الشعر والإلهام عند الإغريق (مقتبسات)

وكما يتضح بالفعل من أقدم الإشارات، كانت "المدينة الدولة" الإغريقية القديمة والدعوة القومية الإغريقية هما الإطار الذي تم فيه التمييز بين الشعر والنبوءة، وهو ما تعكسه كلمة "مغني" "aoidos" من ناحية، وكلمتا "عراف" "mantis" و"رسول" "kerux" من الناحية الأخرى.

Francois Girardon - Apollo and the Six Nymphs, 1673 

ولقد سبق ورأينا كيف دخل العراف والرسول في فئة الصناع الحرفيين "demiourgoi" مثلهما مثل المغني. وبينما يماثل مفهوم "المغني" مفهومنا الحديث لكلمة الشاعر، فإن كلمتي"عراف" "mantis" و"رسول" "kerux" تماثلان معًا بالكاد مفهومنا الحالي لكلمة "عراف". ولقد سبقت تلك المرحلة التي حدث فيها التمييز مرحلة أخرى مبكرة كانت فيها وظيفة الشاعر والعراف واحدة دون تمييز بينهما. وتتضح هذه المرحلة في الإشارات التي ترد في ملحمة "أنساب الآلهة" حيث يقول هيسيودوس إن ربات الفنون ظهرن له على جبل هيليكون Helicon ووهبنه نعمة الصوت المقدس الذي يمكنه، ليس فقط من التغني بأنساب الآلهة، بل أيضًا من التنبؤ بالمستقبل، بل ومعرفة الماضي. وعلاوة على ذلك، تهب ربات الفنون لهيسيودوس الصولجان skeptron، رمز السلطة المطلقة المقدسة التي تمكنه من إعلان الحقيقة المطلقة. وهكذا فإن هيسيودوس يقدم نفسه في الواقع عرافًا "mantis" و"رسولًا " "kerux"، بينما تقتصر مهمة شاعر مثل هوميروس على كونه مغنيًا aoidos" فقط. 

وكما سوف نلاحظ في الحال كانت كلمتا "عراف" "mantis" و"رسول" "kerux" في يوم ما تعريفات ملائمة لتوضيح مهمة الشاعر/العراف غير المميزة، ولكن بعد حدوث التمييز بينهما استخدمت كلمة aoidos لتحديد فئة عامة، واعتبرت مختلفة عن كلمتي "عراف" "mantis" و"رسول" "kerux" اللتين كانتا تشيران إلى فئة فرعية متخصصة. وفي الفترة الكلاسيكية، ظهرت جولة ثانية من التمييز أدت إلى ظهور فئة عامة جديدة ممثلة في كلمة "شاعر" "Poietes" التي جاءت منها كلمة شاعر poet في الإنجليزية. 

وعلى النقيض من كلمتي "عراف" و"رسول" اللتين أصبحتا فئة فرعية متخصصة لكلمة "مغني " aoidos لم تصبح فئة فرعية متخصصة للكلمة التي حلت محلها بوصفها فئة عامة، أي كلمة Poietes. وبينما ظلت كلمة "مغني" aoidos داخل نطاق النبوءة المقدس، وهو ما يتضح من اعتماد المغني التقليدي على إلهام ربات الفنون، فقد دخلت كلمة "شاعر" "Poietes" في المجال غير المقدس للشعر؛ حيث يكون مفهوم الإلهام ذاته مجرد مصطلح أدبي. لقد كان الشاعر "Poietes" فنانًا محترفًا؛ فكان صاحب حرفة tekhne. وفي كوميدية "الضفادع" يطلق أريستوفانيس باستمرار كلمة حرفة tekhne على فن التراجيديا ذاته. 

*** *** ***

وفي نشيد هوميروس المسمى "إلى هرميس" يظهر الإله هرميس دومًا وهو يتغنى بأنساب الآلهة الأولى -ومن ثم- مؤكدًا سلطة الآلهة، وفي هذا يشبه الإله هرميس الشاعر هيسيودوس الشاعر/العراف؛ حيث لا يوجد تمييز بين المهمتين. ويعقد هرميس فيما بعد اتفاقًا مع الإله أبوللون؛ حيث يتنازل له عن قيثارته التي تغنى بها عن أنساب الآلهة، ومع القيثارة ما يستتبعها من اختصصات وفي المقابل يمنحه أبوللون العصا "rhabdos" التي توصف بأنها "تمنح السلطة"، أي الطقوس والسنن التي تعلمها أبوللون من زيوس ونرى هنا تشابهًا مع الشاعر هيسيودوس الذي تسلم العصا أو الصولجان skeptron، الذي أعطاه سلطة نظم ملحمة "أنساب الآلهة". ولكن يجب علينا أن نلاحظ بدقة كيف أن هرميس كان مستبعدًا تمامًا من مجال النبوءة التي ارتبطت بالإلهة أبولوون في دلفي رغم هذه السلطة الضخمة التي نالها، وأن سلطته اقتصرت فقط على النبوءة المرتبطة بعذارى نحل جبل البرناسوس. وكان في مقدرة تلك العذارى أن تمنح السلطة أيضًا، ولكن عندما تأكل من العسل المتخمر فقط: عندئذ تتملكها النشوة وتنطق بالحقيقة "aletheia، ولكنها تنطق بالأكاذيب إذا ما حرمت من هذا الغذاء المنشط. 

وتحدد الأسطورة تخصص هرميس، وتعمم تخصص أبوللون في ذكرها عملية "التبادل" هذه بينهما؛ ذلك أن تقسيم التخصصات بين أبولوون وهرميس يعيد التصديق على فكرة فصل الوظائف؛ حيث صورت على أنها كانت لا تزال كاملة غير مفصولة عندما غنى هرميس أنساب الآلهة، ولكن بعد ذلك وهب هرميس قيثارته لأبوللون واستخدم هو ناي الراعي البدائي فقط. وبهذه الطريقة استطاع أبوللون أن يقوم بمهمة النبي prophetes على مستوى الإغريق جميعًا (نبوءة دلفي) وترك مجال النبوة الأكثر بدائية لهرميس الذي تخصص على المستوى المحلي في ذلك النوع من الحقيقة الذي يتسبب العسل المتخمر في النطق بها.

*** *** *** 

ويتضح التمييز بين أبوللون المتخصص في النبوءة وربات الفنون ملهمات الشعر في معالجة أفلاطون التي يميز فيها بين كلمتي "mantis" (عراف) و "prophetes" [...] في الفقرة التالية من أفلاطون [...]: 
"عندما تذكرت الآلهة التي خلقتنا والمسؤولة عن وجودنا أوامر والدهم بأن يخلقوا الجنس البشري بشكل كامل قدر استطاعتهم، وأن يحاولوا إصلاح الجوانب السيئة فينا ويجعلوها تحتوي قدرًا من الحقيقة aletheia، عندئذٍ وضعوا في الكبد القدرة على التنبؤ manteion. وهذا دليل على أن الآلهة قد منحت الإنسان القدرة على التنبؤ، بسبب حمقه وغبائه، وليس بسبب حكمته. فالإنسان لا يملك القدرة على التنبؤ -التي كانت "ملهمة إليه entheos، وحقيقة alethes- عندما يكون في كامل وعيه، ولكنه إما أن يغط في سبات عميق يلغي عقله وإدراكه أو أن يصبح معتوهًا بسبب الاضطراب أو الإلهام والجزل، وعلى الإنسان أن يستعيد وعيه أولا لكي يفهم ما قيل له ويتذكره، [...] لكي يفهم بعقله معنى ما رأى ومعنى الإشارات التي يعطونها لهذا أو ذاك من البشر، ومنها ما يتعلق بالماضي أو الحاضر أو المستقبل سواء كانت خيرًا أو شرًا. ولكن إذا استمر الإنسان غائبًا عن الوعي ومعتوهًا فلن يستطيع أن يميز الرؤى التي رآها والكلمات التي نطق بها، فما قاله القدماء، من أن الإنسان العاقل هو الذي يستطيع فقط أن يتصرف في شؤونه ويقرر لنفسه قول صحيح تمامًا. ولهذا السبب كان من المعتاد تعيين من ينحدرون من سلالة معلني النبوءات prophetai ليكونوا حكامًا kritai على تعبيرات العراف الملهمة entheos. ويطلق البعض عليهم اسم العرافين، وذلك لأنهم يغفلون حقيقة أن معلني النبوءات هؤلاء لا يفعلون سوى عرض الألغاز والرؤى، ومن ثم يجب ألا نسميهم عرافين على الإطلاق، إنهم فقط يعلنون ما يقوله العرافون"
في هذه الفقرة الأفلاطونية، يجب علينا أن نفرق بين النقاط الفلسفية المعقدة التي أثيرت، وحقيقة ذلك النظام البسيطة نسبيًا والتي قامت عليها: يتم تمييز العراف، كما هو واضح، بأنه الشخص الذي يتكلم وهو في حالة عقلية غير عادية، دعنا نسميها حالة الإلهام، بينما لا يكون المعلن prophetes كذلك. وإن ما رأيناه في هذه الفقرة من محاولة الربط الفلسفي بين العراف mantis وبين "الجنون" هي في الواقع صحيحة من حيث الاشتقاق؛ فكلمة عراف mantis مشتقة من الجذع men، وهي تعني الشخص الذي يكون في حالة عقلية خاصة (أي مميزة ومختلفة)، وكذلك كلمة جنون mania التي تعني حالة عقلية خاصة، فإنها مشتقة من men أيضًا. ولقد تخصصت كلمة mantis في التعبير عن الحالة العقلية الخاصة التي يكون عليها العراف في المؤسسات الدينية الإغريقية، كما أن عدم تمتع المعلن prophetes بالإلهام هو أيضًا هبة، كما أنه أيضًا يرتبط بالمؤسسات الدينية الإغريقية، وهو ما تعبر عنه كلمات أفلاطون بوضوح تام: 
"ولهذا السبب كان من المعتاد تعيين من ينحدرون من سلالة معلني النبوءات prophetai ليكونوا حكامًا kritai على تعبيرات العراف الملهمة entheos."
وأشهر الأمثلة هو المعلن prophetes الذي كان موجودًا في مركز نبوءة أبوللون في دلفي، فهو الذي كان يعلن كلمات العراف الملهمة ويصوغها على هيئة حديث. وفي نبوءة دلفي، كانت العرافة المشهورة بيثيا pythia هي التي تقوم بدور العراف الملهم. ومن خلال القصص التي تحكي عن أشهر محاولات رشوة الكاهنة بيثيا، نعرف أن بيثيا هي التي كانت تتحكم في مضمون النبوءة، وليس المعلن prophetes، وكان المعلن هو الذي يتحكم في شكل النبوءة. وكما سوف نرى بوضوح من الفقرات الكثيرة التي يستشهد فيها هيريدوتس بنبوءات دلفي، كانت الطريقة المعتادة لنقل مضمون النبوءة هي صياغاتها شعرًا في الوزن السداسي الداكتيلي، وكان المعلن prophetes يشارك في الصياغة الشعرية للنبوءة. 

ولقد كان العراف mantis هو "الوسيط" بين مصدر الإلهام والمعلن الذي يعيد صياغة الرسالة الملهمة في شكل شعري: ولكننا لا نجد في بعض الأساطير وسيطًا، فالعراف البارع تيريسياس هو الذي يعلن إرادة زيوس، فهو معلن رسالة prophetes زيوس. 

ونشاهد هنا أحد مظاهر مرحلة مبكرة لم تعرف التمييز بين الوظيفتين؛ حيث كان من الشائع إطلاق لقب "العراف" "mantis" على تريسياس. وبتعبير آخر نقول إن شخصية تريسياس تمثل مرحلة كان فيها العراف هو نفسه الذي يعلن النبوءة prophetes . 



*** *** ***


أما بالنسبة للمسابقات الرياضية فإن المعلن prophetes كان الرسول أو البشير الذي يعلن اسم الفائز في المسابقات، وهو استخدام مهم وحيوي يساعدنا على فهم مصطلح آخر هو theoros (الشخص الذي يراقب المشهد thea) خاصة فيما يتعلق بموضوع إرسال مدينة ما مبعوثين رسميين لمشاهدة الألعاب الرياضية والعودة بأخبار النصر. ومن ثم يمكننا القول أن المعلن أو البشير prophetes كان هو الشخص الذي يعلن رسالة النصر في الألعاب الرياضية، بينما كان المراقب (theoros) هو الشخص الذي يشاهد الحدث موضوع البعثة ويعود للمدينة ليعلن لها الأمر، كما استخدمت كلمة (theoros) أيضًا لتشير إلى المبعوث الرسمي الذي ترسلة المدينة لاستطلاع النبوءة. وتوجد أمثلة كثيرة على هذا الاستخدام لعل أشهرها شخصية كريون عند سوفوكليس. 

[..] وكانت توجد عقوبات صارمة ضد المراقب أو المبعوث الرسمي (theoros) إذا ما أفشى النبوءة أمام الغرباء قبل عودته لوطنه. وكانت الرسالة التي تعلنها النبوءة نوعًا خاصًا من الاتصال؛ فإن إله دلفي لا يقول ولا يخفي، ولكنه يشير (semainei) فقط، كما يقول هيراكليتوس. والفعل semaino مشتق من الاسم sema الذي يعني إشارة أو علامة وهو مشتق بدوره من فكرة الرؤية الداخلية. ومن ثم فإن كلمة (theoros) تعني حرفيًا الشخص الذي يرى(hor) منظرًا أو رؤيا (thea). وهذا يعني أن الإله أبوللون، إله النبوءة في دلفي، عندما يشير أو يعطي إشارة إلى المبعوث الرسمي (theoros) فإنه يمنحه رؤية داخلية. ويعمل على أساس هذه الرؤية الداخلية كل من يشفر النبوءة (encoder) ومن يفك شفرتها (decoder). ويشير استخدام كلمة prophetes بشكل واضح في المصادر الإغريقية إلى أنه الشخص الذي ينقل كلمات الإله أبوللون إلى من يستشيرون الإله [...]. 

وعندما يقول الإغريق عن شخص ما إنه بشير semainei (أي يعطي إشارة sema) فإنهم يعنون أنه يتحدث من موقع عالٍ ومميز، مثل الشخص الذي يذهب إلى قمة التل لاكتشاف المكان ثم يهبط ليوضح ما رأي من هناك. وبالمثل يمكن القول إن هذا الشخص يشير عندما يتحدث من مكان عالٍ من الناحية المجازية، مثل قيام شخص ذي سلطة وسلطان بالحديث للفصل بين وجهتي نظر متعارضتين، ولكن صوت السلطة النهائي من شأن إله النبوءة في دلفي الذي تمكنه مكانته السامية المميزة من معرفة كل الأشياء حتى عدد حبات الرمال في العالم أجمع بدقة. 

ومن ثم فإن الشاعر، الذي يتحدث بوصفه صوتًا له سلطة، يليق به تمامًا أن يقارن نفسه بالمبعوث الرسمي (theoros) الذي يستشير النبوءة، والذي تعطيه إشارة sema من خلال العرافة بيثيا، عرافة أبوللون الشهيرة. ومن شعر ثيوجنيس الميجاري نقدم هذا المثال الصريح: 
"أي كيرنوس، إن الشخص الذي يعين مبعوثًا (theoros) يجب أن يكون في أثناء مهمته أكثر استقامة من مسمار النجار ومن المسطرة ومن زاوية النجار؛ لأنه الشخص الذي تعطيه كاهنة الإله في دلفي ردها ومن المذبح الثري تعطيه إشارة semainei لصوت الإله. فلن تجد علاجًا إذا أخفيت شيئًا، ولن تهرب من نظرة الآلهة لك بوصفك منحرفًا إذا ما حذفت شيئًا"
وكما توضح الكاهنة -باعتبارها وسيطًا- رسالة الإله وتشير إليها، هكذا أيضًا يتحدث الشاعر باعتباره موضع ثقة، كما لو كان مشرعًا للقوانين، ونقتبس من ثيوجينيس مرة آخرى قوله: 
"أي كيرنوس، يجب أن أحكم في هذا الأمر بطريقة مستقيمة، مثل استقامة مسطرة النجار وزاويته، ويجب علي أن أعطي لكل جانب نصيبًا عادلًا بمساعدة العرافين واستطلاع الفأل وحرق القرابين حتى لا أجلب على نفسي اللوم المخزي لانحرافي."
ونشعر هنا أن الشاعر -بطريقة ضمنية- هو المبعوث الرسمي (theoros) الذي "يعطي إشارة لمجتمعه بما يشير إليه الإله. ويعلن أن على المبعوث الرسمي (theoros) ألا يغير حرفًا واحدًا مما أطلعه عليه الإله وهو يقوم بنقله لمستمعيه، تمامًا مثل الشخص الذي يذهب لاستشارة النبوءة، إذ يجب عليه أن يخبر مجتمعه بما قالته له الكاهنة بمنتهى الدقة. 

وفي هذه الأمثلة المأخوذة من شعر ثيوجنيس لا نجد وسيطًا، أي معلنًا prophetes بين بيثيا وبين المبعوث الرسمي، ذلك لأنه يقوم بالمهمتين معًا: مهمة المبعوث (theoros) ومهمة المعلن (prophetes). وهنا يهدم الشعر التفرقة المعروفة بين من يشكل الكلمة الملهمة على هيئة شعر ومن يحملها عائدًا إلى مجتمعه.

مقتبسات من مقال: الآراء الإغريقية المبكرة في الشعراء والشعر
تأليف: جريجوري ناجي (جامعة هارفارد)
ترجمة: منيرة كروان

من كتاب: 
موسوعة كامبريدج في النقد الأدبي، مج1
النقد الأدبي الكلاسيكي
تحرير: جورج كينيدي
مراجعة وإشراف: أحمد عثمان 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

فن الكم = Quantum art

ما هو الفن الطليعي؟ (Avant Garde)

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات