بندول فوكو لأمبرتو إيكو (عرض)
(1)
بندول فوكو(Foucault's Pendulum) هو عنوان الرواية التي كتبها
أمبرتو إيكو بالإيطالية في عام 1988، وترجمت مؤخرًا إلى العربية لأول مرة (ترجمة:
أماني فوزي حبشي؛ مراجعة حسين محمود.- القاهرة: المشروع القومي للترجمة، 2011).
والعنوان يشير إلى البندول الذي صممه ليون فوكو (Léon Foucault) في القرن التاسع عشر (1850)
لإثبات حقيقة دوران الأرض حول محورها. والعنوان معبر بالفعل عن المحتوى، فللبندول دور رمزي
مهم في أحداث الرواية المختلفة فمن ناحية هو تجربة علمية مهمة، ويعتبر ممثلا لنمط
المعرفة العلمية، ولكن تظهر له في أحداث الرواية دلالة مختلفة تنمو مع الوقت من
وجهة نظر الأبطال الثلاثة من ناحية (كازاوبون، وبيبلو، وتيوداليفي) ومجموعة من المهووسيين
بأفكار عبدة الشيطان والقابلاة من ناحية أخرى.
في بداية الرواية يفكر كازاوبون:
"كنت أعرف أن الأرض تدور، وأنا معها، ومعي كنيسة سان مارتان دي شوم وباريس كلها، وكنا جميعًا ندور أسفل البندول، والذي في الواقع لم يكن يغير مطلقًا اتجاه مستواه لأنه من هناك، من حيث كان معلقًا، وامتداد التعليق اللانهائي المثالي للخيط، عاليًا تجاه أبعد المجرات، كانت النقطة الوحيدة الثابتة على الدوام،نقطة النهاية
كانت الأرض تدور، ولكن الموضع المعلق فيه الخيط كان النقطة الوحيدة الثابتة للكون.
إذن لم تكن نظرتي تتجه إلى الأرض بقدر ما تتجه إلى أعلى، حيث كان الاحتفال بسر السكون المطلق. كان البندول يقول لي إنه مع أن كل شيء يتحرك، الكون والنظام الشمسي، السديم والثقوب السوداء، وكل أبناء الانبثاق الكوني العظيم بدءًا من الأيونات الأولى حتى أكثر المواد لزوجة، تظل هناك نقظة واحدة ثابتة، محور ومعلاق، رباط مثالي، تاركة الكون كله يتحرك حولها" (ص 13)
طبعًا النقطة الثابتة هنا مجازية، هي مجرد
تأمل من البطل، الرواية لا تتبنى هذه الرؤية بل تتبنى النقيض.
في موضع آخر يقول بيلبو :
"يا كازاوبون حتى البندول رسول كاذب. تنظر إليه معتقدًا بأنه النقطة الواحدة الثابتة في الكون ولكن إذا انتزعته من واجهة الكونسرفاتورا وعلقته في ماخور سيعمل بالطريقة نفسها. توجد بندولات أخرى، يوجد بندول في نيويورك في مبنى الأمم المتحدة، وآخر في سان فرنسسكو في متحف العلوم ومن يعلم أين أيضًا. كل مركز في العالم يمكن أن يكون نقطة ثابتة، يكفي أن نضع فيه البندول.- الله موجود في كل مكان؟- نعم بطريقة ما. لهذا يشعرني البندول بالاضطراب، يعدني باللانهائية، ولكن يترك لي مسئولية أين أرغب في رؤيتها. لهذا لا يكفي أن يتعبد المرؤ للبندول هناك حيث يوجد، يلزم أن يقرر من جديد ويبحث عن أفضل المواقع، إلا إذا ..- إلا ماذا؟ " (ص 266)
الفكرة هنا أن الأبطال الثلاثة يعانون من
إحباطات مختلفة على المستوى السياسي والخاص، وهم من ناحية أخرى أشخاص أذكياء لهم
ميول عدمية، مع الوقت ينغمسون في لعبة يظنون أنهم يتحكمون بها، متأثرين بانتشار الاهتمام
بموضوعات فرسان المعبد والقابلاه والسحر الأسود، يبدأون في إنشاء أسطورتهم الخاصة، عن فرسان المعبد. مع نمو الوقت ينغمسون في هذه الأسطورة بشكل أكبر من الصحي،
ورغم أنهم على المستوى الواعي يؤكدون ويدركون أنهم يمزحون: يمارسون "محاكاة
ساخرة لمنطق عبدة الشيطان"، وأنهم لا يصدقون ما يؤلفون إلا أنهم يغرقون في
الأحداث بالتدريج.
"لكننا جميعًا كنا مع الوقت نفقد بالتدريج نور الذكاء الذي كان يجعلنا نميز بين التقليد وبين الأصل، بين المجازات وحقيقة الأشياء" (ص 517)
يركِّبون حقائق مع خيالات بطريقتهم الخاصة،
لتنمو أسطورة، تكون لها حياتها الخاصة مع الوقت، بحيث تقضي على خالقيها.
"إذا كان الوجود فارغًا إلى هذا الحد، وهشًا إلى هذا الحد، ويمكن دعمه فقط من خلال وهم البحث عن سر ما، إذن كما قالت أمبارو في تلك الليلة في الخيمة بعد هزيمتها- لا يوجد خلاص، إننا جميعًا عبيد، امنحونا من يسود علينا، هذا هو ما نستحقه..لا علمتني ليا أنه يوجد المزيد ولدي الدليل على ذلك، واسمه جوليو، وهو الآن يلعب في الوادي" ص 683
(2)
القضية الأساسية في الرواية هي قضية المعرفة
ذاتها، وهي الموضوع الحقيقي لأغلب المناقشات بين الأبطال على مدار الرواية، وهي
الموضوع الذي خصص له السفرين الأخيرين التاسع والعاشر من الرواية. وبصراحة لا أرى
أن بسط القضية هنا سيفيد أو سيضيف، الرواية للمنتبه تناولت القضية من زوايا
مختلفة، وكادت أن تخلق جدلية حية بين وجهتي نظر متشابكتين لولا السفرين التاسع
والعاشر الذين لم أحب مكانهما هنا في الرواية رغم أني قد أعيد قراءتهما بشكل منفصل
عن الرواية لاحقًا.
(3)
بنية الرواية مميزة، أولا هي من حيث الشكل
مقسم إلى 10 أسفار، هي نفسها مكونات شجرة الحياة في القابلاه، تندرج داخلها فصول
مرقمة ترقيمًا متصلا منذ بداية الرواية وحتى آخرها. الراوية تتم روايتها من زاوية
كازاوبون في يوم واحد (فهي تبدأ من وجوده في المتحف، لتأتي كل الأحداث -حتى نهاية السفر الثامن- كذكريات أو أفكار أو مشاهدات أثناء وجوده هناك). وينتقل الزمن من خلال تتابع الذكريات للأمام وللخلف، لكن
الانتقالات تتم بوضوح شديد، ويتم إيراد مجموعة من النصوص التي كتبها بيبلو على
الكمبيوتر الخاص به، وهي في الغالب نصوص ذاتية، مع بعض المحاولات الأدبية التي
تتشابك مع الأساطير التي يساهم في خلقها.
(4)
كانت بدايتي مع هذه الرواية مشجعة للغاية: بداية مشوقة، وحبكة مكتملة، وحوارات ذكية، وأشخاص مثيرون للفضول. وبالتوغل في
القراءة، عرفت كثيرًا من التفاصيل عن موضوع لم يكن لي علم به وهو "فرسان
المعبد" بشكل جيد مفصل، يفصل بين الحقائق والأساطير، وما يرتبط بها من موضعات
أخرى. لكن مشكلتي مع الرواية كانت تزداد مع استمراري في القراءة. في رأيي حملت
الرواية كثيرًا من التفاصيل الزائدة، واستمر الكاتب في الإلحاح بالتكرار على أفكار
كانت معلومة بمجرد التلميح، لم أتفهم مثلا السفرين التاسع والعاشر بكل ما فيهما،
وقد احتويا على مونولوجات تميل إلى المقالية، وهو ما لم يزعجني بحد ذاته، ما
أزعجني أن أغلب ما قيل فيهما كان مفهومًا بالفعل، من الرواية، ما قيل فيهما كان من
الأفضل أن يترك للقارئ كي يفكر فيه، لا أن يقال بهذه الاستفاضة، التي سلبت الرواية
كثير من ثرائها، وإمكانات التأويل. القسم رقم 75 مثلا هو عبارة عن سرد مجموعة
تواريخ، هي مفيدة، لكن في رأيي سردها بهذا الشكل على مدى 6 صفحات، في حين أن الفصل
التالي يتطرق لها بشكل أفضل، يمكن بتعديل بسيط أن يغني عنها.
خلاصة ما أريد أن أقوله، أن الرواية التي
جاءت ترجمتها العربية في 718 صفحة، كان بها زوائد كان من الأفضل حذفها، رغم أن عدم
حذفها قد يجعل نقاط معينة واضحة لجميع القراء. ربما سيرد أحدهم أن الكاتب قد قصد
تحديدًا ما تعتبره أنت عرضًا جانبيًا للتطويل، سيورد مثلا هذا المقطع الذي ورد في
نهاية الرواية:
”أن أكتب أو لا أكتب، لن تصنع كتاباتي أي فارق. لأنهم سوف يبحثون عن معاني أخرى، حتى في صمتي . هذه جلتهم. إنهم أمام التجلي لا يبصرون. الملكوت هو الملكوت وهذا يكفي.ولكن اذهب وقل لهم هذا ستجدهم قومًا لا يؤمنون.ومن ثم فمن الأفضل أن أمكث هنا، أنتظر وأنظر إلى التل.كم هو جميل” (ص 702)
أو قد يقتبس هذا القول:
"قيل لهم من قبل إن الإله غامض، بالنسبة إليهم عدم الوضوح هو أقرب شيء إليه، الشيء البعيد المنال هو أقرب شيء للمعجزة" (ص 595)
في النهاية هي وجهات نظر
_____________
_____________
تعليقات
إرسال تعليق
أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء