الوجودية والتمرد والعدمية





بقلم: جون ماكوري
ترجمة: د. إمام عبدالفتاح إمام

يتمرد الوجوديون، عادة، على الوضع القائم في مجالات كثيرة: في اللاهوت، والسياسة، والأخلاق، والأدب، و يناضلون ضد السلطات التي يقبلها الناس وضد الشرائع التقليدية. حتى الوجوديون المسيحيون نادرًا ما يكونون معتدلين، فقد توج كيركجور حياته بهجوم مرير على الوضع الكنسي القائم في الدانمارك. ويعتقد معظم الباحثين أن هذه المرحلة الأخيرة من عمله لم تكن انحرافًا في تفكيره وإنما هي نتيجة منطقية لتفكيره المبكر.

أما الوجوديون غير المتدينين فإنهم يسيرون بالتمرد إلى آفاق أبعد من ذلك بكثير، حتى لقد أطلق على: "هيدجر" و"سارتر" و"كامي" في بعض الأحيان اسم العدميين ، فهل الوجودية نوع من العدمية ؟Nihilism

أم هل تؤدي الوجودية إلى العدمية عندما يسير المرء بنتائجها حتى النهاية.. ؟

أغلب الظن أن قلة قليلة جدا من الناس هم الذين اعترفوا فعلا بأنهم عدميون، وأغلب الظن أيضا أن العدمية تتوقف دائما على موقف إيجابي معين هو الذي ترفضه صراحة. وربما كانت فكرة العدمية التامة فكرة مناقضة لذاتها، وعلى الرغم من ذلك فإننا نستطيع أن نتصور حالة اغتراب عن النظام القائم تصل في تطرفها إلى حد الاقتراب من العدمية. ولقد كانت رواية الأديب الروسي إيفان ترجنيف Evan Turgenev "الآباء والأبناء" أول عمل أشاع مصطلح "العدمية Nihilism" على نحو شعبي، وقد عرفها نيتشه Nietzsche وتصف هذه الرواية الطالب بازاروف. " "Bazarov بأنه تقريبا الرجل العدمي الكامل الذي يزعم أنه ينكر كل شيء، "فبازاروف" في الفن والسياسة، وكذلك في الدين ينكر جميع القيم، و يرفض كل ما اتفق، تقليدا، على انه ذو قيمة. وهو فضلا عن ذلك يزعم أن كل المطلوب منه هو أن ينكر فقط، وليس ملزما بتقديم أي شيء بناء يحل محل ما هدمه. ومع ذلك فإن "بازاروف" كان يعتقد، فيما يبدو، أن العدمية موقف عابر أو مؤقت، فهو موقف ضروري لتطهير الأسس لكنه ليس الكلمة الأخيرة: "في الوقت الحاضر، يبدو أن الوسيلة النافعة أكثر من غيرها هي الإنكار، ومن ثم فإن علينا أن ننكر!!"

ويبدو لي أن الوجوديين الذين اقتربوا من العدمية اعترفوا بطابعها المؤقت وحاولوا أن يتجاوزوه. أما "نيتشه" فقد اعتقد أن الغرب قد وصل إلى مرحلة عدمية، وعلى الرغم من أنه كان يأسف على هذه الحقيقة أسفًا شديدًا، فقد كان الآخرون ينظرون إليه عادة على انه سقط هو نفسه في هذه العدمية. ومن المؤكد مع ذلك، أنه كان يبحث عن طريقة تمكنه من تجاوز هذه العدمية: "كان يعرف أنه هو نفسه العدمي الذي وجه إليه الاتهام، لكنه كان يعتقد أنه يختلف عنه من حيث أنه يسير بالعدمية إلى نتائجها النهائية وهو بذلك يشرع في قهرها" وكان جان بول سارتر يبحث عن الجانب الآخر من اليأس، في حين اعترف كامي Camus بالحاجة إلى البحث عن أسباب تؤدي إلى تجاوز العبث واللا معقول. ومع ذلك فربما قال هؤلاء الفلاسفة جميعا أن الإمكانات الجديدة لا يمكن أن تظهر، وإعادة تقويم القيم لا يمكن أن تحدث، إلا بعد الإنكار الشامل للمعتقدات والمعايير المتعارف عليها.

وبالطريقة ذاتها يثور الوجوديون المسيحيون، أحيانا، ثورة شاملة على الصور التقليدية من الإيمان، ويزعمون انه لا يمكن للإيمان الجديد أن يظهر إلا من خلال رفض هذه الأشكال وإنكارها، ومن خلال التجربة الأليمة المترتبة على ذلك، والتي لا يعود لك فيها شيء تؤمن به، فبالنسبة للرجل المسيحي يمكن أن تكون هناك إعادة تقويم جذرية للقيم لا تبعد كثيرا عن تجربة الرجل العدمي.

لاشك أن هناك مذاهب "شبه وجودية" تحب أن تطيل الكلام بطريقة مبالغ فيها فيما يسمى "بمواجهة العدم"، ولاشك أيضا أنه وقعت تمردات غبية على التراث. لكن الإثارة المتطرفة للتساؤل والاستعداد الكامل للشك هما من صميم الموقف الوجودي وفي الحالات التي ينبثق فيها الإيمان في النهاية، يكون هو الإيمان الأقوى، لأنه سبق أن تطلع إلى أعماق هاوية العدمية.

من كتاب: الوجودية
تأليف: جون ماكوري
ترجمة: د. إمام عبدالفتاح إمام
مراجعة: د. فؤاد زكريا
سلسلة عالم المعرفة، 58

اقرأ أيضًا:

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خروج

عن الكتاب الأحمر لكارل جوستاف يونغ (مقتطفات)

رسائل البحر

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات