الحرية والثقافة لجون ديوي ..1





 


هذا المقال هو عرضٌ لكتاب: "الحرية والثقافة" لجون ديوي والذي نشر في طبعته الإنجليزية عام  1939؛ ترجمة: أمين مرسي قنديل، طبعة 2010 مكتبة الأسرة

جون ديوي –كاتب هذا الكتاب- هو أحد أبرز أعلام الفلسفة الأمريكية، يذكر اسمه مرتبطًا بالفلسفة البراجماتية مع وليم جيمس وآخرين رغم أنه فضل استخدام مصطلح instrumentalism (يترجم إلى الذرائعية أو الأداتية وفضل الكتاب هنا في مقدمته القصيرة استخدام مصطلح الوسلية) معلنًا تحفظه على بعض جوانب الفلسفة البراجماتية. تأثر جون ديوي بهيجل في بدايته واستمر إعجابه به طوال حياته. زار الاتحاد السوفيتي في عام 1929م، حيث أعجب ببعض الجوانب فيه رغم تحفظاته الكثيرة الذي سيبديها في هذا الكتاب على جوانب أخرى في الدول الشمولية. واهتم كثيرًا بالجوانب التربوية والأخلاقية، وسيذكر على الدوام كأحد أهم فلاسفة التربية بما له من آراء مهمة ورائدة فيه، ومن أقواله في هذا الإطار أن التربية هي العملية التي تعين الجماعات على استمرار وجودها.

مشكلة الحرية

اعتنق الأمريكيون منذ إعلان الاستقلال رأيًا يعتبرُ أن محبةَ الحرية هي صفة أصيلة في الإنسان ويرى أنها هي الهدف الذي يرمي إليه التاريخ السياسي بأسرة، وأن هذا إذا تحقق قدَّره الناس بأكثر مما يقدرون أي شيء آخر، وبناءً عليه كانوا يعتقدون أن مجرد رفع جوانب القمع السلبية المضادة للحرية كفيلٌ بأن يحفظ الحرية وينميها، وأن مجرد حدوث ذلك كفيلٌ باستمرار الحرية وحمايتها لنفسها، وفي اللحظة التي كتب فيها الكتاب كانت الظروف التاريخية مؤهِلة لأن يعيد البعض التفكير في هذه الفرضية وربما في فرضيات أخرى أبعد؛ فقد نشر هذا الكتاب في عام 1939م في أعقاب أزمة الاقتصادية العالمية (1929) بدأت في أسواق الأسهم الأمريكية وامتد أثرها إلى أغلب دول العالم وظلت بعض آثارها باقية إلى ما بعد كتابة هذا الكتاب، وفي فترة نمت فيها الحكومات الشمولية وتعاظم خطرها في دول لها تاريخ ديمقراطي، وقبل الحرب العالمية الثانية مباشرة التي بدأت مقدماتها في الظهور ناشرة الخوف في أنحاءٍ عدة.


يتساءل الكتاب: إن كان حقًا أن مجرد رفع أو دفع القوى التي تقمع الأفراد كافيًا للحفاظ على الديمقراطية؛ فلماذا إذن حين ننظر لأحوال العالم نتبين أن عددًا من الديمقراطيات الموجودة هي ديمقراطيات شكلية، والمؤسسات الحرة التي كان يُدَّعى وجودها فيها هي مجرد هياكل مؤسسات لا وجود حقيقي لها على أرض الواقع؟ ولماذا تتراجع الحريات في بلدان عاشت الديمقراطية بشكل حقيقي؟ هل الحرية هي حقًا "صفة أصيلة " في الكائن البشري؟ وما المقصود بالطبيعة البشرية هنا؟ وهل يمكن لعامل واحد أيًا كانت أهميته أن يعبر عن هذه الطبيعة البشرية؟ دائمًا ما تم اختزال الطبيعة البشرية من قبل المدارس الاجتماعية المختلفة إلى صفة واحدة تعبر عن هذا المذهب، كاللذة والألم مثلا الذين ترجمتهما المدرسة الاقتصادية الكلاسيكية إلى اعتبار المصلحة الشخصية هي القوة الدافعة الأساسية لكل سلوك يصدر عن الإنسان، أو البحث عن القوة؛ حيث كان النجاح في تحقيق المكاسب الاقتصادية مرتبطًا بشكل كبير بامتلاك قوة متفوقة، ويمكن اعتبار مبدأ بقاء الأصلح لداروين أساسًا نظريًا لهذا المبدأ، كما دعا بعض الكتاب ومنهم نيتشة لشكل من أشكال أخلاقيات القوة.

الثقافة والطبيعة البشرية

لكن هذا الحديث الواحدي حديثٌ اختزاليٌ بالضرورة، فالطبيعة البشرية متنوعة ومعقدة ولا يمكن قصرها في جانب واحد؛ فإذا نظرنا إلى السرعة الذي يتعلم بها الطفل اللغة ويتعلم بها بالتالي الثقافة التي ينشأ فيها، تعرفنا على ما للطبيعة البشرية من مرونة في التكيف مع ظروفٍ متنوعة، كما أن النظريات الاجتماعية المختلفة قلبت الوضع من وجهة نظر الكتاب، وظنت العربة هي الحصان؛ "ألم تجمع آراءها عن العنصر السائد في الطبيعة البشرية هذا من ملاحظتها للنزعات التي تتجلى في الحياة الاجتماعية المعاصرة، ثم ضمت هذه النزعات بعضها إلى بعض وجعلت منها قوى سيكولوجية" (ص25)؛ فدافع المصلحة الشخصية مثلا ظهر في وقت صعد فيه دور المال نتيجة لصعود الانتاج الصناعي، وظهوره كأمرٍ مستجد.  

الثقافة مؤثرة بكل تأكيد، "فأيًا كانت العناصر الفطرية التي تعد مقومات للطبيعة البشرية، فثقافة جماعة ما في عصر معين هي لاشك المؤثر الذي يتعين به نظام هذه العناصر. وإنه لصحيح كذلك على الأقل أن حالة الثقافة هي التي تعين ترتيب النزعات الفطرية وتحدد نظامها"، (ص 25)، " وإن كانت الثقافة الأمريكية ثقافة تقوم على المال بشكلٍ كبير فليس هذا نتيجة لأن الطبيعة الفطرية للأمريكيين بالضرورة تتجه من تلقاء نفسها هذا الاتجاه ولكن في الغالب لأن هناك ثقافة معقدة توقظ فيها هذا الجانب وتنميه، وبالمثل فالتعامل مع الحرية على أنها طابع أصيل في الطبيعة البشرية قد يشغلنا عما يجب فعله على أرض الواقع بشكل عام وفي المجال الثقافي بشكل خاص. ونظرًا للأهمية الكبيرة للثقافة في هذا الإطار يعرف الكتاب أهمية العامل الاقتصادي كمكون من مكونات الثقافة في توجيه الاتجاه الفعلي الذي تتجه إليه الإجراءات والقواعد السياسية ولكنه لا يعتبره العامل الوحيد المؤثر؛ فهو يشير إلى عوامل أخرى متنوعة ومؤثرة بشكل كبير في نفس الإطار، منها الفنون والآداب، والأخلاق، والسياسة، ...، وهو يؤكد على مدار الكتاب أن الاهتمام بعامل واحد باعتباره العامل الوحيد في هذا الإطار غير سليم.

من وجهة نظر الكتاب فإن الحديث عن العلاقة بين الطبيعة البشرية والثقافة أكثر علمية من الحديث عن طبيعة بشرية منفصلة أحادية؛ فرصد العلاقة يفيد في فهم والتعرف على: التنوعات الثقافية القائمة فعلا بين الجماعات المختلفة، والمقومات المختلفة في الطبيعة البشرية، والاختلافات القائمة فعلا بين فرد وفرد؛ "فالكلام على أساس العلاقة بين الثقافة والطبيعة بعضها ببعض يجنبنا الالتجاء إلى التجريدات الغامضة، والعموميات الشاملة البراقة" (ص 38)؛ ويؤكد الكتاب في هذا الإطار على "ضرورة التخلص من الأفكار التي تجعلنا نعتقد أن الأحوال الديمقراطية تستطيع من تلقاء نفسها أن تحافظ على كيانها بطريقة أوتوماتية، أو أنها يمكن أن تعد هي وتحقيق فقرات معينة من الدستور شيئًا واحدًا، فالمعتقدات التي من هذا القبيل تحول انتباه الناس عما هو جارٍ فعلا.. فقد يكون الجاري فعلا أن تكون أحوال معادية لكل أنواع الحريات الديمقراطية" (ص40-41) وهو يحذر في هذا السياق من اعتبار مجرد الالتزام بالصيغ القديمة التي اصطنعها المؤسسون الأوائل أمرًا كافيًا للحفاظ على الديمقراطية، مشيرًا إلى خطأ اعتبار أن الديكتاتوريات القائمة في وقته نشأت بالضرورة من عوامل أجنبية ليست لها علاقة بالثقافة الأمريكية.

الجميع يعترفون بما لبعض الممارسات القمعية من تأثير سلبي على حال الحرية، وهو ما يعنى على الأقل أن هذه الطبيعة الإنسانية مرنة وقابلة للتشكل، وأنها تظهر من خلال علاقتها مع الثقافة القائمة؛ ومع ذلك لا بد أن ندرك أن الدول الاستبدادية لا تقوم على القمع وحده بل تقوم على ثقافة كاملة تنمي جوانب معينة في الفرد كالرغبة في التضامن مع الآخرين، أو رغبة الشباب في المشاركة في فعل له طابع إيجابي، واستمرار ثقافة قمعية ما لفترة ممتدة قد تدفع الأفراد إلى أن يحبوا أصفادهم. ومن الغريب معرفة كيف تستفيد الديكتاتوريات من الجوانب الإيجابية والفعالة في الأفراد من أجل الحفاظ على سلطانها، فالقمع ليس كافيًا أبدًا للحفاظ على الديكتاتوريات، وقد تستخدم الديكتاتوريات التلويح بخطر قائم أو وهمي بوجود عدو يشكل خطرًا لبسط سلطانها. وفي هذا الإطار يؤكد الكتاب على ضرورة الانتباه إلى أن للحرية ثمنًا يجب دفعه وهذا الثمن هو الانتباه واليقظة المستمرين.

 مشكلة الحريات الفردية مشكلة يجب النظر لها في إطار الثقافة؛ فالسياسة تتوقف بطبيعة الحال على قوى أخرى كثيرة؛ فمعروف أن " العلاقات التي تقوم بين الأشخاص خارج نطاق المؤسسة السياسية، وهي علاقات الصناعة والمواصلات، والعلم، والفن، والدين، تؤثر في الاجتماعات والاتصالات اليومية؛ ومن ثم تؤثر تأثيرًا عميقًا في المواقف والعادات التي تتجلى في الحكومة وفي العادات القانونية" (ص14) وينقل الكتاب عن جفرسون في هذا السياق ما قاله في مراسلة جرت بينه وبين جون آدمز "إن هذه البلاد التي ضربت للعالم مثلا للحرية المادية ما زالت مدينة له بالحرية العقلية، فهذه لا تزال عندنا اسمية إلى اليوم، فرقابة الرأي العام الشديدة ما زالت تطغى عمليًا على الحرية التي تؤكدها لنا القوانين من الوجهة النظرية" (ص14) ويبين أن "المشكلة التي تواجهنا هي معرفة أي نوع من الثقافة هو حرٌ بذاته حتى أنه يتمخض عن الحرية السياسية فتكون له صنوًا ونتيجة معا؟ " (ص14)

 التجربة الأمريكية

يعرض الكتاب كيف ساعدت الظروف التي صاحبت نشأة الولايات المتحدة على بروز مفهوم الحرية كمفهوم مركزي؛ فكون سكان أمريكا من الهاربين من قمع الاقطاع، إلى الأرض الجديدة بحلم الحرية،ساعد على وجود تلهف طبيعي للحرية، ثم يشير إلى القلق الذي أبداه جفرسون من التحول الذي كان يطرأ على المجتمع الأمريكي في وقته من الطبيعة الزراعية إلى الطبيعة الصناعية، واعتباره أن في هذا التحول تهديدًا للحرية، وأن " الاهتمام الناشئ عن مزاولة بعض المهن وممارسة بعض الأشغال قد يغير الطبيعة الأصلية وما يترتب عليها من مؤسسات ملائمة لها؟" (ص16)

قد يدفعنا تقدم التقنية وانتشار المعلومات إلى الإشفاق على أسلافنا، نظرًا لكم المعلومات المحدود الذي كان متاحًا لهم، والوسائل البدائية التي كانوا يستخدمونها؛ ولكن الكتاب في هذا الإطار يوضح أن هؤلاء الأسلاف كانوا يعلمون عن الأمور الأكثر ارتباطًا بحياتهم أكثر مما نعلمه نحن عن مثل هذه الأمور؛ فتقدم الصناعة مثلا خلق بيئة مختلفة، فبعد أن كان العمال يعملون في مصانع صغيرة ويعرفون بعضهم البعض، أصبحوا يعملون في مصانع عملاقة لا يعرفون فيها في الغالب شيئًا عن الصورة الكلية، ولا يتواصلون مع رؤسائهم بشكل مباشر. كما أن المواطن اليوم خاضع لكم كبير من المعلومات المتناثرة التي قد تكون أداة للتشويش أو حتى للتوجيه، والحديث عن التعليم أو محو الأمية بشكل مجرد غير كافٍ لتجاوز تلك الحالة؛ فلم يكن هناك أكثر تطورًا من الجامعات الألمانية بشهادة بعض المثقفين الأمريكان أنفسهم، ولا أكثر تعليمًا من الإنسان الألماني ومع ذلك ظهرت بها الديكتاتورية الشمولية، ولابد أن ندرك ونرصد القيم التي يبثها التعليم، وهل هي قيم تساعد على فهم التنوع وقبوله، وتساعد على النقاش المتفاهم أم أنها ترسخ قيمًا يقينية ثابتة.

نتيجة للتغير السريع يوافق الناس ويحترمون صيغًا وأقوالا لم تعد أكثر من طقوس ومراسم لفظية، وهو ما يؤدي إلى انقسامات في ذوات الأشخاص؛ فحتى عادات المجاملة والإطراء قد تحدثُ مثل هذه الآثار، وقد لا يكون هذا مجرد نفاق، بل قد يحدث هذا الانقسام على مستوى ذات الشخص غير الواعية، وقد ينجح أحيانًا من يخدعون أنفسهم في خداع غيرهم، وهذا التخلف الثقافي يُرى الآن واضحًا في كل مكان، ولابد لكي تنجح الديمقراطية الصحيحة من خلق تكامل عقلي وأخلاقي في الأحوال الحاضرة، فاستمرار حالة الأشخاص الذين يؤمنون على المستوى الفكري بأمور، ويمارسون عمليًا أمور تتضاد مع هذا الاقتناع يؤدي إلى إضعاف الأحوال البيئية؛ "فالخطر الجدي الداهم الذي يهدد ديمقراطيتنا ليس وجود الدول ذات النظام الاستبدادي الجماعي، بل هو وجود أحوال في مواقفنا نحن الشخصية، وفي مؤسساتنا كذلك شبيهة بتلك الأحوال التي أتاحت الفوز والانتصار لسلطة .. التأديب والوحدة والاتكال على الزعيم في البلاد الأجنبية، فميدان الكفاح إذن هو هنا أيضًا، هنا في أنفسنا وفي مؤسساتنا". 

11 يونيو 2011
ـــــــــــــــــــ

اقرأ أيضًا: 

الحرية والثقافة لجون ديوي ..2

الحرية والثقافة لجون ديوي ..3

 

تعليقات

  1. هل يوجد لديك هذا الكتاب بصيغة pdf.

    ردحذف
    الردود
    1. قرأت الكتاب في طبعة ورقية، لكني وجدت الآن نسخة ديجيتال متوفرة في الوصلة التالية، لك أن تفحصها لترى إن كانت كاملة وسليمة أو لا :
      http://www.4shared.com/document/Pufzt1uj/_________.html

      حذف

إرسال تعليق

أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

النوافذ

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات