من عبد المنعم الحفني إلى محمود أمين العالم: عن الوجودية والاشتراكية




إهداء

الأخ الأستاذ محمود أمين العالم ... 

... عندما صدرت ترجمتي لأسطورة سيزيف لألبير كامي رحبت بالترجمة في عدد المصور الصادر في 31 يوليو سنة 1964، وكان هذا إحساسًا طيبًا منك، وقلت عن الكتاب إنه من عيون الثقافة الأوروبية المعاصرة، وأننا أجدر بالتعرف عليها ومتابعتها. لكنك بعد ذلك أثنيت تقول "لكن لا شك أن في الثقافة الأوربية اليوم ما هو أهم من هذا الكتاب وأجدر بالترجمة" متناقضًا مع كلامك الأول، إذ كيف يكون الكتاب من عيون الثقافة الأوروربية ويكون هناك ما هو أجدر منه؟ ثم لم تذكر لنا ما هي الكتب الأجدر بالترجمة، فكأنك ألقيتنا بحجر وتركتنا بين يدي قارئ يحبك ويحترمك وقد بدأ يشك في نوايانا. 

ثم قلت .. 

... "إننا نشهد اليوم في العالم العربي حشدًا من الكتب المترجمة أو المؤلفة التي يغلب عليها جميعًا طابع الفلسفة الوجودية. ولسنا ندعو إلى الحجر على هذه الترجمات أو المؤلفات، ولكنا نحرص فحسب على أن نوضح للقارئ حقيقة هذه الكتب وأن نؤكد حاجتنا إلى مواجهتها مواجهة ناقدة فاحصة، وأن نخطط ونوجه الترجمة والتأليف بما يتفق وما يحتاج إليه بناء الاشتراكية في بلادنا من غذاء فكري مدعم للاشتراكية لا هادم لها !!"

أي أخي .. كلامك قد يذكرني بقول أنطونيو: إن بروتس شخصُ عظيمٌ ولكن .. 

.. ذكرتَ أنك لن تحجر على الكتب ثم قلت أنها هادمة للاشتراكية ولم تقل لنا كيف وبأية وسيلة؟ ثم لم تقل لنا أية اشتراكية تقصد، وأية وجودية هادمة لها؟ وما هي الوجودية؟ ثم ما هي الاشتراكية؟ 

وأرجوك يا أخي لا تقل لي بادئ ذي بدء إن الاشتراكية هي الماركسية .. 

ثم إنك بعد تكتب كلامًا واضحًا مشرقًا عن "ألبير كامي" و"أسطورة سيزيف"، وأحب ان انقل عنك هذا الكلام ..

"لقد حكمت آلهة اليونان على سيزيف أن يدحرج حجرًا من سطح الجبل حتى قمته فإذ وصل الحجر إلى القمة سقط منه إلى السطح فيعود إليه سيزيف ليدحرجه مرة أخرى إلى القمة، وهكذا إلى أبد الآبدين. هذه الأسطورة يتخذها كامي في كتابه رمزًا على رؤياه الفلسفية كلها، رؤياه للإنسان. هذا هو شأن الإنسان، إنه يعمل عملًا لا جدوى منه ولا قيمة له. وهو يعمل بغير أمل. إن لحظات الإشراق والوعي في حياته هي لحظة عودته من القمة إلى السفح ليعاود دفع الصخرة من جديد!

هذا هو شأن الإنسان. هذا هو وضع العامل في مجتمع الصناعة والعلم. هذا هو وضع الإنسان في المجتمع البشري سواء كان في الغرب أم في الشرق. وكامي يهيب بالإنسان أن يقبل الواقع كما هو، فالحياة لا معنى لها، ولكن رغم هذا ينبغي أن نعيشها. أن نعيش اللامعقول! واللامعقول ليس صفة للإنسان، وليس صفة للعالم، ولكنه لقاء الإنسان بالعالم. 


إنه ما يربطهما ببعض. وكامي لا يدعوك إلى الانتحار والحزن. وإنما يدعوك إلى التمرد على هذا الوضع، على هذا اللامعقول. كيف تتمرد؟ بأن تواجه اللامعقول وأن تعايشه! أن تواجه المستحيل وتسعى لامتلاكه كما فعل الإمبراطور كاليجولا عندما أراد أن يمتلك القمر، لا تعترف بالقيم الأخلاقية السائدة، ولا تكن منتميًا إلى معايير اجتماعية معينة، وإنما اصنع للحياة قيمتها المتجددة وحقق لنفسك حريتها الخاصة بها! هذا بعض ما يقوله لك كامي في كتابه هذا وكتبه الأخرى. إن ألبير كامي بغير شك فنان كبير ومفكر كبير كذلك. وفي بعض كتبه كرواية الطاعون مثلا – يؤكد كثيرًُا من القيم الإنسانية الجليلة، ويعبر عن تضامن الجماعة البشرية في مواجهة خطر عام يهدد حريتها وحياتها، كما يكشف عن مواقف الفئات المختلفة من الناس إزاء هذا الخطر العام الذي يرمز به إلى النازية أو إلى أي وضع استبدادي آخر. إن أدب ألبير كامي بصفة عامة هو دفاع عن الفرد في مواجهة الطغيان والاستبداد أيًا كانت طبيعته وأيًا كان مصدره، في مواجهة انهيار المجتمع الرأسمالي. ومقدار الدلالة والقيمة في معاييره إنه بالتأكيد أدب يرفض الاستسلام والهزيمة.."

بعد هذا الكلام المشرق تقول .. "ولكنه يعجز في الوقت نفسه عن رؤية قوانين الانتصار! إنه يتذرع بأخطاء في التطبيق الاشتراكي ليدين المجتمع الاشتراكي سواء بسواء كما يدين المجتمع الرأسمالي. إن تمرده في الحقيقة يقدم رؤيا للعالم فيها انفعال وحرارة ورغبة بطولية في تخطي المستحيل .. لكن رؤياه عاجزة عن العمل المنتج، قاصرة عن تحقيق الحرية الحقيقية لمجموع البشر، غير مؤمنة بالعلم باعتباره يقينًا موضوعيًا من ناحية، وباعتباره قوة فعالة في تغيير الحياة من ناحية أخرى .." ..وكنت أحب أن أعرف:

كيف كانت رؤياه رغم ما قلت عاجزة عن العمل المنتج؟

ويدهشني أنك تردد في ذلك ما سبق أن اتهمت به الوجودية من أمثال تلك التهم التي رُمى بها سارتر من قبل الماركسيين. أمثال لوكاس ونافيل وكانابا، والتي يجملها سارتر في مقاله "الوجودية مذهب إنساني" حيث يقول "إنهم يتهمونها أولًا بأنها دعوة للاستسلام واليأس لأنه ما دامت كل الحلول مستحيلة فإن العمل في هذا العالم مستحيل كذلك ولا جدوى منه، وحينئذٍ تكون الوجودية فلسفة تأملية، ومادام التأمل رفاهية ومن الكماليات فهي لن تكون سوى فلسفة برجوازية تنضاف إلى الفلسفات البرجوازية الأخرى. وهذا بالذات هو رأي الشيوعيين في الوجودية ..."

وهذه التهم بالذات عفى عليها الزمن لأن الوجودية إذا كانت فلسفة حرية وإيمان بالفرد فهي فلسفة إيجابية ودعوة للعمل. وقد رأينا الوجوديون يناصرون قضايا الحرية في كل مكان، ويشدون من الحركة العمالية في العالم كله. 

ولم تذكر كيف تكون رؤياه قاصرة عن تحقيق الحرية الحقيقية؟ وما هي هذه الحرية الحقيقية؟ ومرة ثانية لا تقل لي يا أخي إنها الحرية الماركسية. 

وهل أنت نفسك تؤمن بالعلم باعتباره يقينًا موضوعيًا؟ إن أينشتاين لم يؤمن به كيقين موضوعي، وبافلوف لم يؤمن به كيقين موضوعي، والمتتبع لكلام بافلوف يخرج بنتيجة واحدة أن بافلوف هو سيزيف وأنه يحمل حجره، وأن يدحرجه رغم يقينه من لا جدوية عمله لا جدوية نهائية. 

أما باعتبار العلم قوة فعالة في تغيير الحياة فهو قول حق ولم يحدث أن رفضه كامي أو رفضه مثقف. لكن كان الأولى بك أن تقول تغيير وجه الحياة لا الحياة نفسها، لأن الحياة إذ تغيرها فماذا ستكون؟ إن الحياة ستظل هي الحياة، ونحن فيها كسكان كهف أفلاطون، منا من يهتم بالصرصار وحياته، ومنا من يصب انتباهه على حجر بعينه ويصنع منه طاحونه، ومنا من يقلد الناس، ومنا من يكتب وآخرون يقرؤون، وتتوالى الأيام ونشاط الإنسان يدب في الكهف، وشكل الحياة يتغير باستمرار، لكن الحياة نفسها: أننا، والكهف، وطاقة الوجود؛ سيظل هذا الثالوث بلا تغيير: أن الإنسان يحمل صخرته ويدحرجها، ولا تقل لي أنه أرساها على أكثر من قمة، لأن ما أرساه ليس الحجر، ليس عبء الوجود، لكنه شيء آخر كالذي يلهو به أبطال كهف أفلاطون عن حقيقة الوجود!!
  
وقد كنت أحب أن أتبين معك حقيقة أخطاء "الاشتراكية" الأوروبية التي تحدثت عنها، وهل هناك مفارقة بين "الاشتراكية" في النظرية وفي التطبيق؟
  
كما تعرف: المذهب هو النظرية في التطبيق: أو هو الأفعال لا الأقوال، أو أن هذا هو ما تقضي به الظاهراتية. وأنا حينما أريد أن أصدر حكمًا على الاشتراكية الأوروبية لا يسعني إلا أن أناقشها في التطبيق، [...] ولست أجدها في التطبيق إلا وقد ارتكبت نفس الذنب الذي ارتكبته الرأسمالية: أنها تضع المذهب فوق الإنسان، والدولة فوق الفرد، وأن الحكم النهائي فيها للممتازين لا للعمال. والمتأمل لتاريخها في الاتحاد السوفييتي يجد أن تاريخها ليس هو تاريخ الشعب العامل فيه، لكنه إرادة من يتولى الحكم: لينين، أو ستالين، أو مالينكوف، أو خروشوف، أو من سيأتي بعدهم .. غيِّر الحكام في روسيا تتغير سياسة الحكم واتجاهه.
  
وإذا كانت "الاشتراكية" هي الحل الجذري لمشكلة الإنسان الاقتصادية فهي ليست الحل لمشكلته الميتافيزيقية أو النفسية أو الكونية. ومثلما قلت أنت للأخ محمد عفيفي يومًا ما، أن الجنس ليس هو العامل ذو الصدارة في مجموع حركات الإنسان النفسية والاجتماعية والتاريخية والفكرية، فكذلك رغيف الخبز ليس هو العامل ذو الصدارة. لكن الاثنين معًا عاملان من ضمن العوامل الأخرى. وإذن فأي مفكر يضع الاشتراكية الأوروبية في الميزان ويحاسبها محاسبته للرأسمالية لا يمكن أن نحكم عليه بأنه قد عمي عن رؤية قوانين الانتصار. لذلك أهديك ترجمتي هذه للمتمرد لألبير كامي كذلك، لأن رؤياه لواقع عصرنا، محاولة المخلصة لفهم العصر الذي نعيش فيه، وتقييم جاد لمذاهبه في النظرية والتطبيق، ويقيني أن عصرًا كهذا أدت مذاهبه واعتراكها إلى قتل واستعباد أكثر من سبعين مليونًا من البشر لهو عصر لا يستحق منا أن نحكم عليه وأن ندينه بقدر ما يستحق منا أن نتعرف إلى الأسباب التي أدت إلى تأدت به إلى هذا الحال. ونحن الآن أمام معسكرين كلاهما يحمل أعلام الحرية ويتذرع باليقين العلمي الموضوعي ويتعلل بالعدالة، وبأرفع شعاراتها الإنسانية؛ وكلاهما له مفكروه ومقننوه وعلماؤه العظام. لكن كليها أقام معسكرات للاعتقال ومراكز السخرة وقتل الإنسان باسم المبدأ.
   
أفلا يستحق المعسكران أن نلقي عليهما الأضواء محاولين فهمهما مهما كانت نتيجة المحاولة؟
    
ولو كنت أنا وأنت من الشباب لسارعنا ربما إلى الحكم على أيهما وإدانته، لكنا لسنا منهم، وأحسبنا تعدينا مرحلة الأحكام إلى مرحلة الفهم والإدراك، فإذا كنت قد كتبت لك هذه المقدمة وأهديتك جهدي المتواضع فما ذلك إلا لأني أحب فيك روح سيسيف وأحببت إصرارك الإرادي على حمل الحجر والصعود به المرة تلو المرة، ولأني خشيت المزيد من لومك وعتابك الرقيق غير المباشر، ثم لخوفي من انصراف قرائك عني، وأنا حريص عليهم، فهم خلاصة المثقفين والنابهين، حرصي على صداقتك، فهي أغلى عندي من كل كتاب. 
  
 عبد المنعم الحفني
من: ترجمة كتاب المتمرد لألبير كامي
(الترجمة العربية منشورة في 1966 أو 1967)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ما هو الفن الطليعي؟ (Avant Garde)

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

فن الكم = Quantum art

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات