مرض الجبال



مقطع من كتاب: 
علم النفس التحليلي/ كارل جوستاف يونغ؛ ترجمة نهاد خياطة.- (القاهرة: مكتبة الأسرة، 2003)

جاءني مرة رجل يحتل منصبا بارزًا في العالم كان به قلق وفقدان أمن، ويعاني أحيانا من إغماء ينتج عنه غثيان ومن ثقلٍ في الرأس وضيق في التنفس؛ هذه الأوصاف تنطبق على أعراض "مرض الجبال" وكان الرجل أصاب في حياته نجاحًا منقطع النظير، إذ استطاع بفضل جده وطموحه ومواهبه أن يرتفع فوق نشأته المتواضعة بما هو ابن لفلاح فقير. ثم أخذ يصعد السلم درجة درجة حتى وصل إلى مركز هام أتاح له فرصة الحصول على مزيد من ارتقاء في السلم الاجتماعي. وقد وصل بالفعل إلى مكانة في الحياة كان يستطيع منها أن يبدأ منها صعوده إلى الدرجات العليا عندما ألم به العصاب على حين فجأة. وعند هذه النقطة لم يتمالك من إبداء أنواع من التعجب الذي يبدأ عادة بمثل هذه الكلمات " في هذا الوقت بالذات، عندما بدأتُ ..." لقد كان ظهور جميع أعراض "مرض الجبال" عليه مما يتناسب مع وضعه الخاص الذي وجد نفسه فيه. وعندما جاء لاستشارتي كان معه حلمان رآهما في الليلة السابقة.

كان الحلم كما يلي:
"وجدتني مرة أخرى في القرية التي ولدت فيها. بعض أولاد  الفلاحين الذين كانوا يذهبون معي إلى المدرسة كانوا يقفون في الشارع مررت أمامهم متظاهرًا أني لا أعرفهم سمعتُ أحدهم يقول مشيرًا إلىَّ لا يعود كثيرًا إلى قريتنا؟"

لا حاجة بنا إلى التحايل على التفسير لكي نفهم الإشارة إلى البدايات المتواضعة في حياة صاحب الحلم. الحلم يقول له في وضوح تام: نسيت كم كنت وضيعًا في بدايتك"

ويمضي الحلم الثاني على النحو التالي:

" أنا في عجلة من أمري لأني ذاهب في رحلة. فتشت عن حقائبي فلم أعثر عليها. الزمن يمضي سريعًا، والقطار سيغادر في الحال. أخيرًا أفلحت في جمع أغراضي بعضها إلى بعض. هرولتُ في الشارع فاتضح لي أنني نسيتُ محفظة صغيرة تحتوي على أوراق هامة. انفلتُّ راجعًا حتى وجدتها، ثم جريتُ راكضًا إلى المحطة وما كدتُ أجد طريقي إلا بشق النفس. ثم بذلت قصارى جهدي واندفعتُ نحو الرصيف فألفيتُ القطار ينفث البخار، كان القطار طويلا يجري في منعرجٍ على شكل حرف s خطر في بالي أن لو كان السائق طائشا وأطلق العنان للبخار عندما يصير في المدى المستقيم إذن لظلت حافلات المؤخرة في المنعرج وانقلبت من شدة السرعة. وفعلا فتح السائق المخناق وأنا أحاول أن أصيح به محذرًا، فأخذت حافلات المؤخرة تهتز هزا عنيفا ثم انقذفت بعيدًا عن السكة. كانت الكارثة رهيبة ثم استيقظت مذعورًا"

هنا أيضًا نستطيع أن نفهم الوضع الذي يمثله الحلم دون صعوبة كبيرة. فهو يصور مقدار ما لدى المريض من عجلة محمومة في سبيل تحقيق المزيد من التقدم لنفسه. ولما كان سائق القطار الذي في المقدمة يمضي قُدُمًا دون التفكير في العواقب، راحت الحافلة الخلفية تهتز ثم تنقلب؛ أي أن العصاب يتفاقم، ومن الواضح أن المريض كان قد بلغ في هذه الفترة أعلى نقطة في حياته؛ أي أن الجهد الذي بذله لكي يرتقي بعيدًا عن نشأته الوضيعة قد استنفذت منه جميع قواه؛ كان عليه أن يرضى بما حققه، ولكنه اندفع بدلا من ذلك يحدوه الطموح لعله يبلغ قممًا أعلى من النجاح لم يكن مناسبًا لها، فكان هذا العصاب بمثابة تحذير له. لقد حالت الظروف دون قيامي بمعالجة هذا المريض؛ وهو لم يبد ارتياحه لتشخيصي لحالته. وكانت النتيجة أن أخذت الحوادث مجراها في الطريق الذي أشار إليه الحلم. لقد حاول استغلال الفرص التي سنحت له وداعبت مطامحه فجرى جريًا عنيفًا بعيدًا عن السكة حتى تحطم قطار حياته الفعلية. وقد سمحت لنا استعادة المريض لذكرياته أن نستنتج أن مرض الجبال قد أشار إلى عجزه عن التسلق إلى أعلى مما وصل إليه. وقد عزز هذا الاستنتاج أحلامه التي عرضت عجزه بما هو أمر واقع.

 
هنا نصل إلى إحدى خصائص الأحلام التي يجب أن تأخذ المحل الأول في بحث يتناول تطبيق الأحلام في معالجة العصاب. فالحلم يعطينا صورة واضحة عن الحالة الذاتية أو الشخصية. بينما يرفض العقل الواعي أن يعترف بوجود هذه الحالة، أو لا يعترف بها إلا مكرهًا إن أنّية (Ego) المريض الواعية لا تستطيع أن ترى سببًا لعدم المضي قدما، لقد واصل كفاحه على سبيل التقدم رافضًا أن يسلم بالحقيقة التي جعلت منها الحوادث التالية بالغة الوضوح؛ وهي أنه بات في نهاية المطاف عاجزًا فعلا.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ما هو الفن الطليعي؟ (Avant Garde)

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

فن الكم = Quantum art

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات