الانتحار




مقطع من رواية: الشياطين لدوستويفسكي
ترجمة: سامي الدروبي 
(نشرت لأول مرة بالروسية في عامي 1871-1872)

  • لكنه قد أساء الفهم على أي حال، أما أنا فإنني أبحث فقط في الأسباب التي تجعل الناس لا يجرؤون أن يقتلوا أنفسهم، وليس لهذا من قيمة.
  • لا يجرؤون ؟ ما هذا الذي تقول؟ هل الانتحارات قليلة إلى هذا الحد من القلة؟
  • نعم قليلة جدًا.
  • أهذا رأيك؟
لم يجب بل نهض وأخذ يتمشى في الغرفة طولا وعرضًا، شارد الذهن. سألته:
  • وما الذي يمنع الناس من قتل أنفسهم في رأيك؟
فنظر إلى ذاهلًا، وكأنه يحاول تذكر ما كنا نتكلم فيه، ثم أجاب بقوله:
  • لا أدري بعد على وجه اليقين. غير أن هناك وهمين شائعين يمنعاننا من ذلك.. شيئين لا ثالث لهما، أحدهما صغير جدًا، والثاني كبير جدًا ولكن الصغير كبير أيضًا.
  • فما هو الصغير؟
  • الألم.
  • الألم؟ أهو هام لهذا الحد … في مثل هذه الحالة؟
  • نعم هام جدًا. هناك فئتان من الناس: الذين ينتحرون بسبب عذاب كبير أو ينتحرون غضبًا، أو يكونون مجانين، أو ينتحرون لأي سبب آخر … وهؤلاء ينتحرون فجأة . وهم لا يخطر الألم ببالهم كثيرًا. ففي دقيقة واحدة ينتهي كل شيء. أما الذين يفكرون ، فهؤلاء يحسبون حساب الألم كثيرًا.
  • هل هناك أناس ينتحرون وهم يفكرون؟
  • كثيرون ولولا الأوهام الشائعة، لكانوا أكثر، ولكان عددهم كبير جدًا ولكانوا كل الناس.
  • كل الناس؟ حقًا؟
لم يجب بكلمة.
  • ولكن أليس هناك وسيلة للانتحار دون ألم؟
قال وهو يقف أمامي:
  • تخيل صخرة في حجم عمارة كبيرة، وتخيل أنها بارزة فوق الطريق وأنت تحتها، هل تحسُّ بألم إذا سقطت على رأسك؟
  • صخرة في حجم عمارة؟ سوف أخاف طبعًا.
  • لا أتكلم عن خوفك، ولكن هل يمكن أن تشعر بألم إذا هي سقطت على رأسك؟
  • صخرة كالجبل، وزنها مليون طن؟ لن أحس بشيء طبعًا.
  • ومع ذلك فإنك إذا وجدت في هذا الموقف ستظل تخاف من أن يصيبك الألم، ما بقيت تحت الصخرة. وأكبر العلماء، وأعظم دهاقنة العلم، سيخافون جميعًا، سيخافون خوفًا كبيرًا من أن يتألموا. هم يعلمون أنهم لن يتألموا، ولكنهم سيخافون من أن يتألموا.
  • وما هو السبب الثاني؟ السبب الأكبر؟
  • الحياة الآخرة؟
  • أي العقاب؟
  • العقاب ليس له شأن كبير، بل الحياة الآخرة. الحياة الآخرة فقط.
  • أليس هناك ملحدون لا يؤمنون بالآخرة؟
لزم الصمت، قلت:
  • لعلك تقضي في الأمر على أساس شعورك أنت؟
أجاب وقد احمر وجهه:
  • كل إنسان لا يستطيع أن يحكم في الأمر إلا على أساس شعوره. سوف تكون الحرية كاملة متى استوى عند الإنسان أن يعيش أو يموت تلك غاية كل شيء.
  • هدف ؟ ولكن من الممكن إذن أن أحدًا لا يرغب في أن يعيش؟
  • نعم.
كذلك أجاب بلهجة قاطعة، قلت:
  • إن الإنسان يخاف من الموت لأنه يحب الحياة. هكذا أفهم أنا الأمور. ذلك ما أرادته الطبيعة.
صاح يقول وقد اتسعت عيناه:
  • هذا جبن. وتلك هي الخدعة. الحياة ألم. الحياة رهب. الإنسان شقي. كل شيء الأن ليس إلا عذابًا ورعبًا. الإنسان يحب الآن الحياة لأنه يحب العذاب والرعب. ذلك ما حصل، الحياة ثمنها العذاب والرعب تلك هي الخدعة. اليوم ليس الإنسان إنسانًا بعد. سيجيء إنسان جديد، سعيد فخور. الإنسان الذي يستوي عنده أن يعيش وأن يموت سيكون هو الإنسان الجديد. الإنسان الذي سينتصر على الألم والرعب، سيكون هو نفسه الإله. أما الإله الآخر فلن يكون له وجود بعد ذلك.
  • فهذا الإله إذن موجود في رأيك؟
  • ليس موجودًا، ولكنه موجود، إن الصخرة ليس فيها ألم، ولكن الألم هو الخوف من الصخرة. الإله هو عذاب الخوف من الموت. فالإنسان الذي سينتصر على الألم والخوف، سيكون هو نفسه الله. وسوف تبدأ عندئذٍ حياة جديدة. عندئذٍ سوف يظهر الإنسان الجديد. سيكون كل شيء جديدًا. وسوف يقسمون التاريخ عندئذٍ إلى عهدين: عهدٌ يمتد من الغوريلا إلى انعدام الإله، وعهدٌ يمتد من انعدام الإله …
  • إلى الغوريلا؟
  • إلى التحول الجسمي الذي يطرأ على الإنسان والأرض. سيصبح الإنسان إلها، وسيتبدل جسمه. والكون سيتحول، والأعمال ستتحول، والعواطف والأفكار. ألا تعتقد أن الإنسان يتبدل عندئذٍ جسم؟
  • إذا استوى على الإنسان أن يموت أو يحيا فسوف ينتحر جميع الناس، وربما كان هذا هو التبدل …
  • ما لهذا من قيمة. سوف ينحر الكذب. إن الذي يريد الوصول إلى الحرية القصوى، فعليه أن يملك الشجاعة اللازمة للانتحار. والذي يملك الشجاعة اللازمة للانتحار، فسوف ينفذ إلى سر الخدعة، ليس ثمة حرية أعلى، كل شيء يثوي هنا، وليس وراء هذا شيء، من يجرؤ أن ينتحر فهو الله. كل إنسان يستطيع الآن أن يجعل أن لا يكون ثمة إله وأن لا يكون ثمة شيء. ولكن أحدًا لم يفعل ذلك في يوم من الأيام حتى الآن.
  • غير أن ملايين الناس انتحروا مع ذلك.
  • ولكن لأسباب أخرى دائمًا، انتحروا دائمًا برعب. لم ينتحروا أبدًا لهذا السبب. لم ينتحروا لينحروا الرعب. إن الذي يقتل نفسه من أجل أن يقتل الرعب فقط. سيكون في تلك اللحظة نفسها إلهًا.
قلت:
  • ولكن قد لا يملك الوقت اللازم لهذا؟
فأجاب برفق وكبرياء هادئ، وبما يشبه أن يكون احتقارًا!
  • لا ضير.
وأضاف بعد لحظة.
  • يؤسفني أن يبدو عليك أنك تضحك.
  • وأنا يدهشني أن أراك الآن هادئًا كل هذا الهدوء بينما كنت في الصباح غاضبً حانقًا.

تعليقات

  1. يبدو لي كيريلوف البطل الذي أنطقه دويستوفسكي هنا نتشويا إلى حد بعيد، كثيرًا ما تكون الحوارات عن الموت ممتعة وعميقة، لكني أفكر أن الفارق الذي وضعه البطل بين من يموتون من الرعب ومن يموتون لقتل الرعب هو فارق لغوي ليس أكثر، كنت أحس أنه كان من الأفضل أن يتمسك بالألفاظ التي بدأ بها وهي من يموتون من الرعب ومن يفكرون .. وهي أدق .. لكنه ربما أراد كما هو واضح أيضًا إبراز اضطراب البطل الذي يتحدث

    ردحذف
  2. لا اعتقد ان من ينتحر يفكر فى الالم اوالخوف من الالم لانه غالبا يلجأ للانتحار كوسيله للتخلص من الالم باشكاله المختلفه

    ردحذف
  3. هو فعلا في المقطع بيتكلم عن نوعين من المنتحرين ... اللي بيفكروا .. واللي بينتحروا فجأة غضب أو جنون ... .. البطل هنا بيتكلم عن اللي بيفكروا قبلها لما بيتكلم عن الألم... هو المقطع اللي عجبني فيه الموضوع نفسه بعيدًا عن الآراء اللي ممكن بسهولة تختلف معاها أو تفندها ..شكراا على رأيك

    ردحذف
  4. من فكر قبل ان ينتحر ومن انتحر فجأة كلاهما انتهى الى نفس النتيجه غير ان الاول قد نال النصيب الاكبر من تعذيب نفسه بهذا التفكير.

    ردحذف
  5. صحيح .. بالإضافة إلى ذلك بعض أجزاء التفرقة كانت لغوية أكثر منها فكرية .. فلا أجد فرقًا كما قلت بين من يموت من الرعب ومن يموت لقتل الرعب .. وأراهما صيغتان لحالة واحدة .. لكن التفكير النظري المتعالي هنا قد يؤدي إلى خدع لغوية من هذا النوع.. ربما الجزء الأكثر تماسكًا هنا في حديثه عن الألم هو صورة العمارة التي طورها بعد ذلك في فقرة جميلة في رأيي هي:
    "الألم هو الخوف من الصخرة. الإله هو عذاب الخوف من الموت. فالإنسان الذي سينتصر على الألم والخوف، سيكون هو نفسه الله. وسوف تبدأ عندئذٍ حياة جديدة. عندئذٍ سوف يظهر الإنسان الجديد. سيكون كل شيء جديدًا. وسوف يقسمون التاريخ عندئذٍ إلى عهدين: عهدٌ يمتد من الغوريلا إلى انعدام الإله، وعهدٌ يمتد من انعدام الإله …
    إلى الغوريلا؟"

    ردحذف
  6. من لم يعيش شعور الرغبة في الانتحار لن يستطيع ان يصفه
    الشعور هو الدافع وليس العكس
    فالشعور با لاجدوى هو الدافع الشعور بالبؤس هو الدافع الشعور بالحزن هو الدافع لا ينتحر من كان مرعوبا بل يهرب للنجاة .. اختلف كليا مع الكاتب

    ردحذف

إرسال تعليق

أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

النوافذ

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات