انبعاث الروح

"هذه هي مقدمة الطبعة الإنجليزية من كتاب علم النفس التحليلي لعالم النفس المشهور كارل جوستاف يونج، وكاتب هذه المقدمة هو كاري ف. باينير، وقد نقلتها عن الترجمة العربية لنهاد خياطة في الطبعة الصادرة عن مكتبة الأسرة عام 2003."

     في العقد الماضي من هذا القرن، ظهرت بوادر كثيرة من مصادر مختلفة تشير إلى أن العالم الغربي يقف على شفا انبعاث روحي جديد، أو على تحول أساسي في موقفه من قيم الحياة. فبعد حقبة طويلة من التوسع الخارجي، عدنا لكي ننظر في أعماق نفوسنا مرة ثانية. هناك اتفاق عام على الظاهرات التي تحيط بهذا الانتقال المتعاظم في الاهتمام من الوقائع بما هي كذلك إلى معناها وقيمتها بالنسبة إلينا بما نحن أفراد، لكن ما إن نبدأ بتحليل التوقعات التي تحتضنها مختلف الجماعات التي يزخر بها عالمنا عن التحول المرتقب حتى ينتهي الاتفاق، وتقوم بدلا منه آراء تختلف وقوى تتصارع.

     فالذين ينتصرون للديانة المستمدة من الوحي يعتقدون أن الانبعاث الوشيك انبعاث للكثلكة أو للبروتستانتية، على حسب ما يكون صاحب الاعتقاد كاثوليكيا أو بروتستانتيا. وسندهم في ذلك أنهم يرون البشر يتدفقون بالملايين عائدين إلى أحضان الكنيسة ، حيث يلتمسون العزاء عن وقائع الخيبة والفواجع التي حلت بالعالم بعد الحرب ويتعلمون منها الطرق التي تؤدي بهم إلى الخروج مما هم فيه من عماء chaos. يقولون إن تجديد إيماننا بالمسيحية خليق به أن يعيدنا إلى طريق الحياة الأمين، ويعيد إلى العالم الوحي الذي افتقده.
 

     وجماعة أخرى ترى أن هذا الموقف الجديد الذي يتعين علينا اتخاذه هو القضاء على الدين كما فهمناه حتى الآن، قائلة إن الدين ما هو إلا بقايا خلفتها لنا بدائية تؤمن بالخرافة يجب أن يحل محلها عهد من "التنوير" جديد ودائم. وما على الإنسان إلا أن يطبق معرفته تطبيقا صحيحا ولا سيما معرفته الاقتصادية والتكنولوجية حتى تتبدد هباءً جميع الغيلان الهائلة المتمثلة بالفقر والجهل والطمع إلخ، ويستعيد الإنسان فردوسه المفقود. وعندهم يتعين أن يكون الانبعاث في نطاق العقل وحده بحيث يصبح الفكر هو الحكم الذي يقرر مصير الإنسان.
 

     وبين هاتين النهايتين القصوتين، الإيمان التقليدي والعقلانية القاتلة، نجد كل تفاوت في الرأي يمكننا تصوره حول المشكلة الكبيرة المتصلة بالخطوة التالية التي سوف تخطوها البشرية في تطورها النفسي ولعلنا نستطيع القول إن الموقع الوسط يحتله الذين يعلمون أنهم تجاوزوا المسيحية كما هي متمثلة في الكنيسة، ولكنهم لم يضطروا إلى نفي ما في الموقف الديني من قيمة أساسية في الحياة تماثل ما في العلم من أصالة وصحة. وهؤلاء اختبروا الروح اختبارا حيا كما اختبروا الجسد، واختبروا الجسد اختبارا حيا كما اختبروا الروح، تجلت عليهم الروح تجليات يتعذر شرحها أو تفسيرها بلغة اللاهوت التقليدي أو بلغة المادية الحديثة؛ ولا يحسون رغبة في قطع عرى التقوى التي يشعرون بها في أعماق قلوبهم بسبب هيكل الحقائق العلمية التي يمنحها العقل دعمه وتأييده، بل يؤمنون أنهم لم يصلوا إلى معرفة أوسع عما تؤيده عقولهم من وظائف داخلية، وإلى معلومات أوفى عن القوانين اللطيفة – المحددة تحديدًا كاملا مع ذلك – التي تحكم النفس الإنسانية، وكان بمقدورهم الوصول إلى الموقف الجديد المطلوب، دون أن يلجؤهم هذا إلى الانكفاء نحو ما هو إلا ضحية أوهام فلسفة القرن التاسع عشر، من ناحية ثانبة.
 

     إلى الجماعة الأخيرة يتحدث يونج بلغة مقنعة، ولا يتهرب من المهمة الصعبة القائمة على دمج معرفته بالروح التي اكتسبها على مدى سنين طويلة في العمل طبيبا عقليا ومحللا نفسيا، بذخيرة من المعلومات المتيسرة لكل إنسان والمنطبقة على كل إنسان. ويعطينا المفاتيح التي تفتح لنا مغاليق الطبيعة والوظائف النفسية التي يتلهف الإنسان الحديث شوقًُا أن يمسك بها. ووجهة النظر التي يطرحها أمامنا تشكل تحديًا للروح، وتستثير تجاوبا فعالا عند كل من يشعر في نفسه بما يحضه على النمو إلى ما يتجاوز موروثه.
 

     جميع المحاضرات التي يتألف منها الكتاب ألقيت في محاضرات إلا واحدة وهي موازنة بين فرويد ويونج كتبها الأخير بناء على طلب ناشر ألماني. والنص الألماني لأربع منها نشر في كتاب على حدة. أما المقالات الأخرى، مع عدة مقالات غيرها، فقد تتضمنها كتاب سبق وظهر بالإنجليزية.

...
Cary F. Baynes
زيورخ مارس 1933

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

النوافذ

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات