كان هذا التواتر يعد أيضًا استجابة للقيم الأخلاقية للعصر.
ولعل ما يحدد ملامح هذه الحركة الطليعية (وهو أمر يتسم بالمفارقة) ليست السمات العصرية الواضحة المتمثلة في النزعة التكنولوجية التي سادت في العشرينيات مثلًا وكان من نتاجها مفاهيم وأفكار من قبيل "سوناتا الطائرة" لجورج آنثيلي Antheil ، والشعر الكهربي "Poesie elettriche" لكورادو جوفوني Govoni، ومسرح الآلية Theater of Mechanics لإنريكو برامبوليني Prampolini. وإنما ما يحدد ملامح هذه الحركة هو النزعة البدائية؛ ولهذه النزعة جانبان يكمل أحدهما الآخر:
أولها: هو استكناه وسبر غور الحالات الحلمية ومستويات العقل الباطن والغريزة الخاصة بالبشرية؛ وثانيهما: التركيز على الأسطورة والسحر بشكل شبه ديني، وهو الأمر الذي أدى في المسرح إلى التجريب على الطقس والصياغة الطقوسية للعرض المسرحي. ويتواشج هذان الجانبان ليس فقط من خلال هذا المفهوم الذي وضعه يونغ Jung والذي يرى فيه أن كل أشكال الأسطورة تتواجد في اللاوعي كتعبيرات عن أنماط نفسية أصلية psychological archetypes ، وإنما يتواشج هذان الجانبان أيضًا من خلال تلك الفكرة القائلة بأن التفكير الرمزي الذي يقوم على خلق الأسطورة إنما يتقدم على كل من اللغة والتفكير الاستطرادي باعتبار أنه يكشف عن جوانب جوهرية في الواقع يصعب الإحاطة بها من خلال أية طريقة أخرى. وهذان الجانبان إنما يمثلان صياغتين مختلفتين للهدف ذاته ألا وهو العودة إلى جذور الإنسان سواء كان ذلك من خلال النفس البشرية ذاتها أو عبر مرحلة ما قبل التاريخ، وينعكس هذا على المسرح بالعودة إلى الأشكال الأصلية مثل الطقوس الديونيسية في اليونان القديمة، والعروض الشامانية [2] والدراما الراقصة الخاصة بجزر بالي. إن ما تتميز به الدراما الطليعية جنبًا إلى جنب مع نزوعها إلى ضد المادية وإلى بولوطيقا ثورية هو تطلعها إلى ما هو مفارق[3] Transcendence وإلى الروحي بالمعنى الواسع؛ وفي هذا السياق يبدو لنا زعم أنطونين آرتو بما أسماه "بالمسرح المقدس" Holy Theater (وهو زعم تلقفه بعده العديد من فناني الطليعة كان آخرهم موراي شافر Murray shafezr) أمرًا كاشفًا. كذلك يرى علماء الأنثروبولوجيا وعلماء الأعراق أننا دائمًا بإمكاننا أن نرى ونتلمس ذلك العنصر البدائي خلال منظومة الثقافة الغربية المعاصرة؛ والفنانون المبدعون وحدهم هم الذين يعيدون تأويل هذه النماذج الأولية ويوظفونها لأغراض مغايرة لطبيعة الثقافة الأصلية، إلا أن هذا الاهتمام بما هو بدائي في الثقافة الغربية من جانب الدراما الطليعية هو أكثر من مجرد افتتان مظهري بما هو "مستغرب" أو ما هو "همجي" barbaric؛ فالنزعة البدائية في الدراما الطليعية (كما تدلنا على ذلك مصطلحات من قبيل "المعمل المسرحي" والتي ذاع استخدامها في الستينيات والسبعينيات) تتواشج مع تجريب جمالي يهدف إلى الارتقاء بالتقدم التقني للفن المسرحي، وذلك من خلال البحث في أسئلة جوهرية من قبيل:
- ما المسرح؟
- ما المسرحية؟
- ما الممثل؟
- ما المتفرج؟
- ما العلاقة بين هؤلاء جميعًا؟
- ما الشروط التي تخدم تلك العلاقات بأفضل صورة؟
وعلى هذا المستوى فإن التوجه العلمي السائد في العصر الحديث يوازيه عودة إلى الأشكال الأولية primal، وهو ما يشير بدوره إلى محاولة استبدال الأنماط الدرامية السائدة (وبالتبعية المجتمع ذاته الذي تعد هذه الأنماط تعبيرًا عنه) بأنماط درامية أخرى يعاد بناؤها من المبادئ الأولى.
إن التصوير المثالي لما هو بدائي وأولي من جانب المسرح بالإضافة إلى إعادة اكتشاف وتمثيل الأنماط القديمة والمهجورة يمكن أن ينظر إليه باعتباره امتدادًا لنزعتين سادتا الحركة الرومانسية في القرن التاسع عشر وهما الاستشراق ونزعة القرون وسطية medievalism؛ وهذا الاهتمام من جانب المسرح إنما يتوازى معه في الفنون المرئية الأخذ عن فنون النحت الأفريقي واستلهام المصنوعات اليدوية لهنود ما قبل كولومبوس وذلك بداية من ما بعد الانطباعية post- impressionism فصاعدًا، كما يمكن تلمس الاهتمام ذاته في مظاهر عديدة للثقافة الحديثة. ولعلنا نجد صدى هذا الاهتمام في مفهوم العلاج الأولي primal therapy عند فرويد وكذلك في محاولته في كتابه الطوطم والتابو Totem and Tapo توظيف المفاهيم التحليلية التي أرساها في استقصاء الأصول التي يرجع إليها كل من الدين والأخلاق، كما نجد صدى الاهتمام ذاته في القيمة الأنثروبولوجية التي يكسبها ليفي شتراوس لما يسمى بالحالة البدائية كذلك نجد انعكاسًا لهذا الاهتمام في افتتان كونراد "بقلب الظلمة"[4] أو في النزعة البدائية عند د. هـ. لورانس، ونجده أيضًا في النزعة الهروبية Escapism التي تميزت بها سلسلة طرازان لإدجار رايبس بورو، والتي لاقت رواجًا كبيرًا إبان فترتي الستينيات والسبعينيات، وهو الرواج ذاته الذي لاقته هذه السلسلة من الروايات عندما طبعت لأول مرة في الفترة ما بين عامي 1912 و 1936.
وعلى هذا المستوى فإن التوجه العلمي السائد في العصر الحديث يوازيه عودة إلى الأشكال الأولية primal، وهو ما يشير بدوره إلى محاولة استبدال الأنماط الدرامية السائدة (وبالتبعية المجتمع ذاته الذي تعد هذه الأنماط تعبيرًا عنه) بأنماط درامية أخرى يعاد بناؤها من المبادئ الأولى.
إن التصوير المثالي لما هو بدائي وأولي من جانب المسرح بالإضافة إلى إعادة اكتشاف وتمثيل الأنماط القديمة والمهجورة يمكن أن ينظر إليه باعتباره امتدادًا لنزعتين سادتا الحركة الرومانسية في القرن التاسع عشر وهما الاستشراق ونزعة القرون وسطية medievalism؛ وهذا الاهتمام من جانب المسرح إنما يتوازى معه في الفنون المرئية الأخذ عن فنون النحت الأفريقي واستلهام المصنوعات اليدوية لهنود ما قبل كولومبوس وذلك بداية من ما بعد الانطباعية post- impressionism فصاعدًا، كما يمكن تلمس الاهتمام ذاته في مظاهر عديدة للثقافة الحديثة. ولعلنا نجد صدى هذا الاهتمام في مفهوم العلاج الأولي primal therapy عند فرويد وكذلك في محاولته في كتابه الطوطم والتابو Totem and Tapo توظيف المفاهيم التحليلية التي أرساها في استقصاء الأصول التي يرجع إليها كل من الدين والأخلاق، كما نجد صدى الاهتمام ذاته في القيمة الأنثروبولوجية التي يكسبها ليفي شتراوس لما يسمى بالحالة البدائية كذلك نجد انعكاسًا لهذا الاهتمام في افتتان كونراد "بقلب الظلمة"[4] أو في النزعة البدائية عند د. هـ. لورانس، ونجده أيضًا في النزعة الهروبية Escapism التي تميزت بها سلسلة طرازان لإدجار رايبس بورو، والتي لاقت رواجًا كبيرًا إبان فترتي الستينيات والسبعينيات، وهو الرواج ذاته الذي لاقته هذه السلسلة من الروايات عندما طبعت لأول مرة في الفترة ما بين عامي 1912 و 1936.
كذلك كانت تلك النزعة البدائية باعثًا على ظهور نظريات نقدية من قبيل الأدب الكرنفالي[5] Carnivalesque لميخائيل باختين والتي تقترح أشكالًا فنية تجسد ما هو فوضوي وجروتسكي[6] grotesque ، كما تجسد الطاقات الثورية الكامنة في احتفالات الحصاد الخاصة بإله الزراعة عند قدماء الرومان، والكرنفالات الشعبية في العصور الوسطى، وهذه الأشكال الفنية تعد جميعًا بمثابة بديل للنماذج الجمالية الثابتة والمحدودة والسائدة في الوقت الحاضر.
لقد أصبحت مظاهر النزعة البدائية في مسرح القرن العشرين ( وهي مظاهر تمتد لتشمل التقنيات الطقوسية أو الأخذ عن التراث الشرقي القديم والمهجور، كما تشمل أيضًا تقديم الحالات الحلمية أو الصور السريالية أو محاولة استثارة العقل الباطن لدى المتفرجين) واسعة الانتشار حتى أن حدود المسرح الطليعي أصبحت غائمة؛ ومن ثم فمن الصعوبة بمكان تحديد حركة المسرح الطليعي –جزئيًا- ذلك أن تأثير هذه الحركة أصبح شديدًا. إلا أن تأثير هذه الحركة يمكن تلمسه في مؤسسة رسمية مثل مسرح فيلار والمسمى بالمسرح القومي الشعبي، والذي سعى أيضًا لتناول موضوعات احتفالية يؤسس من خلالها نوعًا من التشاركية بين الممثلين والمتفرجين بشكل مشابه كما كان يحدث في مسرحيات الأسرار في العصور الوسطى والتي كانت تستثير الجماهير وتبعث على تأثرهم. كما يمكن تلمس هذا التأثير أيضًا في الخطب النازية، وفي احتفالات الروك والتي تعمل فيها الإيقاعات والإضاءة ذات التأثير التخديري على دفع المرء على الاستسلام إلى "الهو" الفطري ليصبح في حالة تشبه –إن توافرت لها الظروف المواتية- حالة الانتشاء الديونيسي.
كما تظهر أيضًا عناصر الفن الطليعي في نماذج أخرى من المسرح التجريبي، فنجد مثلًا أن بعض تعليقات و. ب. ييتس تعكس بشكل تام ذات توجهات هذا الفن، فهو يقول: "لقد طالما شعرت أن أعمالي ليست بالدراما ولكنها طقس لإيمان ضائع" إنها دراما تعبر بشكل مباشر عن تهويمات النفس، عن حديث الروح مع ذاتها. كما أن أخذ ييتس عن مسرح النو الياباني واستخدامه لعناصر السحر والحركة ذات الصياغة الطقوسية تعد كلها من العناصر المميزة للفن الطليعي، كذلك فإن نزعته الصوفية لها ما يماثلها من سمات هذا الفن. إلا أن مراميه الشعرية تعد تقليدية من زاوية أنه يتوجه بالعمل الفني إلى ما يسميه "عين الذهن" أي الخيال الواعي معتمدًا على ما يسميه "بالسطوة القديمة للكلمات".، ذلك في حين أن الفن الطليعي اتخذ اتجاهًا معاكسًا تمامًا. وبشكل مشابه تعد أعمال صمويل بيكيت في استخدامها للرمزية والسيكودراما على صلة بالفن الطليعي، كما يتبدى لنا ذلك أيضًا في تجريد بيكيت مسرحه من كل تعبير مستهلك رغبة منه في خلق صورًا اختزالية؛ إلا أنه على الرغم من اهتمامه المبكر بالسرياليين، فإن رؤيته الوجودية تختلف تمام الاختلاف عن رؤية الفن الطليعي الذي يؤكد على تحرير الجانب البدائي من النفس البشرية.
إن التيار الرئيسي في المسرح الطليعي لا يمكن تحديده بمجرد وجود سمات أسلوبية مشتركة، وإن كانت هذه السمات شديدة الوضوح؛ إنما يعد المسرح الطليعي في أساسه توجهًا فلسفيًا، فأعضاء هذا المسرح يربطهم توجه معين إزاء المجتمع الغربي، كما يربطهم توجه جمالي خاص، ورغبة في إعادة صياغة طبيعة العرض المسرحي، وهذا كله إنما يشكل أيديولوجيات متميزة يتسم بها المسرح الطليعي. ومن ثم فإنه على الرغم من وجود مشابهات أسلوبية بين أعمال كاتب رمزي مثل ييتس، أو آخر وجودي مثل بيكيت، وبين كتاب سرياليين مثل "كوكوتو" و" بريتون"؛ أو عبثي مثل آداموف، وكاتب ذي نزعة دينية مثل ت. إس. إليوت، على الرغم من هذه المشابهات فإن جوهر فن هؤلاء جميعًا يتناقض في أساسه مع النزعة البدائية الفوضوية والبولوطيقا الراديكالية للمسرح الطليعي.
هذا هو الفصل الأول (عنوانه: "مقدمة: طروحات وتعريفات") من كتاب: المسرح الطليعي: من 1892حتى 1992
تأليف: كريستوفر آينز
ترجمة: سامح فكري
(وزارة الثقافة: مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، 1996)
(وزارة الثقافة: مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، 1996)
________________
[1] هذه المسرحيات هي أوبو ملكًا، وأوبو عبدًا، وأوبو فوق التل وأوبو زوجًا مخدوعًا. وقد صدرت جميعًا مترجمة عن سلسلة "من المسرح العالمي" الصادرة عن وزارة الإعلام الكويتية، الأعداد 191، 192، 193. (المترجم)
[2] نسبة إلى الشامان Shaman وهو اسم كان يطلق على شخص في سيبيريا وشمال آسيا وفي الشعوب البدائية على وجه العموم، وكان هذا الشخص يقوم بأعمال الكهانة والتطبيب والسحر مستعينًا بقدرة خاصة على التحكم في قوى الطبيعة، فهو يداوي المرضى ويشرف على تقديم القرابين في العشيرة، وهو مرشد الأرواح في العالم الآخر، وهو قادر على إتيان ذلك كله من خلال قدرته على التخلي عن جسده وفق مشيئته [عن المعجم الموسوعي للمصطلحات الثقافية لثروت عكاشة] (المترجم).
[3] المفارق Transcendence بالمعنى الفلسفي هو كل ما هو مجاوز لحدود التجربة الإنسانية المتاحة وكذلك لكل ما هو مجاوز لحدود العالم المادي، والمفارق في الفلسفة نقيضه "المحايث" immanent حيث يعني دراسة التجربة الإنسانية من حيث هي تجربة في ذاتها وبذاتها. (المترجم)
[4] قلب الظلمة هي رواية جوزيف كونراد الشهيرة، والمقصود بقلب الظلمة هنا أفريقيا، حيث تقوم الرواية على رحلة يقوم بها البطل في أعالي الكونغو. (المترجم)
[5] يفضل الاحتفاظ بمصطلحي Carnival و Carnivalesque معربين دون ترجمتهما، وذلك لسببين: أولًا: لأن اللفظ المعرب (كرنفال وكرنفالي) أكثر دلالة على المعنى الذي يقصده باختين، وذلك تفريقًا بين Carnival وكل من ceremony و Festival والذي يترجم "احتفال"، انظر ترجمة جابر عصفور لهذا المصطلح ضمن كتاب النظرية الأدبية المعاصرة لرامان سلون والمنشور ضمن سلسلة آفاق الترجمة الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة – ص 46. (المترجم)
[6] يستعمل هذا المصطلح أساسًا في الحقل الدلالي الخاص بفن التصوير حيث يشير إلى أسلوب في التصوير يتميز بالتكوينات الفنية الغريبة المتمثلة في كائنات خرافية غير مألوفة، تمتزج بها أشكال نباتية وزهور في تكوينات شاذة عجيبة، وعموما يستخدم المصطلح للإشارة إلى كل ما هو غريب وغير مألوف في الوسائط الفنية المختلفة – انظر ثروت عكاشة: المعجم الموسوعي للمصطلحات الثقافية. (المترجم)
تعليقات
إرسال تعليق
أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء