تحسين القبيح وتقبيح الحسن للثعالبي (مقتطفات)

هذه مقتطفات من كتاب "تحسين القبيح وتقبيح الحسن" للثعالبي ، الكتاب جميلٌ، وفكرته ممتعة أدبيًا .. يقوم الثعالبي في هذا الكتاب بإيراد مجموعة من النصوص التي يقبح أصحابها الحسن من الأشياء، والعكس ..

يقول الثعالبي عن الكتاب " أودعته لمعاً من غرر البلغاء ونكت الشعراء في تحسين القبيح وتقبيح الحسن. إذ هما غايتا البراعة، والقدرة على جزل الكلام في سر البلاغة، وسحر الصناعة".

 ...

تحسين الكذب

قال ابن التوأم: الكذب في مواطنه كالصدق في مواضعه، ولكن الشأن فيمن يحسنه ويعرف مداخله ومخارجه، ولا يجهل تزاويقه ومضايقه، ولا ينساه بل يحفظه. ومعلوم أن من أجل الأمور في الدنيا الحرب والصلح، ولا بد فيهما من الكذب. أما الحرب فهي خدعة كما قال عليه الصلاة والسلام. وأما إصلاح ذات البين فالكذب فيه محمود، لما فيه من الصلاح، وقد رخص فيه السلف. ولا خلاف في أن الشعر ديوان العرب ولسان الزمان، وأحسنه أكذبه. وكذلك الكتابة لا تحسن إلا بشيء منه. وقد جاء في المثل "أظرف من كذوب". قال الأعشى:

فصدقتها وكذبتهـا
والمرء ينفعه كذابه

وكان العتبي يقول: إني لأكذب في كبار ما ينفعني، لأصدق في صغار ما يضرني. وقيل لجعفر الصادق رضي الله عنه: ربما نكذب الظلمة مخافة شرهم أفنأثم فيه؟ فقال: بل يثيبكم الله تعالى عليه.


تحسين الوقاحة

الوقاحة كالقداحة، لولاها لما استعر لهب، ولا اشتعل حطب.



تحسين الحقد؟

لم يزل الحقد مذموماً بكل لسان، مقبحاً عند كل إنسان، حتى جرى بين يحيى بن خالد البرمكي وبين عبد الملك بن صالح الهاشمي كلام يؤذي، إلى أن قال له يحيى: لله درك أي رجل أنت، لولا أنك حقود. فقال عبد الملك: إن كنت تريد بقاء الخير والشر عندي فإني كذلك . ويروى أنه قال له: أنا خزانة تحفظ الخير والشر. فقال يحيى: هذا جبل قريش، ووالله ما رأيت أحداً احتج للحقد، حتى حسّنه وظرّفه غيره.
وقد نظم ابن الرومي هذا المعنى، فقال وزاد في التحسين:

وما الحقد إلا توأم الشكر لـلـفـتـى
وبعض السجايا ينتسبن إلى بـعـض
فحيث ترى حقداً عـلـى ذي إسـاءة
فثم ترى شكراً على حسن القـرض
إذا الأرض أدت ريع ما أنـت زارع
من البذر فيها، فهي ناهيك من أرض



تحسين الملال

قرأت في أخبار عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: أنه جرى يوماً في مجلسه بين جلسائه كلام في ذم الملل وتقبيحه والتعريض به، فتغافل وتشاغل ساعة. فلما أكثروا ولم يبقوا في القوس منزعاً، استوى جالساً وأقبل عليهم وقال: ويحكم أتدرون أنكم تذمون ممدوحاً? ألا ترون أن الرئيس إذا كان غير ملول اختص بثمرة فضله قوم، بل شرذمة قليلون من خواصه وندمائه (وحرم الأكثرون من أفاضل المستحقين صوب سمائه)، وإذا كان ملولاً ولا يصبر على نفر بأعيانهم استجد الأخوان على تكرر الزمان، واستمالهم بالإنعام، والإحسان، وتشارك الناس في أثاريده، وتضاربوا بالسهام في أياديه ومننه، فقالوا له: والله إن الأمير ليسحرنا بلسانه وبيانه، ويحسن ما تطابقت الألسن على تقبيحه.


تحسين الفراق

قال بعض الظرفاء: في الفراق مصافحة التسليم، ورجاء الأوبة، والسلامة من الملل، وعمارة القلب بالشوق، والأنس بالمكاتبة. وكتب أبو عبد الله الزنجي الكاتب: جزى الله الفراق عنا خيرًا، فإنما هو زفرة وعبرة، ثم اعتصام وتوكل، ثم تأميل، وتوقع. وقبح الله التلاقي، فإنما هو مسرة لحظة ومساءة أيام، وابتهاج ساعة واكتئاب زمان.

وكتب أحمد بن سعد؛ إني لأكره الاجتماع محاذرة الفراق وقصر السرور. ومع الفراق غمة يخفيها توقع إسعاف النوى، وتأميل الأوبة والرجعى.
وكتب آخر: لو قلت إني لم أجد للرحيل ألماً وللبين حرقة لقلت حقاً. لأني نلت في ساعة الفراق من طيب اللقاء وأنس العناق، ما كان معدوماً أيام التلاقي.
وكان أبو بكر الخوارزمي يقول: من أراد أن يسمع ما يقطر منه ماء الطرف فليستنشد قول محمد بن أبي محمد اليزيدي في تحسين الفراق:

ليس عندي شحط النوى بعظيم
فيه غم، وفيه كشف غمـوم
من يكن يكره الفراق، فإنـي   
أشتهيه لموضع التـسـلـيم
إن فيه اعـتـنـاقة لـوداع
ورجاء اعتـنـاقة لـقـدوم


تحسين الجبن والفرار

سمعت أبا زكرياء الحربي المزكي النيسابوري يقول: رئي شيخ كبير من الجند في بعض الحروب، وقد تأخر عن الصف، واستعد للهروب، فقيل له: أتأخذ رزق السلطان بهذا الجبن? فقال: لو لم أكن جباناً لما بلغت هذه السن العالية.
وكان أبو الهذيل العلاف يقول: بشروا الجبان بطول العمر. وكان ابن عائشة القرشي يقول: ما في الدنيا شجاع إلا متهور، ولا جبان إلا متحرر. وكان بعض الجبناء يقول: فر أخزاه الله خير من قتل رحمه الله. وقال آخر: من أراد دوام السلامة فليؤثر الجبن على الشجاعة. وقال آخر: نحن نتأدب بدين الله سبحانه في قوله: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة". وسمع بعضهم من قول: الشجاع موقى، والجبان ملقى، فقال: العيان والخبر والتجربة مما يشهد بقلب هذا الكلام. وقيل لآخر، وقد عزم على الهرب: ألا تجزع من السلطان أن يأمر بإسقاط رزقك? فقال: إنما أهرب خشية من سقوط الرزق. ورأى بعض الأمراء رجلاً قد تأخر عن الصف فقال: ويلك لم لا تحارب? فقال: أيها الأمير لست اليوم بطيب النفس، فاحسب كم جرايتي لهذا اليوم، فاسترها مني في غيره، ودعني أمرّ في لعنة الله.


 تقبيح المشورة

كان عبد الملك بن صالح الهاشمي يقول: ما استشرت أحداً قط إلا تكبر عليّ، وتصاغرت له، ودخلته العزة، ودخلتني الذلة. فإياك والمشورة، وإن ضاقت بك المذاهب، وأداك الاستبداد إلى الخطأ والفساد.
وكان عبد الله بن طاهر يقول: ما حكّ ظهري مثل ظفري، ولأن أخطئ مع الاستبداد ألف خطأ أحب إليّ من أن أستشير، فألحظ بعين النقص والحاجة.


تقبيح التأني

كان يقال: إياكم والتأني في الأمور، فإن الفرص تمر مرّ السحاب، والآفات في التأخيرات. وكان ابن عائشة القرشي يقول: الفلك أبعد من أن يحتمل معه التأني والتثبت، وخير الخير أعجله. وقيل لأبي العيناء: لا تعجل فإن العجلة من الشيطان. فقال: لو كانت كذا لما قال الله حكاية عن كليمه موسى عليه السلام: "وعجلت إليك رب لترضى".
وقال القطامي:

وربما فات قوم بعض نجحـهـم
من التأني، وكان الحزم لو عجلوا

ومن أحسن ما قيل في هذا الباب قول ابن الرومي:

عيب الأناة، وإن كانت مباركة
ألا خلود، وأن ليس الفتى حجرا

وقال ابن المعتز:

وإن فرصة أمكنت في العدو
فلا تبد فعـلـك إلا بـهـا
وإياك من نـدم بـعـدهـا
وتأميل أخرى، وأنى بـهـا

وقال محمد بن بشير:


كم من مضيع فرصة قد أمكنت

لغد، وليس له غـد بـمـوآت

حتى إذا فاتت، وفات طلابهـا

ذهبت عليها نفسه حـسـرات



تقبيح الحياء

كان يقال: الحياء يمنع الرزق، وقد قرنت الهيبة بالخيبة، والحياء بالحرمان. وقال بعض المحدثين: استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، وأموركم بالوقاحة والإبرام، ودعوا الحياء لربات الحجال. وقال آخر: هذا زمان يزمن ذوي الحياء، والوقاحة رأسمال وافية.
وقال الشاعر:

ليس للحاجات إلا
من له وجه وقاح
ولسان ذو فضول
وغـدو، ورواح



(يمكنك تحميل الكتاب من هنا)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

ما هو الفن الطليعي؟ (Avant Garde)

فن الكم = Quantum art

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات