مقاطع من رواية "المثقفون" لسيمون دو بوفوار (3)
سيمون دي بوفوار |
أجمل
شلال رأيناه حتى الآن.
قالت
آن وهي تضحك:
- الأثير عندك هو ما تراه عيناك.
قال
دوبري:
- أسود وأبيض بكليته، وهنا يكمن جماله. بحثت عن ألوان أخرى ولم أجد أثرًا. وللمرة الأولى، أرى بأم عيني أن الأسود والأبيض متشابهان تمامًا. ثم قال لهنري: "عليك الخوض في الماء لبلوغ تلك الصخرة الضخمة هناك وسترى سواد البياض وبياض السواد".
قال
هنري:
- أصدق ما تقوله.
يمكن
لنزهة على الرصيف أن تصير بالنسبة لدوبري
مشروعًا يتطلب جرأة أكثر من استكشاف القطب
الشمالي. وكان
هنري وآن يضحكان معًا وفي أغلب الأحيان
من تصرفات دوبروري.
ذلك
أنه لا يقيم أي فرق بين الإدراك والاستكشاف.
ما
من عين قبله تأملت شلالا.
ما
من إنسان قبله عرف الماء أو الأسود والأبيض.
بالطبع
لو تُرك هنري على سجيته، لما استطاع أن
يلاحظ لعبة البخار والزبد بكل تفاصيلها،
تحولاتها وتلاشياتها ودواماتها المنمنمة
التي كان دوبروري يتفحصها وكأنه يريد أن
يعرف مصير كل قطرة ماء.
فكر
هنري وهو ينظر إليه بحنان:
"بإمكاننا
فعلا أن نغضب منه لكن لا نستطيع الاستغناء
عنه". كل
شيء يصبح بالقرب منه مهمًا، وتغدو الحياة
بذاتها امتيازًا رائعًا فنعيشها بشكل
مضاعف. كانت
هذه الرحلة عبر الريف الفرنسي تتحول بفضل
دوبروري إلى رحلة استكشاف.
*** *** ***
|
ألقى
الجريدة فوق المنضدة ورأي هنري العناوين
العريضة:
"الأمريكيون
يلقون قنبلة ذرية على هيروشيما".
قرأوا
المقالة بصمت، وقالت آن بصوت متهدج:
- مائة ألف قتيل؟ لماذا؟
لا
شك أن اليابان في طريقها إلى الاستسلام.
كانت
هذه نهاية الحرب.
وصحيفتا
le petit cevenol و
l’Echo de
l’Ardeche” تهللان
للخبر، لكن الثلاثة جمعهم إحساس واحد
فقط: الذعر.
قالت
آن:
- ألم يكن بإمكانهم أن يلجأوا بادي الأمر إلى التهديد أو التهويل من خلال القيام بتجربة في الصحراء أو ما شابه ... هل كانوا فعلا مجبرين على إلقاء هذه القنبلة على مدينة مأهولة ؟
قال
دوبوروري:
- بالطبع كان بإمكانهم السعي للضغط على النظام الحاكم في اليابان. هز كتفيه ثم قال: "أتساءل إذا كانوا يجرؤون مثلا على إلقائها على إحدى المدن الالمانية أو على أي من شعوب العرق الأبيض. أما بالنسبة لشعوب العرق الأصفر فهم يجرؤون! إنهم يحتقرون العرق الأصفر!"
قال
هنري:
- مدينة كاملة زالت من الوجود. لا بد أن الأمر يسبب لهم إرباكًا على أي حال!
قال
دوبوروري:
- أعتقد أن هناك سببًا آخر. إنهم مسرورون كل السرور ليبرهنوا للعالم مدى قدراتهم. فبهذه الطريقة يستطيعون أن يمارسوا سيطرتهم دون أن يجرؤ أحد على معارضتهم.
قالت
آن:
- وهل قتلوا مئة ألف شخص لهذه الغاية؟
أمعنوا
في ذهولهم، أمامهم فناجين القهوة بالقشدة،
وأعينهم محدقة في الكلمات المرعبة، وراحوا
يكررون على مسامع بعضهم بعضًا الجمل غير
المجدية نفسها.
قالت
آن:
- يا إلهي! ماذا لو نجح الألمان في صناعة هذه القنبلة! لقد نجونا بأعجوبة!
قال
دوبروري:
- لكن لا يروق لي أيضًا أن الأمريكيين يمتلكون هذا النوع من القنابل المدمرة!
قالت
آن:
- قيل في الجريدة إن بإمكانهم تفجير الأرض كلها.
قال
هنري:
- شرح لي لارغيه أن الطاقة الذرية إذا تحررت بفعل حادث مؤسف، لا تفجر الأرض فحسب بل تلتهم غلافها الجوي أيضًا وتصبح الأرض أشبه بقمر.
قالت
آن:
- ما تقوله ليس مطمئنًا أكثر.
لا
ليس مطمئنًا على الإطلاق.
عاودوا
ركوب دراجاتهم على طريق مشمسة وعندئذٍ
فرغت الأغنية المرعبة من كل فحواها.
مدينة
من أربعمائة ألف نسمة زالت من الوجود
وتشوهت طبيعتها.
ولم
تلق هذه الكارثة صدى في أرجاء العالم.
كان
نهارًا كغيره من النهارات:
السماء
زرقاء، والأوراق خضراء، والأرض العطشى
صفراء. وكانت
الساعات تمضي الواحدة تلو الأخرى من برد
الفجر إلى حر الظهيرة.
والأرض
تدور دورتها العادية حول الشمس غير آبهة
بحمولتها من المسافرين على غير هدى.
كيف
بالإمكان تحت هذه السماء الهادئة كالأبدية،
أن نصدق أن لنا القدرة اليوم على تحويل
الأرض إلى قمر قديم؟
*** *** ***
سألته:
- ألا تعمل في السياسة.
- أقوم بأشياء صغيرة
إجمالا
كان وضعه مشابهًا لوضع روبير وهنري، لكنه
بخلافهما يتكيف مع الأوضاع الطارئة بهدوء
إكزوتيكي.
كان
ينشط من خلال الكتابة والأحاديث الإذاعية
والمؤتمرات أحيانًا عاملا على فضح بعض
التجاوزات ويشعر إزاء ذلك برضى تام.
سبق
وقيل لي إن المثقفين في أمريكا يعيشون
بأمان لأنهم يدركون أنهم عاجزون عن القيام
بأي دور.
- هل لديك أصدقاء من معشر الكتاب؟
أجاب
منفعلا:
- آه! لا! ثم ابتسم: “لدي أصدقاء شرعوا في الكتابة عندما رأوني أكسب مالا لا لشيء إلا لأنني جالس أمام آلتي الكاتبة. ولكنهم لم يصبحوا أدباء".
- آه! لا! ثم ابتسم: “لدي أصدقاء شرعوا في الكتابة عندما رأوني أكسب مالا لا لشيء إلا لأنني جالس أمام آلتي الكاتبة. ولكنهم لم يصبحوا أدباء".
- هل جنوا مالا؟
بدأ
يضحك صراحة:
“كتب
أحدهم خمسمائة صفحة في غضون شهر.
لا
بد أنه دفع مالا كثيرا لطباعتها ونشرها
في كتاب، لكن زوجته منعته من إعادة الكرة.
وعندئذٍ
عاد إلى العمل كنشال جيوب".
سألته:
- وهل هذه مهنة جيدة؟
- هذا رهن الظروف. في شيكاغو، تشهد هذه المهنة مزاحمة شديدة بين متداوليها.
- هل تعرف الكثير من النشالين؟
نظر
إليَّ ساخرًا وقال:
- نصف دزينة.
- ورجال عصابات؟
ظهرت
على وجه بروغمان علامات الوقار وقال:
- جميع رجال العصابات أوغاد!
وبدأ
يتحدث إلى بذرابة لسان عن الدور الذي لعبه
رجال العصابات في السنوات الأخيرة،
واستخدامهم لصد تحركات المحتجين.
ثم
روى ل قصصًا كثيرة عن علاقتهم بالشرطة
والسياسة والأعمال.
كان
يتحدث بسرعة، وشق عليَّ قليلا أن أواكبه
رغم أن حديثه كان شيقًا مثل أفلام إدوارد
روبنسون.
*** *** ***
صرخ لويس:
- الحق؟ أي حق؟ من أعطاها هذا الحق؟ إنها عديمة التفكير والإحساس. بالكاد تختلج ومع ذلك تطالب بحقوق! هذه هي الديموقراطية! شيء جميل! …
قالت آن:
- والحق بإزعاج الجميع؟ من الذي أعطاك إياه؟ انظروا إلى هذا الشخص الذي يحسب نفسه نيتشة لأنه يزعق في وجه امرأة.______________
مقاطع من:
المثقفون
سيمون دو بوفوارترجمة ماري طوق
تعليقات
إرسال تعليق
أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء