الحرية والثقافة لجون ديوي ..3

غلاف الأًصل الإنجليزي في إحدى طبعاته


اقرأ أولا: 

 

         دراما من ثلاثة فصول

في الفصل الثاني من الكتاب يميز المؤلف بين نوعين أو فهمين للحرية، يتبنى الأول مفهوم الحرية الفردية كما عرفته أمريكا منذ كتابة الدستور، بينما يعرف الفهم الثاني الحرية لا بشكلها الفردي بل يراها كحرية جماعية؛ يتبنى الأول الحريات كمصدر أساسي للدستور، بينما يتبنى الثاني العقل كأساس للقانون والحريات معًا، وبالتالي فالأحرار وفقًا لهذا المفهوم الثاني هم من يوجهون سلوكهم تبعًا للعقل وحده، وبالتالي فمن يتبعون أهواءهم ليسوا أحرارًا وفقًا لهذا الفهم. ويلقي الكتاب الضوء في هذا السياق على تبني دول الاستبداد الجماعي للفهم الثاني وتسخيرها كل مواردها للسخرية والحط من الحريات الفردية. وفي الفصل الخامس يرى الكتاب أن "قصة هذا التطور التاريخي من القانون الطبيعي إلى الحقوق الطبيعية في القرن الثامن عشر فصل من أهم فصول الإنسان، العقلي منه والأخلاقي"  (ص 105).


ويتتبع الكتاب النظريات الديمقراطية، فيقسمُ تاريخها من وجهة نظره إلى ثلاث مراحل مختلفة، المرحلة الأولى منها تبنت– كما أشرنا سابقًا – فهمًا ما للطبيعة البشرية يرى أن الإنسان يميل ويطمح للحرية بشكل طبيعي، وبقدر ما كان هذا المفهوم ثوريًا من جوانب كثيرة إذا قورن بالنظريات القديمة التي كانت تعتمد على العقل كمصدر للحرية، إلا أن هذا الفهم فهم اختزالي وناقص للطبيعة البشرية. أما المرحلة الثانية فتتمثل في الانتقادات الكثيرة التي وجهتها الدول الاستبدادية لهذا المفهوم للحرية، مستغلة المشاكل التي ظهرت فيه بفعل تغير الظروف الحديثة عن ظروف النشأة الأولى. ثم تأتي المرحلة الثالثة –وهي الضلع الثالث من مثلث هيجلي في طابعه- وهي فصل ما زالت أحداثه تجري ويصفه ديوي هنا كأنه اجتماع النقيضين الذين برزا في المرحلتين السابقتين، وهو يرى ضرورة استعادة الصلات الأخلاقية التي تربط المجتمع بالحرية خلال هذه المرحلة، من خلال إعلاء القيم والممارسات التي تؤدي إلى التسامح وقبول الخلاف. وهو يعتقد أن الديمقراطية بشكلها الحالي- وقت كتابة الكتاب- غير كاملة، ولا يمكن أن نتحدث عن ديمقراطية كاملة في أي وقت في ظل مجتمع لا يتقبل الخلاف، ولا يمكن الحديث عن ديمقراطية كاملة في مجتمع يضطهد جزءًا من مواطنيه حسب لون البشرة.

ويوضح الكتاب أن التهديد الأخطر الذي يواجه الديمقراطية ليس مصدره دول الاستبداد الجماعي، بل "إن مصدر التعب الأساسي هو وجود تصدع أو انقسام ذاتي في مواقفنا العادية التي نتخذها عندما نقول أننا نعتمد في الأمور السياسية على المناقشة والإقناع، ثم نعتمد فعلا في دأب وانتظام على طرق غيرها فيما نسعى للوصول إليه من نتائج في أمور الأخلاق والدين، أو في أية ناحية أخرى نعتمد فيها على شخص أو جماعة من الناس نعدهم ثقات أو  لهم سلطة أو نفوذ." (ص128-129)


العلم والطبيعة البشرية

حُكِيَ كثيرًا عن الكيفية التي سيحسن العلم من الحياة البشرية، وكيف سيقضي بالضرورة على الأساطير والجهل، ولكن الناظرُ للأحوال الحديثة يرى كيف استخدمت منتجات العلم التقنية نفسها في الدعاية والتوجيه لأفكار بعينها، وتحولت بهذا لوسيلة في السيطرة أنجح كثيرًا من الرقابة التقليدية على المطبوعات. كما أن مؤسسات العلم نفسها لا تعمل بل من المستحيل أن يسمح لها بالعمل بالطريقة التي تهواها دون أن يتم تنظيمها بشكل سياسي، " لقد قامت ألمانيا النازية بتقرير ما تعده حقيقة علمية في علم الإنسان من حيث الأجناس والسلالات البشرية. وقررت موسكو أن مذهب مندل في الوراثة فاسدٌ من الوجهة العلمية، ثم حددت هي نفسها الاتجاه الذي ينبغي أن يسير فيه علم تحسين النسل" (ص134)، وحتى في المجتمع الديمقراطي فالبحوث العلمية يتم تنظيمها من قبل حكومات تحدد الأولويات، وتوجه التمويل، وهو ما يؤثر على اتجاه سير البحوث العلمية. وهذا لا يعني استنتاج أن العلم سيء، ولا ينفي العديد من النتائج الإيجابية، ولكنه يعني ضرورة الانتباه إلى الاتجاه الذي يتم توجيه البحوث العلمية نحوه.

لكن الحديث عن العلم وأثره لا ينبغي أن يقتصر على نتائجه أو آثاره، فالعلم كذلك منهج وصيغة جديدة للتفكير، فالمشتغلون بالعلم يتأثرون به ويتبنون طائفة من العادات المرتبطة به، ومنها " الاستعداد لتعليق الحكم والاعتقاد، والقدرة على الاستمرار في التشكك والارتياب إلى أن تتوفر الأدلة، بدلا من الاتجاه إلى نتيجة يميل إليها الباحثُ نفسه شخصيًا ويؤثرها على غيرها؛ ومنها القدرة على الاحتفاظ بالأفكار مائعة معلقة، واستعمالها على أنها مجرد فروض توضع موضع التجريب والتمحيص بدلا من اعتبارها عقائد حتمية يجب توكيدها. ولعل أهم تلك المميزات كلها هو ذلك الاستمتاع بالعمل في ميادين جديدة من ميادين البحث العلمي وفي معالجة مشكلات جديدة" (ص 145) ولكن هذا التأثير لم يمتد لأكثر من فئة محدودة من المجتمع، إلا أنه يؤكد في المقابل: "لو أني تلطفت في القول لقلت إنه لا يليقُ بمن تدفعهم الروح العلمية الأخلاقية أن يؤكدوا أن غيرهم من الأشخاص لا يستطيعون أن يحصلوا على مثل هذه الروح وتلك الأخلاق" (ص146) وهذا الوضع يؤكد على أن المسألة مسألة ثقافة، وهذه الفجوة بين طائفة قليلة تتحلى بالروح العلمية وأغلبية لا تتحلى بها يخلق أزمة خطيرة ينبغي مواجهتها عن طريق تعليم يؤكد على أهمية الحوار وتعدد الآراء والاستماع إلى الرأي الآخر ولا يكتفي بالتوجه نحو محو الأمية؛ لأن " مدَّ الصفات التي يتكون منها الموقف العلمي حتى يصل إلى أكبر قدر ممكن من الناس، مسألة تختلف كل الاختلاف عن نشر نتائج علوم الفزياء والكمياء والحياة والفلك" (ص152)

الديمقراطية وأمريكا

يقول ديوي عندما عدت إلى جفرسون لأستلهمه وأستشهد به أكثر من مرة على مدار الكتاب؛ فقد كان ذلك لأنه أول وأصدق من تحدث عن الديمقراطية بمثل هذا العمق، وهو يقتبس قول جفرسون "كلما جدت مستكشفات، وظهرت حقائق جديدة وتغيرت الآراء، وتبدل سلوك الناس بتبدل الظروف والأحوال، وجب أن تتغير المؤسسات وتتطور حتى تتمشى مع العصر في سرعته." (ص157)  ويقتبس أيضًا قوله " لكل جيل الحق في أن يختار لنفسه شكل الحكومة الذي يعتقد أنه يعاونه على تحقيق سعادته"  (ص 157)، وهو يؤكد أن الحفاظ على شكل المؤسسات القائم يختلف عن الحفاظ عن الديمقراطية، بل إنه قد يكون خطرًا على الديمقراطية نفسها لأن التغيرات بشكل عام والتغيرات الاقتصادية بشكل خاص التي جرت أدت إلى حدوث العديد من المشكلات أشاعت الفوضى والتردد نتيجة لاتخاذ تشكيلاتنا السياسية شكلها الذي كانت عليه. وهو هنا يدعو إلى "البحث عن الطراز التعاوني القائم على أسس علمية" (ص75)، ويشير إلى أهمية وجود هيئات محلية فاعلة تصل المواطنين بعضهم ببعض وتساعد على زيادة فعالية فهمهم لأمور السياسة ومصالحها، وبالتالي زيادة فعالية النظام بأكمله في تحقيق الاحتياجات الأكثر إلحاحًا. ويؤكد أن المشكلات التي تواجه أمريكا لا يجب أن تدعو إلى تثبيط الهمم بل يجب أن تدعونا إلى توسيع نطاق الديمقراطية وبسطها بحيث تكون جزءًا من طريقة التعامل اليومي للأفراد، وبحيث يكون هؤلاء الأفراد أكثر قدرة على فهم مصالحهم بشكل أكبر.


خاتمة

تحمسي لعرض هذا الكتاب بهذا التفصيل، راجع إلى نقاط تشابه كثيرة يمكن أن نلمحها بين الأوضاع التي يتحدث عنها الكتاب والأوضاع التي نعيشها اليوم في مصر –وربما أيضًا في أمريكا- رغم اختلاف الأسباب والظروف التاريخية، و حرصي على إيراد هذا الكم من الاقتباسات التي أطالت العرض ربما بشكل أكبر مما يحتمله المقام هنا، يعود إلى رغبتي في نقل حالة الكتاب وأسلوب حواره وعدم الاكتفاء ببسط الأفكار العامة.

ديوي في هذا الكتاب متحمس للديمقراطية بشكل كبير، ولكن حماسه لا يمنعه من التأكيد على أهمية إعادة النظر المستمرة في الأحوال القائمة، لكي يكون دفاعنا عن الأفكار ذاتها لا عن المؤسسات التي اصطنعها جيل ما كوسيلة -كان يراها مثلى- لتحقيق هذه الأفكار. ديوي هنا قادر على التمييز بين جوهر الديمقراطية وأعراضها المتغيرة، وهو لا يخشى من تبني بعض العناصر من تجارب مختلفة عن التجربة الأمريكية، أو من الاستفادة من الانتقادات التي وجهت للتجربة الأمريكية وعدم الاكتفاء بالرد الأيدولوجي عليها كما يفعل البعض؛ وهو بهذا يدافع عن فكرة الديمقراطية أبلغ دفاع.

تحمسي أيضًا نابع من اقتناعي أن قراءة هذا الكتاب والتعرف على تحليله للمشكلات التي ظلت موجودة في أمريكا بعد 150 سنة من تطبيق الديمقراطية، وفهم أسباب هذه المشكلات، يدعونا إلى أن ندع جانبًا جلد الذات والمجتمع، وعدم الارتكان إلى الحط من شأن مجتمعاتنا أو الحديث عن عدم استعدادها للديمقراطية (وهو حديثٌ سلبيٌ متراخٍ لا يناسب المرحلة بأي حال)، والالتجاء بدلا من ذلك لحوار جاد بناء قادر على زيادة وعي الجمهور بالمشاكل التي يواجهها، وتوضيح وفضح حملات التوجيه وغسيل العقول التي تتم بشكل منظم، الكتاب يدعونا باختصار إلى عمل جاد فعال.

الكتاب به أفكار متناثرة كثيرة لذلك فقراءة الكتاب ستضيف بالتأكيد ولن يغني هذا العرض عن الأصل حتى إن حاول، والترجمة التي أتحدث عنها هنا ترجمة جيدة، وإن كانت هناك بعض الأخطاء المطبعية والتي تتمثل في بعض الكلمات الساقطة أو المكتوبة بشكل خاطئ، لكنها في المجمل من النوع الذي يسهل اكتشافه بسهولة للقارئ المتيقظ. 

في النهاية الكتاب في مجمله يؤكد على ضرورة فهم وتفعيل دور الثقافة بعناصرها المختلفة في تشكيل مجتمع ديمقراطي سليم، وفي هذا السياق أنهي العرض باقتباس من الكتاب نفسه يقول فيه ديوي: إن " إحلال صناديق الانتخاب، والاقتراع محل استعمال الرصاص؛ وإحلال حقوق التصويت محل الضرب بالسياط، ليعبران عن الإرادة التي تدفعنا إلى إحلال المناقشة والإقناع محل القسر والإكراه. وعلى الرغم مما في هذه العيوب من عيوب ونقائص، ومن ضروب التحزب والعصبية في تحديد القرارات السياسية، فلا شك أنها أدت إلى حصر النزاع الطائفي في دائرة محدودة واستبقته فيها لا يتعداها إلى درجة لم يكن يتصورها أحد"  (ص128)

تعليقات

  1. "فالأحرار وفقًا لهذا المفهوم الثاني هم من يوجهون سلوكهم تبعًا للعقل وحده،" يمكن فهم هذه العبارة في إطار معرفة أن مفهوم العقل المقصود هنا مفهوم واحدي يعتقد في وجود حقيقة واحدة يمكن للعلم أن يصل إليها، وكان من المعتاد في فترات تبني هذا الاعتقاد النظر إلى العالم كآلة ضخمة، وكان أحد العلماء يقول إنه لو عرف كل المعطيات والقوى المؤثرة في لحظة ما فسيكون قادرًا على فهم المستقبل، إذن فالعقل المقصود هنا عقل طموح يظن أنه قادر على اكتشاف حقيقة العالم، وبإيمانه هذا سيكون أقل تسامحًا أو فهمًا من عقل يتقبل إمكانية وجود أفهام متعددة للعالم دون أن يكون أحدها خطأ بالضرورة، وهي النظرة التي أشار لها ديوي نفسه في نقده للماركسية في جزء سابق من العرض

    ردحذف
  2. وليس المقصود بالطبع هو وضع مقابلة بين فهمين للحرية أحدهما عقلي وآخر غير عقلي، أظن أن هذا الفهم مستبعد للعبارة المكتوبة لكني أردت التوضيح احتياطيًا في حالة وجود لبس أو عدم فهم للعبارة

    ردحذف
  3. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    انا احد طلاب العلاقات الدولية احتاج بحث موضوع What is the role of culture in world politics?
    ما هو دور الثقافة في السياسة العالمية؟ من لدية هذه البحوث وتعريف الثقافى السياسية ارجو مساعدتي

    ردحذف

إرسال تعليق

أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

ما هو الفن الطليعي؟ (Avant Garde)

فن الكم = Quantum art

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات