حوار مع نجيب محفوظ في عيد ميلاده الخامس والسبعين .. 1




حوار أداره عبد الرحمن أبو عوف مع نجيب محفوظ  في عام 1987 بمناسبة عيد ميلاده الخامس والسبعين (قبل الحصول على جائزة نوبل بسنة ) وأنقله هنا عن كتاب حوار مع هؤلاء لعبد الرحمن أبو عوف الذي نشر في أكتوبر 1990 عن سلسلة الثقافة الجديدة التابعة للهيئة العامة لقصور الثقافة.
 
س/ اسمح لي أن أتساءل وأنت تعبر العام الخامس والسبعين وفي قمة عطاءك الروائي بعد هذا العمر الطويل المبدع، وبعد أن أصبحت ركنًا باهرًا شامخًا من أدبنا وثقافتنا المعاصرة، ما هي خلاصة هذه تجربة هذا العمر من الفكر والإبداع، وأي المبادئ حكمت سلوكياتك الخاصة والعامة بحيث أجمعت كل الاتجاهات السياسية والفكرية على احترامكم؟

ج/ وفي البداية استصعب السؤال غير أنه وحده جدير بالإجابة بعد أن صمت ملقيًا فكره على تجربة عمره وجهده، ثم تكلم قائلا:

-          والله أحب أن أشير لبعض مبادئ استظليت بها لم أفكر فيها تفكيرًا منطقيًا أو فلسفيًا، ولكن أنا سأعرضها لك كيفما تذكرتها وبلا ترتيب تبعا للأهمية أو غيرها، فكما أتذكرها سأقولها لك؛ فمثلا من المبادئ أني جعلت الحياة الأدبية والفكرية حياة تحيا لا مهنة تمارس، بمعنى أنها تحوي كل أهميتها في ذاتها، فمجرد أن أعيش مفتوح الرأس مفتوح الحواس والعقل وأقرأ وأكتب، هذه حياة وعمل وثمرة في الوقت نفسه دون النظر إلى نتائج خارجية، هذا يعني أني ظللت أكتب كثيرًا إلى أن جمعت لدي أعمالا من غير نشر من غير ما أشعر برغبة في التوقف، لأني لم أربط العمل بثمرته، وهذا جعلني أصبر على تجاهل عملي إلى أن خرج إلى النور فيما بعد بهدوء وسكينة، ولو كنت نظرت إلى الأدب كعمل ينتظر ثمرة من خارجه كان تغير الحال.
-          المبدأ الثاني: موقفي من النقد المضاد، فأنت تعلم أن العديد من المقالات كتبت ضد أعمالي، بل توجد كتب في ذلك، فقررت بإرادة من حديد أن أقرأها قراءة موضوعية، كأنها عن شخص آخر، وأن أستفيد منها ما يمكن الاستفادة منها.
-          المبدأ الثالث: صممت أن لا تسوء علاقة بيني وبين ناقد لأني اعتبرت أن الناقد يقوم بواجب وأن الدخول معه في معركة يصده ويصعب مهمته، حتى أني لم أغضب طول عمري من أحد إلا من واحد أنت تعرفه، تهجم عليَّ هجومًا شخصيًا جارحًا فاعتبرته سبًا أعذر إذا زعلت منه (يقصد نجيب محفوظ صبري حافظ الذي تورط في مهاجمة نجيب محفوظ في مجلة الأقلام العراقية).
لي عقيدة، وهي أن أطنانًا من المدح في غير محلها لن ترفع عملي عما يستحق درجة، وأن الكتاب يحمل عناصر حياته أو موته.
-          المبدأ الرابع: هو مراجعة أفكاري ومواقفي على قدر الطاقة، وعدم الخوف من غيرها ما دام التغيير ينبع من اقتناع واستهداف للحق فأنا عاشرت وعشت فترات من مصر ارتفعت فيها إلى الذروة، وأخرى هبطت فيها إلى الحضيض، وتكرر ذلك في حياتي مرات فتعهدت بيني وبين نفسي ألا يبهرني النجاح في الحالة الأولى وألا أستسلم في الحالة الثانية. 

س/ من الدروس الأساسية التي تعلمها جيلنا منكم، هو أنك تحصنت بالوظيفة وابتعدت عن الصحافة حتى بلغت سن المعاش، فهل أتاحت لك الوظيفة إمكانية الحكم على حياتنا السياسية والاجتماعية والأخلاقية؟

ج/ والله الوظيفة كانت في حياتي ضرورة لأني - أنت عارف -  أن الأدب في ذاته فقير، وكلما تفتحت الأبواب أمام الأدب كان الغلاء يزيد فوجدت أن الوظيفة برغم قيودها تعطيني من الحرية ما لا يعطيه أي عمل آخر، وأحب أن أذكرك مثلا بكثيرين من زملائنا الصحفيين وما يتعرضون له من حرج عندما وجدوا أنفسهم بعد تأميم الصحافة موظفين لا قادة فكر..
ووضعي هذا مكنني أن أرى وبشيء من الوضوح جميع الأنظمة التي تتابعت على مصر دون التأثر بأي ضغط خارجي.

س/ من يحلل أعمالك الروائية البارزة برؤية نقدية جدلية، كبداية ونهاية واللص والكلاب، وثرثرة فوق النيل، وميرامار، وليالي ألف ليلة، يجد أنها تحمل في مضمونها وأحداثها ورمزها أحداثًا وقعت في مصر بعد أن كتبت الرواية وكأنها نبوءة ، فمثلا في بداية ونهاية ينتحر الضابط حسنين، الذي قاده طموحه لتغيير واقع الأسرة بطريقة فردية إلى مأساه، وانتحار سرحان بحيري عضو الاتحاد الاشتراكي المتورط في الرشوة والانحراف في ميرامار، واغتيال الحاكم المثالي في ليالي ألف ليلة.. إلخ.

ج/ الغريب أني كتبت رواية بداية ونهاية سنة 47/46 ونشرتها سنة 1948 وبعد الثورة كنت أجلس مع الناقد أحمد عباس صالح وكان يحللها نقديا لي وكانت في تحليله كأنها نبوءة بما حدث، وأنا أصغيت إليه وظللت أقارن بين حوادث الرواية وبين ما يحدث فحصل لي ذهول للتطابق، ولكن أثناء كتابتها قبل الثورة ما دار شيء في ذهني من هذا. ولو تسألني الآن لماذا اخترت الكلية العسكرية البطلة لا أستطيع أن اجيب، والأمر الذي لا شك فيه أني كتبت الرواية ولم أكن أشعر بأي درجة أنني أتنبأ عن مستقبل ما، ولذلك فأنا استغرب أن الأعمال تنتهي بتنبؤات كيف تتكون وكيف يبدعها صاحبها، هذا يقتضي التأمل ولنفرض أننا نفسرها بلا شعور الكاتب، فكيف يحوي لا شعوره كل هذه الرؤى بينما عقله الواعي قد فوجيء مفاجأة كاملة بحركة الجيش يوم أن قامت .. وكان في شلتنا في قهوة عرابي عدد من الضباط الأحرار كما تعلم لم يقولوا لنا شيء، ولم أكن أتصور أن الجيش يمكن أن يتحرك مع وجود الاحتلال الإنجليزي .. فالحقيقة  أنا لا أستطيع أن أدعي أن النبوءة جاءت بتخطيط، ولكن المذهل فيها تطابقها مع الذي حصل.
وأتذكر بخصوص هذه الرواية أننا كنا حاضرين لجنة تابعة للمؤتمر الإسلامي عندما كان السادات رئيسه وكان فيها يوسف السباعي وخالد محي الدين وطه حسين، وعندما سلمت على السادات بصفته رئيس اللجنة، ضحك السادات وقال أنا قرأت "بداية ونهاية" وقال كيف تجعل الضابط حسنين ينتحر د احنا الضباط.
وأتذكر أني أول ما عرفت السادات عرفته عند إحسان عبد القدوس، كنت ذاهبًا هناك لأحصل على أمر بنشر خان الخليلي في الكتاب الذهبي (53/1954) وسلمت عليه فقال لي ضاحكًا: "أنت تعبتنا وأحزنتنا ببطل خان الخليلي، دا أنت عايزنا نعيط"
وقد قيل أيضًا عن حميدة بطلة رواية زقاق المدق أنها ترمز لمصر وأنا ذهلت ورجعت للرواية أتأمل شخصية حميدة فوجدت فتاة متطلعة إلى الأعلى فاستغلها سماسرة مصريون وباعوها للأجانب وضاعت، وهذا ينطبق على حميدة ومصر في هذه الفترة من الحرب العالمية الثانية حيث أثرت أحداث تحدث في برلين وموسكو ولندن على حياة زقاق المدق في حي الحسين في القاهرة كدليل على ترابط العالم.
ولكني عندما تسألني وأنا أكتبها هل كنت أقصد ذلك أقول بصدق لم أكن أعي ذلك بل هو اللاشعور.
وكذلك رواية اللص والكلاب وثرثرة فوق النيل ونبوءة مصرع السادات في رواية ليالي ألف ليلة والحمد لله أن هذه الرواية نشرت في جريدة مايو جريدة السادات؛ فلو أنها تأخرت أسبوعين لم تكن ستنشر، وقد كتبتها قبل مصرع السادات بسنة أو سنتين.

_______

اقرأ أيضًا:


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ما هو الفن الطليعي؟ (Avant Garde)

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

فن الكم = Quantum art

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات