موهبة السياسة .. 1


 ترجمة: مصطفى ماهر

max weber



 يمكننا أن نقول أن هناك ثلاث خصال تفوق غيرها في أنها صفات حاسمة بالنسبة للسياسي، وهي الشغف ، الشعور بالمسؤولية، التقدير. والشغف المقصود هو شغفٌ في سبيل الموضوعية إنه الاستسلام الشغوف لقضية ما أو لربٍ ما أو لشيطانٍ يسيطرُ عليه. وليس الشغف المقصود من نوع الانفعال الباطني الذي كان صديقي المرحوم جيورج زيمل (George Simmel ) يسميه الانفعال العقيم، والذي يميز نمطًا من المثقفين الروس خاصةً (ولا نقول جميعهم) والذي يلعب الآن دورًا كبيرًا لدى المثقفين عندنا ...

والشغفُ الخالص: أي الشغف الذي يعتمل أصيلا في النفس لا يؤدي بطبيعة الحال إلى شيء مما نعني. إنه لا يصنع رجل السياسة إلا إذا كان شغفًا بقضية يصنع من المسؤولية تجاه هذه القضية بذاتها النجم الذي يستضاء به ويُهتدي في كل عمل . ثم لا بد أن تتوافر في السياسي علاوة على ذلك خصلة نفسانية حاسمة أخرى هي التقدير: هي القدرة على جعل الوقائع تؤثر فينا ونحن هادؤون مالكون لأنفسنا، هي التباعد والترفع عن الأشياء والأشخاص. وإن افتقار السياسي إلى القدرة على التباعد والترفع لهو في حد ذاته خطيئة مهلكة، وصفة من الصفات التي تكونت لدى الجيل الجديد من مثقفينا وحكمت عليهم بالعجز السياسي؛ فالمشكلة هي كيفية الجمع بين الشغف الحار والتقدير البارد معًا في نفس واحدة؟ إن السياسة تخرج من الرأس، ولا تخرج من أي جزء آخر من أجزاء الجسم الإنساني أو الروح الإنسانية. ومن الممكن أن يتولد الكلف بالسياسة، وإن لم يكن لعبة عقلية عابثة، وكان مسلكًا إنسانيا خالصًا، عن الشغف. أما هذا التحكم الصارم في النفس الذي يميز السياسي الشغوف ويفرق بينه وبين هاوي السياسة الذي ينفعل انفعالا عقيمًا، فهو لا يتأتى إلا نتيجة للتعود على الترفع بكل ما في الكلمة من معانٍ. وإن قوة الشخصية السياسية لتعنى أولا وقبل كل شيء أن يكون الإنسان متصفًا بهذه الخصال.
وينبغي على السياسي أن يقهر في كل يوم وفي كل ساعة عدوًا دنيئًا كثيرًا ما يتربص بالإنسان، وهذا العدو هو الغرور، العدو اللدود لكل اندماج موضوعي ولكل تباعد وترفع، وفي هذه الحالةِ كل تباعدٍ حيالَ ذاته... والحقيقة أن ميدان السياسة يعرف نوعين فقط من الخطايا المهلكة: الخطيئة الأولى هي اللاموضوعية التي كثيرًا - وليس دائمًا - تتطابق مع الخطيئة الثانية وهي اللامسؤولية. إن الغرور، وهو الحاجة إلى الظهور في المقدمة كلما أمكن، يعرض السياسي لغواية ارتكاب واحدة من الخطيئتين أو ارتكابهما معا. وبقدر ما يهتم المهرج السياسي بالتأثير الذي عليه أن يحدثه، بقدر ما يعرض نفسه لهذا السبب إلى خطرٍ دائم هو خطر التحول إلى ممثل والاستخفاف بالمسؤولية بالنسبة لنتائج أفعاله والاهتمام بشيء واحد هو التأثير الذي يحدثه. إن لا موضوعيته تغريه بأن يسعى إلى المظهر البراق للسلطة بدلا من السعي إلى السلطة الواقعية الحقيقية. أما لامسؤوليته فتغريه بالتمتع بالسلطة في ذاتها دون ما هدف من ناحية المضمون. ونظرا لأن السلطة هي الوسيلة التي لا مناص عنها للسياسة، فليس هناك تشويه للقوة السياسية يحدث من التلف أكثر مما يُحدثُ التفاخر الوصولي بالسلطة، والاندماج المغرور في الإحساس بالسلطة. وبصفة عامة عبادة السلطة من حيث هي سلطة.

اقرأ أيضًا: موهبة السياسة .. 2

ملحوظة: (النص مقتبس بتصرف من كتاب صفحات خالدة من الأدب الألماني من البداية حتى العصر الحاضر/ نقلها إلى العربية وقدم لها مصطفى ماهر؛ والكتاب منشور في المشروع القومي للترجمة وصدرت منه نسخة مؤخرًا عن مشروع مكتبة الأسرة)

تعليقات

  1. اطيب تحية..

    مقال رائع ومفيييد للغاية
    الأنتقاء والأختيار يدل على ثقافة وذوق المتذوق

    يشرفني متابعتك هنا..
    وبارك الله بجهودك

    ردحذف
  2. إبراهيم : تسلم ويسلم مرورك
    عنّاي العيون: تسعدني وتشرفني متابعتك

    ردحذف

إرسال تعليق

أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

ما هو الفن الطليعي؟ (Avant Garde)

ألبرت أينشتاين وميليفا ماريتش: قصة حب (اقتباس)

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات