لماذا؟




ألبير كامو
ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد

ليست هناك إلا مشكلة فلسفية هامة واحدة ألا وهي مشكلة الانتحار. فالحكم عما إذا كانت الحياة جديرة بأن تعاش أم لا، إنما يرتفع إلى الجواب على المسألة الأساسية في الفلسفة وتأتي كل مسألة أخرى بعد ذلك [...]

فإذا سألت نفسي كيف يمكنني أن أحكم بأن هذا السؤال أكثر أهمية من غيرها، فإنني أجيب بأن المرء يحكم عن طريق الأفعال التي تستتبع منه. عمري ما شاهدت إنسانًا ينتحرُ من أجل البحث الأنطولوجي. وإن جالليو الذي ذكر حقيقة علمية ذات أهمية كبيرة، نبذها بمنتهى السهولة حالما تعرضت حياته للخطر. وبمعنى ما من المعاني، حسنًا فعل. وما كانت هذه الحقيقة تستحق عناء المخاطرة. فسواء كانت الأرض هي التي تدور حول الشمس أو الشمس هي التي تدور حول الأرض فهي مسألة من قبيل عدم الاكتراث العميق. بل يمكننا أن نقول إنها مسألة عقيمة. ومن جهة أخرى أرى، أناسًا كثيرين يموتون بسبب أن الحياة عندهم تستحق أن تعاش. وأرى آخرين يذهبون ضحية القتل بسبب الأفكار أو الأوهام التي تزودهم بسبب كاف للحياة (وما يقال عنه سبب كاف للحياة هو سبب رائع للموت) ولهذا فإنني أخلص إلى أن معنى الحياة هو أهم مسألة تثير الإلحاح. 


*** *** ***

لم يحدث من قبل أن درس الانتحار إلا على أساس أنه ظاهرة اجتماعية. ونحن معنيون هنا، بالعكس، منذ البداية، بالعلاقة القائمة بين التفكير الذاتي والانتحار، فسلوك مثل هذا يتم تحضيره داخل صمت القلب شأنه في هذا شأن العمل الفني الرائع. والإنسان نفسه يجهل هذا. فذات مساء يضغط على الزناد أو يقفز. ولقد قيل لي عن وكيل إحدى البنايات كان قد انتحر، أنه قد فقد ابنته منذ خمس سنوات مضت وأنه قد تغير من ذياك الوقت تغيرًا كبيرًا وأن هذه التجربة، قد "هدمته" ولا يمكننا أن نتصور كلمة أخرى أدق من هذه الكلمة انطباقًا على حالته. فبداية التفكير هي بداية التهدم. وليست للمجتمع إلا صلة واهية بمثل هذه البدايات. فالدودة في قلب الإنسان. وهناك ينبغي البحث عنها، وعلى الإنسان أن يقتفي ويتفهم هذه اللعبة المميتة التي تفضي به من النورانية القائمة في وجه الوجود إلى الفرار من الضوء. 


*** *** ***

ولكن إذا كان من الصعب تحديد اللحظة الدقيقة، الخطوة الحاسمة التي يختار فيها العقل الموت، فإن من السهل بيننا أن نستنتج من الفعل نفسه النتائج التي يتضمنها. فبمعنى ما من المعاني، كما هو الشأن في الميلودراما، يرقى قتلك لنفسك إلى مرتبة الاعتراف. فهو اعتراف بأن الحياة كثيرة عليك للغاية أو أنك لا تفهمها. ودعنا لا نشتط في سرد مثل هذه التماثلات، بل دعنا نعود إلى الكلمات الجارية. فقتل الإنسان نفسه هو مجرد اعتراف بأن هذه الحياة لا تستحق المشقة. بطبيعة الحال العيش ليس سهلًا أبدًا. والإنسان يواصل أداء الحركات التي يأمره بأدائها الوجود لعدة أسباب أولها العادة. والموت اختيارًا يتضمن أنك قد اعترفت، ولو غريزيًا، بسخف هذه العادة، وعدم وجود أي سبب عميق يدعو للعيش. وجنونية الانفعالات اليومية، ولا جدوى المعاناة. 

*** *** ***

لكل الأعمال العظيمة ولكل الأفكار العظيمة بداية مضحكة؛ فجميع الأعمال العظيمة غالبًا ما تولد على ناصية شارع أو في باب دوار لأحد المطاعم. وهكذا الأمر بالنسبة للعبث. فالعالم العَبِثُ أكثر من أي شيء آخر يستمد نبالته من هذا الميلاد السخيف. وفي ظروف معينة يكون الجواب "لاشيء" عندما يُسْأَلُ الإنسان عما يفكر فيه ويكون ظاهرًا في الإنسان. وجميع المحبوبين يلِمُّون بهذا جيدًا. ولكن لو كانت الإجابة مخلصة، إذا كانت هذه الإجابة ترمز إلى تلك الحالة الغريبة للنفس حيث يصبح الخواء ذا فصاحة وحيث تتحطم سلسلة الحركات اليومية، وحيث يبحث القلب عبثًا عن الحلقة التي تربطها مرة أخرى، فهنا كما هو الشأن، العلامة الأولى للانهيار.

ويحدثُ أن ينهار المسرح. الاستيقاظ، السيارة العامة، أربع ساعات في المكتبة أو المصنع، الأكل، السيارة العامة، أربع ساعات من العمل، الأكل، النوم، والاثنين .. الثلاثاء .. الأربعاء .. الخميس .. الجمعة السبت بنفس الروتين- ويمكن اتباع هذا الدرب بسهولة. لكن ذات يوم ينشأ التساؤل "لماذا؟"، ويبدأ كل شيء في خلال هذا السأم يصطبغ بالدهشة. أقول "يبدأ" – وهذا هام جدًا. فالسأم يأتي في نهاية الأفعال الآلية للحياة، لكن السأم في الوقت نفسه هو بداية دافع الوعي. إنه يوقظ الوعي ويثير ما يتبع بعد هذا. وما يأتي بعد هذا هو العودة التدريجية إلى السلسلة، أو اليقظة المحددة. وفي نهاية اليقظة تأتي النتيجة في حينها: الانتحار أو الشفاء. السأم في حد ذاته فيه شيء يبتعث شعور المرض والإعياء. وهنا علىَّ أن أستنتج أنه شيء جميل نظرًا لأن كل شيء يبدأ بالوعي ولا تكون لأي شيء قيمة إلا عن طريق هذا الوعي. ولا يوجد شيء أصيل في هذه الملاحظات. لكنها واضحة؛ أي أنها كافية لفترة ما أثناء التعرف الأولي لأصول العبث. ومجرد الهم كما يقول هايدجر قائمٌ في أصل كل شيء.

وبالمثل خلال الحياة الروتينية المعتادة، يحملنا الزمن. لكن دائمًا ما تأتي اللحظة التي يتوجب علينا فيها أن نحمله. إننا نعيش على المستقبل: "غدًا"، "فيما بعد"، "عندما تكون قد شققتَ طريقك"، "ستفهم عندما تكون قد كبرت بما فيه الكفاية"، ومثل هذه الأمور هي أمور رائعة نظرًا لأن المسألة قبل كل شيء هي مسألة الموت. ومع هذا يأتي اليوم الذي يلاحظ فيه الإنسان أو يقول إنه في الثلاثين. وهكذا يؤكد شبابه. ولكنه في الوقت نفسه يضع نفسه في علاقة مع الزمن. إنه يحتل مكانه في الزمن. وهو يعترفُ بأنه يقف عند نقطة معينة في منحنى يعرف أن عليه أن يسافر حتى نهايته. إنه يمتُّ إلى الزمن، وبالرعب الذي يجتاحه يتعرف على أسوأ أعدائه: الغد. إنه يشتاق الغد، على حين كل شيء فيه يجب أن يرفض هذا الغد، وما تمرد الجسد هذا إلا العبث.


*** *** ***

ولعل أشد الجميع اهتمامًا هو كيركجورد، ففي جانب من وجوده على الأقل نجد أنه قد فعل أكثر من مجرد اكتشاف العبث. إن من يكتب: "إن أشد الصمت عنادًا ليس هو الامتناع عن الكلام، بل هو التحدث" يؤكد منذ البداية أنه ليست هناك حقيقة مطلقة أو قادرة على التعبير بصورة مرضية عن وجود هو بحد ذاته مستحيل.

مقاطع من: 
أسطورة سيزيف
تأليف: ألبير كامو
ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد
الناشر: دار المفكر، القاهرة
1964
__________________
اقرأ آيضًا:

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

ما هو الفن الطليعي؟ (Avant Garde)

فن الكم = Quantum art

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات