قيمة النقد: مقاطع من الفصل الأول من كتاب موت الناقد
بالنسبة لبارت، فإن النظر بشيء من التقديس
إلى قصد المؤلف هو أمرٌ حديث نسبيًا وهو ظاهرة ما بعد تنويرية، علينا أن نتجاوزها.
إن كل اعتراض على مقاربة نقدية ما بالقول "ليس هذا ما عناه المؤلف" يسعى
إلى الحد، بصورة غير مشروعة، من خصوبة اللغة والتعددية الممكنة للمعاني في عمل
أدبي بعينه. كانت مقالة بارت – وهي ما زالت متطلبًا إجباريًا لطلبة الدراسات
الجامعية الدنيا- دعوة صارخة للحرية والتحرر. إنها ترحب ب"موت المؤلف"
لتبشر ب "ولادة القارئ".
*** *** ***
لقد ارتفعت بعض الأصوات المستاءة من عدم
مصداقية كتاب المدونات، وعدم معرفتنا بأسماء المدونين، وغياب المراقبة التحريرية،
ما يمكن هؤلاء المدونين من التشنيع على المؤلفين والإساءة إليهم والافتراء عليهم،
دون رادع، شئنا أم أبينا. لكن في إمكان كتاب المدونات الدفاع عن أنفسهم بالقول إن
الحجم الهائل لمادة المدونات، وتنوعها وشمولها، يمكن أن يقلل من أهمية تلك
الكتابات المتحيزة التي تستند إلى الآراء الشخصية. كما أن الآثار الإيجابية
ل"غياب أسماء الكتاب" من الشبكة العنكبوتية تعني أن عالم المدونات يسعى
إلى تجنب المحاباة، والرد والرد المضاد، وأسلوب تسجيل النقاط، وهو ما تحتشد به في
العادة الصحافة والمراجعات الأدبية. لقد لاحظ المؤرخ ريتشارد هوفستاتر بمكر في
إحدى المرات أن علينا أن نطلق على "مجلة نيويورك لمراجعات الكتب" (The New York Review of Books) وبدقة أكثر عنوان "مجلة
نيويورك لمراجات كتب بعضهم البعض" (The New York Review of Each Others’ Books).
*** *** ***
من بين الفنون جميعها قد يكون المسرح هو
أكثر مجال يثير فيه الناقد الاشمئزاز والبغض – لربما بسبب السلطة التقليدية التي
كان يتمتع بها. وعلى الأرجح فإن الإحباط الذي يسببه الناقد مفهومٌ لأن السجل
التاريخي لنقد الدراما ملطخٌ غيرُ نظيف، حيث فشل كثير من النقاد في فهم عمليات
التجريب والتجديد في الدراما أوتذوقها. لقد هزئوا في العادة وسخروا من المسرحيات
التي اكتسبت فيما بعد نجاحًا وأهمية مستمرة. ربما تكون ضربة السيف الحادةُ، بل
الأقرب، جاءت من جورج برنارد شو، وهو نفسه كاتبٌ مسرحيٌّ وناقدٌ وكاتبُ مراجعات
نقدية غزيرُ الانتاج، إذ يقول: "إن ناقد المسرح هو من ذلك النوع من الرجال
الذين لا يدعون مكانًا لا يمطرونه بالحجارة." لا بد أن برناردشو يقول ذلك وفي
ذهنه الناقد الرزين الذي لا يمتلك أي قدر من الخيال ويتخذ موقفًا معاديًا من
النشاط المسرحي الجديد الخلاق. ومع ذلك وفي الوقت الذي استحق فيه النقاد الجبناء،
الممتثلون الذين يخافون الجديد، التوبيخ واللوم، فإن هناك نقادًا قد لعبوا، دون
شك، دورًا محوريًا في استيعاب صدمة الجديد في المسرح، ودراسة تلك الصدمة وضخ دم
الحياة الأبدية فيها.
خذ على سبيل المثال حالة صمويل بيكيت، وهو
كاتب مسرحي وصف النقد الأدبي في إحدى المرات، بحيوية لاذعة، قائلا إنه
"استئصال للرحم بمجرفة". إنه يصور الناقد بوصفه أكثر الإهانات التي يمكن
توجيهها خطورة في مسرحيته في انتظار غودو.
"فلاديمير: مغفل!
استراغون: حشرة طفيلية!
فلاديمير: إجهاض !
استراغون: حشرة تلدغ!
فلاديمير: جرذ مجاري !
استراغون: قسيس!
فلاديمير: معاق عقليًا!
استراغون [بنبرة حاسمة]: ناقد!
فلاديمير: أوه!
[يذوي ثم يختفي خارجًا]
لربما يكون بيكيت توقع أن توجه إلى مسرحيته
الطليعية ملاحظاتٌ قاسية فجهز رده على الهجوم قبل أن يبدأ. فمسرحية طليعية مثل في
انتظار جودو لا بد أن تولد لدى النقاد شعورًا بالنفور والإحباط كما حصل مع جمهور
مشاهديها في البداية. لكنها، وياللمفارقة، امتدحت من قبل النقاد المكروهين، مثل
كينث تينان وهارولد هوبسون، بوصفها أهم عمل مسرحي ظهر في القرن العشرين. وقد ولدت
هذه الأحكام التقريظية الصادرة عن النقاد البارزين، الذين تظهر مراجعاتهم في صحافة
يوم الأحد، الكثير من الجدل والاختلاف في الرأي، بحيث غطت على الملاحظات القاسية
التي ظهرت في صحافة لندن اليومية. كانت
شهرة بيكيت نتاج عمل نقاد المسرح، مثله مثل معظم كتاب الحداثة الذين سبقوه، أي على
أيدي النقاد الأكاديميين البارزين، مثل هيو كينر، وروبي كوهين، وهارولد بلوم.
*** *** ***
كانت الحركات الحداثية، في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين تحديدًا تعتمد بشدة على شراحها ومفسريها. فلم يكن ممكنًا بالنسبة للرمزية الفرنسية أن ترتحل إلى انجلترا وتحدث ثورة في عالم الكتابة دون كتاب آرثر سايمونز Arthur Symons الحركة الرمزية في الأدب (the symbolist Movement In literature (1899)) الذي قال عنه تي. إس. إليوت إنه غير مسار حياته. وما زال للنقاد الذين عملوا على تقديم الأعمال الأدبية الحداثية الصعبة التي تنتمي لبدايات القرن العشرين – مثل إدموند ولسون، وريتشارد إلمان، ور. ب. بلاكمور- كثيرٌ من الأثر في المناخ النقدي الحالي؟ إن لم يكن لهم بالفعل أثر فهل يمكن أن نعتمد على المدونين لكي تتعرف الجماهير العريضة على صدمة جديدة؟ إن القول بأن الذائقة الثقافية هي مجرد حيلة نخبوية، وإن كل الآراء متساوية في القيمة، وإن علينا أن نأخذ مواقفنا الثقافية في الحياة بالاعتماد فقط على أناس يشبهوننا، قد تبدو واحدة من اللحظات التي صعدت فيها سلطة الجماهير. لكن إذا أصغينا فقط إلى من يشاركوننا بالفعل في ميولنا واهتماماتنا ألا يعني هذا أن تلك الديموقراطية المفترضة ستقود بدلا من ذلك إلى نوع من الوهن الخطير في الذائقة كما تهدد وجود حكم القيمة؟
*** *** ***
في هذه الفترة، يمكن القول إن الدراسات
الإنجليزية قد عانت مما يسمى "أثر راتنر" Ratner Effect، وهو مصطلحٌ شاع بعد الفضيحة
الاجتماعية التي سببها تاجر المجوهرات
الكبير الذي سخر علانية من نوعية المنتجات التي تنتجها شركته، وهو ما أدى، من
ثمَّ، إلى هبوط كبير في أرباحه. فلا أحد كان أكثر حرصًا على التقليل من أهمية
الأدب من أساتذة الأدب وممارسيه المتخصصين. في حملتها للتأكيد عى أهميتها وضرورتها
الاجتماعية والسياسية، وبسبب شعورها بالإحباط من طبيعتها النخبوية السابقة، أضعفت
الدراسات الإنجليزية مكانتها ومصداقيتها. فعندما يعلن ناقدٌ بارزٌ مثل جون كيري أن
"ما يعتقده النقاد بخصوص هذا العمل أو ذاك هو بالضرورة شأن شخصي ذو أهمية
محدودة"، فإننا بالتأكيد واقعون في دائرة "أثر راتنر". إذا كان
النقاد يقولون هذا عن النقد، فلماذا نستغرب إذن فقدان جمهور الناس اهتمامهم
بالنقد.
*** *** ***
مرارًا وتكرارًا، سارع النقاد والمنظرون منذ السبعينيات، إلى التنبيه إلى كون
القيمة الجمالية شيئًا مصطنعًا Constructed وليس بأي
حال من الأحوال "طبيعيًا" أو شيئًا يخصُّ جوهر العمل. لربما كان علماء الجمال في القرن
الثامن عشر مغرمين بالعثور على أعمدة شاهقة من الضوء المقدس، الأبدي، في أمهات
الكتب التي أنتجتها الثقافة الغربية. لكن هذا الوهم سرعان ما يتبدد ويتلاشى في ضوء
النظرة الشكاكة، نسبية الرؤية، للعديد من المعلقين في الزمان الحديث.
على كل حال، فإن النظر إلى القيمة الجمالية،
بوصفها تاريخية الطابع Historisized، وكونها
متعينة ضمن التاريخ لا خارجه، لا يجعل منها أمرًا عتيقًا عفى عليه الزمن، ولا يدعو
إلى إقصائها وإهمالها من دون إعمال موضوعات المساءلة اللسانية ذات النزوع شبه
العلمي. إن القول بأن الجمال هو بدعة خاصة بالثقافة الإنسانية ليس نهاية الشوط في
علم الجمال بل بدايته. وقد تكون القيم جميعها، أخلاقية أكانت أم جمالية، نتاجًا
اجتماعيًا. ومع هذا فإن كونها كذلك لا يجعل منها شيئًا مستهلكًا. علاوةً على ذلك،
فإن البحث الأكاديمي مشبعٌ بهذا النوع من حكم القيمة أو ذاك، حتى لو تظاهر أنه
بريء من حكم القيمة. فأن يقرر المرء ألا يكون منحازًا، أو أن يتخلى عن أي غرض في
التحليل، هو نفسه نوعٌ من حكم القيمة الذي ينظر إلى العمل الخالي من حكم القيمة
بوصفه أفضل من ذلك القائم على حكم القيمة.
إن أساتذة الأدب الذين يشككون في حكم القيمة
يصححون أوراق الامتحانات التي بجرونها لطلبتهم، ويقدمون لهم النصيحة بضرورة كتابة
مقالات فصيحة معبرة. وهكذا فإن الأستاذ عندما يحض طلابه على تجنب الكليشيهات
والتعبيرات المكرورة لا يسعى إلى العثور على صيغة صافية لا زمنية، من الكتابة
المجوِّدة، بل إنه يعني ضرورة الإحساس بالموقع الثقافي والتاريخي للغة، والتعرف في أي موضع كانت هذه
اللغة عتيقة مستهلكة أو نضرة ناضجة. هذا مثال يومي يدل على حقيقة أنه حتى لو كانت
القيمة الأدبية منغرسة في خصوصيات الزمان والمكان، فإن ذلك لا يجعلها عشوائية أو
متصلة ببساطة بالذوق الشخصي. إن كون القيم مشتقة من الثقافة قد يجعلها أكثر مراوغة
وأصعب في التفسير من قوانين الفيزياء، لكن ذلك لا يجعلها غير حقيقية. ومع أن
العديد من المتخصصين في علم الأخلاق يقررون أن القيم الأخلاقية "صنعتها"
الثقافة الإنسانية، فإن ذلك لا يقودهم إلى الاستنتاج مباشرةً أن أحكام القيمة
الأخلاقية ذات طبيعة عشوائية وأنها متغيرة بتغير "عين الرائي".
الكتاب:
موت الناقد
الكتاب:
موت الناقد
رونان ماكدونالد
ترجمة: فخري صالح
المركزالقومي للترجمة، القاهرة؛ دار عين للنشر، القاهرة
المركزالقومي للترجمة، القاهرة؛ دار عين للنشر، القاهرة
تعليقات
إرسال تعليق
أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء