الخوف ونظرية التطور (مقتطفات)



دايفيد باس

تبدي الجرذان رهابًا مذهلا من الجديد، أو نفورًا قويًا من الأطعمة الجديدة (غير المألوفة). توزع الجرذان بشكل نموذجي الأطعمة الجديدة وغير المألوفة في عينات جد صغيرة. وعندما تفعل ذلك فإنها تأكل الأطعمة الجديدة كل على حدة – ولا يحدث أبدًا أن تأكلها مع بعضها. ومن خلال الإبقاء على صغر عينات الطعام الجديد وفصلها عن بعضها بعضًا يكون لدى الجرذان فرصة كي تتعلم ما الذي يجعلها تمرض، وهو ما يجنبها الإفراط في استهلاك السموم التي قد تحمل خطر الموت. ومن الطريف أن الجرذ الذي يأكل طعامًا مألوفًا وآخر جديدًا في الوجبة نفسها ويمرض على إثرها، فإنه يتجنب بعد ذلك الطعام الجديد وحدة. ويبدو كأنه يفترض أن الطعام المألوف سليم، وأن الطعام الجديد هو مصدر المرض. 

وهكذا يمتلك الجرذ طاقمًا من الآليات المتطورة لحل المشكلات التكيفية الخاصة بانتقاء الطعام. 

*** *** ***

أصبح الطعام واستهلاكه من المجازات شائعة الاستعمال. حيث تصبح القصص الطويلة "صعبة الابتلاع" والنثر المتقعر "صعب الهضم"، وضربة الحظ السعيدة "حلوة"، والكتاب الجديد "مثمر" والخيبة الاجتماعية "مرارة" (لاكوف وجونسون، 1980). موجز القول، إن الطعام يتغلغل يوميًا في انشغالاتنا النفسية، وخطاباتنا اللفظية، وتفاعلاتنا الاجتماعية، واعتقاداتنا الدينية. 



*** *** ***

(محاربة المفترسين والأخطار البيئية الأخرى: المخاوف، حالات الرهاب، حالات القلق، "والذكريات التطورية")

يمر كل البشر بتجربة القلق والخوف التي تنبئ بالخطر في بعض المناسبات. يبدو التبرير التكيفي للمخاوف الإنسانية واضحًا. إنها تدفعنا إلى التعامل مع مصدر الخطر، مما يقوم بوظيفة حفظ البقاء. هناك تعارف واسع على ذلك، كما يعكسه الكتاب الأكثر مبيعًا، تبعًا لنيويورك تايمز، بعنوان "هدايا الخوف: إشارات البقاء التي تحمينا من العنف" (دي بيكر، 1997). يحث الكتاب القراء على سماع صوت مخاوفهم الحدسية، لأنها توفر أهم دليل بحوزتنا لتجنب الخطر. 

صاغ إيزاك ماركس (1987) وظيفة الخوف التطورية بشكل جازم ومختصر كما يلي:
   
"يشكل الخوف تركة تطورية تقود المتعضي (Organism) إلى تجنب التهديد، وله قيمة واضحة في حفظ البقاء. إنه انفعال يتولد عن إدراك خطر راهن، أو وشيك، وهو انفعال سوي في وضعيات معينة. القلة فقط يمكن أن تعيش طويلا دون الخوف في بعض الظروف الطبيعية. يجعلنا الخوف نتأهب لفعل سريع في وجه الخطر، ويهيئنا للتصرف جيدًا في الشدائد. إنه يساعدنا على قتال العدو، قيادة السيارة بحرص، الهبوط بالمظلة بأمان، التقدم للامتحانات، الكلام جيدًا أمام جمهور مستمعين ناقد، وتثبيت أقدامنا في تسلق جبل" (ص 3)

يمكن تعريف الخوف على أنه "ذلك الشعور غير السار عادة الذي ينشأ كاستجابة سوية لخطر واقعي" (ماركس، 1987، ص5). تتميز المخاوف عن حالات الرهاب Phobias التي تتمثل في مخاوف مفرطة تجاه خطر محدود، والتي تفلت نموذجيًا من السيطرة الإرادية، وتؤدي إلى تجنب الوضعية المخيفة. 

يلخص ماركس (1987) وبراشا (2004) ست طرق يمكن للقلق والخوف أن يوفروا الحماية من خلالها وهي: 
  • التجمد Freezing: تساعد هذه الاستجابة على التقدير المتنبه للوضعية، كما تساعد على الاختباء من المفترسين، وتكف أحيانًا هجومًا عدوانيًا. فإذا لم تكن متأكدًا من أن المتفرس قد عرف مكانك، أو إذا لم يكن بإمكانك تحديد موضع المفترس، فإن التجمد قد يكون أفضل من الاندفاع والهروب. 
  • الهروب Fleeing: تبعد هذه الاستجابة المتعضي (Organism) عن تهديدات نوعية. فعندما تصادف ثعبانًا على سبيل المثال، قد يكون الهروب بعيدًا هو أيسر الطرق وأسلمها لتجنب لدغة سامة. 
  • القتال Fighting: قد يحيد الهجوم على مفترس مهدد، أو ضربه أو صدمه، هذا التهديد إما من خلال تدمير المفترس أو من خلال دفعه إلى الهروب. يتضمن نموذج الحماية هذا تقدير ما إذا كان بإلإمكان التغلب بنجاح على المفترس أو صده. بالإمكان مثلا سحق عنكبوت بسهولة أكبر من التغلب على دب جائع. 
  • الرضوخ والتهدئة: تنفع هذه الاستجابة نموذجيًا حيث يأتي التهديد أساسًا من فرد من أبناء النوع. فأداء مظاهر الرضوخ بين الشامبنزي، للذكر المهيمن يحمي فعليًا من التهجم الجسدي وينطبق الأمر ذاته على البشر. 
تقترح النظرية والبحث الحديث، استجابتين سلوكيتين متطورتين إضافيتين في مواجهة تهديد حاد (براشا 2004، موسكوفيتز، 2004)

  • اصطناع الموت Fright: وهي استجابة يتظاهر فيها الشخص "بأنه ميت"، من خلال البقاء بلا حراك. تقوم الميزة التكيفية للبقاء بلا حراك في ظروف يتعذر فيها القتال أو الهروب – مثلا إذا ما كان المفترس سريعًا جدًا أو قويًا جدًا. يكون المفترسون حساسين عادة لحركة الطريدة المحتملة، ويفقدون أحيانًا الاهتمام بطريدة قد تبقى بلا حراك برهة من الزمن (موسكوفيتز، 2004). قد يفقد المفترس تمكنه من الفريسة إذا تظاهرت بالموت، مما قد يفسح مجالا للهرب. 
  • الإغماء Faint: يتمثل في فقدان الوعي بغية الإشارة إلى المهاجم أننا لا نشكل تهديدًا. تتلخص وظيفة الإغماء الافتراضية استجابةً لرؤية الدم أو سلاح جارح، في أنها تساعد الأشخاص غير المقاتلين في حالة الحرب، من مثل النساء والأطفال في أن "يوصلوا بطريقة غير لفظية أنهم لا يشكلون تهديدًا مباشرًا للخصوم، وبالتالي يمكن أن يتم تجاهلهم" (براشا2004، ص683). وهكذا قد يكون الإغماء قد زاد من فرص غير المقاتلين في البقاء أحياء وتجاوز الصراعات العنيفة التي يبدو أنها كانت شائعة خلال تاريخ التطور البشري. فإذا صحت هذه الفرضية، سيندرج عنها أن يكون النساء والأطفال أكثر ميلا إلى الإغماء من الرجال لرؤية الدم، وتؤكد الأدلة هذا التنبؤ بقوة. (براشا، 2004)
الاستجابة الأولى نمطيًا هي التجمد مما يجنب الفرد أن يُكتشف (فيما لو كان محظوظًا)، وبالتالي تمكنه من تخطيط الوسيلة الأفضل للهروب، وإذا استمر المفترس في الاقتراب، تكون الاستجابة الثانية هي الهروب. وإذا فشل الهروب وانقض المفترس، تكون الاستجابة التالية هي القتال. وعندما لا تكون هناك فرصة للهروب أو القتال بنجاح، يلجأ الفرد إلى اصطناع الموت وانعدام الحركة. يؤدي "التظاهر بالموت" أحيانًا إلى فقدان المفترس للاهتمام مما يفسح السبيل أمام إمكانية الهروب. لا يقتصر تسلسل الدفاعات هذا على البشر وحدهم، وإنما هو يحدث في معظم أنواع الثدييات (براشا، 2004). وبالمقابل يبدو الإغماء مقتصرًا على البشر، وقد يكون تطور خلال مليوني السنة الماضية كاستجابة للحروب (براشا، 2004)

يطلق الخوف، إضافة إلى هذه الاستجابات السلوكية، مجموعة يمكن التنبؤ بها من ردود الفعل الفسيولوجية المتطورة (ماركس ونيس 1994), ينتج الأبينفرين، على سبيل المثال، عن الخوف، وهو ما يؤثر على مستقبلات الدم كي يساعد على تخثره عند الإصابة بجرح. كما يؤثر الأبينفرين كذلك على الكبد لإفراز السكر، مما يوفر طاقة للعضلات بغية القتال أو الهروب. تتسارع ضربات القلب، مما يزيد من تدفق الدم وجريانه. ويتحول نمط تدفق الدم من المعدة إلى العضلات. إذًا يمكن للهضم أن ينتظر، فيما لو واجهت أسدًا مهددًا. كما يبدأ الناس بالتنفس بسرعة وبشدة، مما يزيد من إمدادات العضلات بالأوكسجين، ويسرع ثاني أوكسيد الكربون.


مقطع من:علم النفس التطوري
دايفيد باس
ترجمة: مصطفى حجازي
كلمة (أبو ظبي) ، المركز الثقافي العربي (بيروت)
2009



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

النوافذ

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات