فقدان الروح: مقطع من كتاب الإنسان ورموزه لكارل غ. يونغ
بقلم: كارل جوستاف يونج
ترجمة: عبد الكريم ناصيف (*)
ترجمة: عبد الكريم ناصيف (*)
الوعي هو أحد المكتسبات الحديثة جدًا التي حصل عليها الإنسان من الطبيعة وهو ما يزال في الطور "التجريبي". إنه هش، تهدده أخطار محددة ومن السهل إلحاق الأذى به. وكما لاحظ علماء الأنثروبولوجيا (الدراسات البشرية) فإن أحد الاضرابات الذهنية الأكثر انتشارًا بين البدائيين هو ذاك الذي ندعوه ب "فقدان الروح" وذلك يعني – كما يدل الاسم- تمزقًا ملحوظًا في الوعي (أو على نحو أكثر دقة، انفصامًا)
فأناس كهؤلاء، يختلف مستوى تطور وعيهم عن وعينا، لا ينظرون إلى "الروح" والنفس على أنها واحدة، بل إن الكثير من البدائيين يزعمون أن للإنسان "روح غابة" بالإضافة إلى روحه وأن روح الغابة هذه تتجسد على شكل حيوان بري أو شجرة يكون الإنسان معها نوعًا من التماثل النفسي، وهذا هو ما دعاه عالم الأعراق البشرية الفرنسي المتميز لوسيان ليفي برول ب "المشاركة الروحية". وعلى الرغم من أنه تراجع فيما بعد عن هذا المصطلح بضغط من النقد المضاد إلا أنني أعتقد أن نقاده كانوا مخطئين. فالحقيقة السيكولوجية المعروفة تمامًا هي أنه يمكن أن يكون للفرد مثل هذا التماثل اللاشعوري مع شخص آخر أو شيء آخر.
هذا التماثل أو التطابق يتخذ عددًا مختلفًا من الأشكال بين البدائيين. فإذا ما كانت "روح الغابة" هي روح حيوان، ينظر إلى الحيوان نفسه باعتباره نوعًا من أنواع الأخ للإنسان، وهكذا يعتقدون أن الإنسان الذي يكون أخوه تمساحًا، مثلا، سيكون في أمان حين يسبح في نهر مليء بالتماسيح. وإذا كان "روح الغابة" شجرة، فإنهم يعتقدون أن للشجرة نوعًا من السلطة الأبوية على الشخص المعني. وفي كلتا الحالتين يفسر كل أذى بروح الغابة على أنه أذى للإنسان صاحب العلاقة.
كذلك تعتقد بعض القبائل أن للإنسان عددًا من الأرواح، هذا الاعتقاد يعبر عن شعور بعض الأفراد البدائيين بأن كلا منهم يتكون من وحدات مترابطة إنما متمايزة. الأمر الذي يعني أن نفس الإنسان أبعد ما تكون عن بلوغ التركيب السليم، بل هي على العكس مهددة بالتفتت وبأهون السبل لدى أي اندفاع لعواطف وانفعالات لا ضابط لها.
وعلى الرغم من أن هذا الوضع مألوف لدينا من دراسات الأنثروبولوجيين، إلا أنه ليس معدوم الصلة بحضارتنا المتقدمة كما قد يبدو. فنحن أيضًا يمكن أن نعاني من الانفصام ونفقد ذاتنا. كما يمكن أن تسيطر علينا حالات نفسية أخرى تتبدل فيها أمزجتنا أو تصبح غير معقولة وغير قادرة على تذكر الحقائق الهامة المتعلقة بنا أو بالآخرين إلى درجة يتساءل معها الناس : " أي شيطان حل به؟" إننا نتكلم عن قدرتنا على "ضبط أنفسنا" ولكن ضبط النفس فضيلة نادرة ومعتبرة، وقد نظن أننا ضبطنا أنفسنا وسيطرنا عليها، لكن رغم ذلك، يمكن لأحد الأصدقاء أن يقول لنا، بسهولة، أشياء عن أنفسنا لا نعرفها البتة.
ومما لاشك فيه، حتى فيما ندعوه بالمستوى الرفيع للحضارة ، أن العقل الواعي لدى الإنسان لم يصل إلى درجة معقولة من الاستمرارية المتصلة. فهو ما يزال ضعيفًا وعرضة للتفتت. والواقع أن قدرة المرء على عزل جزء من عقله هي ميزة بالغة الأهمية. إنها تتيح له التركيز على شيء بعينه في وقت بعينه، مع استبعاد كل شيء آخر قد يلفت انتباهه. لكن، ثمة اختلاف شديد بين قرار يتخذه المرء وهو بكامل وعيه كي يشطر جزءًا من نفسه ويكبته مؤقتًا وبين الحالة التي يحدث فيها هذا الأمر تلقائيًا، دون معرفة المرء أو موافقته، بل حتى ضد رغبته، الحالة الأولى هي إنجاز حضاري، أما الأخيرة فهي حالة بدائية من "فقدان الروح" بل هي سبب مرضي يؤدي للإصابة بعصاب.
إذن حتى في وقتنا الحاضر ما تزال وحدة الوعي مسألة فيها شك، فهي بسهولة يمكن أن تتمزق أيضًا. كما أن قدرة المرء على ضبط انفعالاته وعواطفه، تلك القدرة التي يمكن أن تكون مرغوبة كثيرًا من قبل أحد الأشخاص قد تكون إنجازًا مشكوكًا فيه من قبل شخص آخر، إذ أنه يحرم التواصل الاجتماعي من تنوعه وتلونه ودفئه.
انطلاقًا من هذه الخلفية، علينا أن نعيد النظر في أهمية الأحلام – تلك الأضغاث الزئبقية المرواغة، الغامضة، التي ليس فيها شيء من اليقين ولا يعتمد عليها, بيد أنني أود، كي أشرح وجهة نظري، أن أصف الكيفية التي تطورت بها وجهة النظر تلك على مدى السنين، والكيفية التي انتهيت بها إلى أن الأحلام هي المصدر الأكثر قوة ووفرة، والأسهل منالا عمومًا من أجل البحث في القدرة على الترميز عند الإنسان.
لا شك أن سيغموند فرويد هو الرائد الأول الذي حاول أن يكتشف تجريبيًا ساحة اللاشعور الكامنة خلف الشعور. ولقد انطلق في عمله من افتراض عام يقول إن الأحلام ليست مسألة مصادفة، بل إنها مترابطة مع أفكار ومشكلات العقل الواعي. هذا الافتراض لم يكن اعتباطيًا البتة، بل يقوم بالأساس على النتيجة التي توصل إليها أخصائيون عصبيون بارزون (بيار جانيه مثلًا) وهي أن أعراض العصاب ذات صله وثيقة ببعض التجارب المخزونه في ساحة الوعي بل إنها تبدو وكأنها مناطق منشطرة عن العقل الواعي، مناطق يمكن، في وقت آخر وظروف مختلفة، أن تكون واعية.
لقد أدرك فرويد وجوزيف بروير، منذ أواخر القرن الماضي، أن أعراض العصاب – كالهيستريا، بعض أنواع الألم، والسلوك الشاذ- هي، بالحقيقة ذات معنى على الصعيد الرمزي. إنها إحدى الطرق التي يعبر بها العقل الباطن عن نفسه، تمامًا كما يمكن أن يفعل ذلك في الأحلام، وهي رمزية أيضًا. فالمريض الذي يواجهه موقف غير محتمل، مثلا، قد يظهر عنده التشنج في أي وقت يحاول فيه أن يبلع شيئًا: أي أنه "لا يستطيع بلع الموقف". وفي ظروف مشابهة من الضغط النفسي، قد يصاب مريض آخر بهجمة ربو: أي أنه " لا يستطيع أن يتنفس في الجو المحيط به" بينما قد يصاب ثالث بشلل معين في الساقين: فهو لا يستطيع المشي، أي أنه " لا يستطيع التحمل أكثر"، أما الرابع فقد يتقيأ حين يأكل ، أي أنه "لا يستطيع يهضم" حقيقة مزعجة ما. وبوسعي أن أسرد أمثلة كثيرة من هذا النوع، إلا أن ردود الأفعال الجسدية التي هي من هذا النوع ليست إلا شكلا واحدا من أشكال يمكن أن تظهر فيها المشكلات التي تزعجنا في أعماق اللاشعور، تلك المشكلات التي تظهر أكثر ما تظهر في أحلامنا.
_______
* مقطع من كتاب: الإنسان ورموزه: سيكولوجيا العقل الباطن، الصادر في ترجمته العربية عن دار التكوين بدمشق سنة 2012.
- اقرأ أيضًا:
* مقطع من كتاب: الإنسان ورموزه: سيكولوجيا العقل الباطن، الصادر في ترجمته العربية عن دار التكوين بدمشق سنة 2012.
- اقرأ أيضًا:
- انبعاث الروح
- مرض الجبال
تعليقات
إرسال تعليق
أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء