عالم ويكي والعقليات المسيئة


بقلم: أحمد ع. الحضري

عالم ويكي
     كانت مواقع يوتيوب، وفليكر، ومن بعدها المدونات، والويكي، والفيس بوك ثورية. لأول مرة جاءت هذه الفكرة: صانع المحتوى هو الناس لا أصحاب المواقع. اصنع منصة جيدة قدم ضمانات تقنية، وسياسة جيدة للاستخدام، أعط الناس الحرية، وهم سيقومون بالباقي. على بساطة الفكرة، ورغم محاولات عربية كثيرة لصناعة بدائل لهذه المواقع، فلم ينجح أي موقع عربي في أخذ مكانة حقيقية بين هذه المواقع، لسبب بسيط، أن هذه المواقع العربية افتقرت إلى المكون الأهم: الحرية. المواطن الغربي لا يقبل تقييد حريته، والمواطن العربي لا يثق بطبعه في أي سلطة، ولا يقبل أن يراجع أحدهم ما يكتبه على الفضاء الإلكتروني، ليحدد إذا ما كان صالحًا أو لائقًا. باختصار لم تنجح المواقع البديلة قط في اكتساب ثقة هذه الشريحة من المستخدمين؛ مثلا هل تذكرون الموقع الذي أعلن الإخوان إطلاقه ليكون بديلا عن الفيسبوك، أين هو الآن؟ ولماذا لا يذهب إليه المتحمسون لفكرة تقييد الحريات، لسبب بسيط: الناس كلهم هنا. 



      هل يعتقد أحدكم حقًا أن الفيلم صاحب الضجة هو الفيلم الوحيد الذي يهاجم الإسلام ومقدساته على الإنترنت؟! هناك مواقع بأكملها موجودة. وهو ما يعني وفقًا لعقلية تعاملنا مع الأمور ألا نهدأ ولا نكف عن الصخب، حتى يتم رفع مثل هذه المواقع جميعًا من الإنترنت؛ وهو ما لن يحدث. ويعني أيضًا أن إثارة الأزمات لدينا لا تستلزم إلا قناة مثل قناة الناس، ومذيع مثل خالد عبد الله، وصانعو نيران. وبعد كل هذا ومهما تسببت من ضجة لن تستطيع فعليًا أن تمنع محتوىً أيًا كان من الإنترنت، ببساطة غير ممكن. وإلا ما كان موقع مثل ويكي ليكس قائمًا حتى الآن، رغم ملاحقته من الدولة العظمى في العالم.

      لو استجاب جوجول لجماعة ضغط إسلامية -قامت بنفسها بترويج المادة التي تهاجمها- وحذف المادة، لصار مطالبًا بعد ذلك بالاستجابة لكل جماعة ضغط تثير ضجة مشابهة، سواء كانت: إسلامية، مسيحية، يهودية، بوذية، عبدة شيطان، جماعة عرقية ما؛ وهو ما يعني ببساطة نهاية حقيقية لجوجول كموقع؛ لأن الثقة فيه وفي خدماته المختلفة ستنعدم، وسينتقل صانعو المحتوى إلى مواقع أخرى؛ لكن جوجول اتفقنا معه أو اختلفنا يعمل على أسس وسياسات واضحة، والحذف أو عدمه يكون وفقًا لهذه السياسات. الحل دائمًا مع مثل هذه المواد هو مقاطعة المادة التي نعدها مسيئة والرد عليها. خصوصًا أن الحذف أصبح مستحيلًا عمليًا بعد انتشار نسخ عدة من الفيلم بفضل دعايتنا له. متى سنتعلم أنَّ الحذف لم يعدْ مجديًا أو ممكنًا في عالم اليوم، وأي نظام سيحاول فرض رقابة على العالم الافتراضي هو أضحوكة، بالإضافة إلى أنه غير فعال ولا عملي.

     نحن أكثر المستفيدين من الإنترنت بشكله الحالي، الإنترنت بالنسبة لنا بديل عن المكتبة، والجامعة، والتلفزيون، والراديو، ووسائل الاتصال.... الإنترنت يقدم لنا موادَّ ومعارف وبرامج بكفاءة وفعالية، وبأسعار زهيدة أو منعدمة. نعلم جميعًا أن مؤسسات المعرفة لدينا قليلة وضعيفة وعاجزة في أوقات كثيرة؛ وتمارس القمع والمنع والحجب وفق هواها. نعلم أيضًا الدور الذي قام به الإنترنت في ثورات الربيع العربي، وهي ثورات غيرت العالم للأبد. الإنترنت فرصة لسد فجوات معرفية بيننا وبين الغرب فرضت علينا فرضًا. فرصة لهز قمع المؤسسات والدول في العالم العربي، فرصة للتعلم. وضريبة التعامل معها فقط هو أن تكون عقلياتنا أكثر انفتاحًا وتفهمًا، في التعامل مع الأمور، وفي الرد على الاستفزازات. باختصار الإنترنت كتكنولوجيا بدأت تغيرات اجتماعية ضخمة في العالم كله شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالا، وهي تغيرات ثورية بدأت فقط ولم تنته، ولن تنتهي لمجرد أنك تريد ذلك. الحل هو التعامل بفهم وإيجابية، لأن أساليب الصخب والتشنج مضرة لمن يقوم بها أكثر من ضررها لمن أغضبه.

     السؤال الذي يجب أن نطرحه الآن هو: لماذا يظل المحتوى الذي نقدمه على الإنترنت باللغات المختلفة بهذا الضعف كمًا ونوعًا؟ وستكون إفادة هذا السؤال أكثر بكثير من إثارة ضجة مفتعلة حول ما إذا كان من الضروري حذف مادة أو لا من على أحد مواقع الإنترنت.

تعليقات

  1. حتى الآن لا أجد أن العالم العربي قد استفاد حقاً من إمكانيات الإنترنت المهولة، بل هناك من يتخوفون من وجوده بصفته نافذة للشياطين.. موضوع مهم يا أحمد وملهم.

    ردحذف
  2. عارف: هم يتخوفون في أحاديثهم فقط، وعلى الآخرين، أما هم فيفعلون ما يشاؤون، هكذا الجميع يريد أن يسيطر على غيره وهو لا يستطيع حتى أن يسيطر على نفسه :)

    ردحذف
  3. رحاب: سعيدٌ أن أعجبك، شكرا لمرورك، وأتمنى أن تواصلي متابعة المدونة.

    ردحذف

إرسال تعليق

أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

النوافذ

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات