المشاركات

الكتابة: موهبة الاحتيال على الصمت

صورة
بقلم: أحمد ع. الحضري (١) أعرف أصدقاء لا أشكُّ في امتلاكهم موهبة الكتابة والقدرة على الإبداع فيها، لكنهم لا يكتبون ولا يَعُدُّون أنفسهم كتَّابًا. وأعرف من بدأ خطواتٍ قليلةً في رحلة الكتابة، ثم توقف بعدها دون أسبابٍ واضحة. وأعرف من تقلُّ حماسته للبدء مع مرور الوقت؛ لأنه يرى أنه تأخر. ولأني أعرفهم، أفكر أن أسباب عدم إنجازهم في هذا المجال لا تتعلق بنقصٍ في الموهبة على الإطلاق، لكنَّ الأسباب تكمن في مناطق أخرى؛ ربما تتعلق بعادات الكتابة لديهم، أو أفكارهم عنها. وحين أفكر فيهم أتأكد أن الموهبةَ أو القدرة على الكتابة وحدها ليست كافية للإنجاز فيها؛ الأمر يتطلب أيضًا طريقة تفكير خاصة، وعادات عملية تسهِّل الإنجاز، وتحمِّس الكاتب. اللوحة لبيكاسو

أسئلة الفأر في المتاهة

صورة
بقلم: أحمد ع. الحضري (١) فأرٌ يُوضع في المتاهة للمرة الأولى، يتحسَّس طريقه بتشكُّك، يشمشم هنا وهناك، في الجو رائحةُ قطعة من الجُبن أو الشوكولاتة يريد أن يصل لها، في المتاهة أبوابٌ، عليه أن يتعرف كيف يفتحها ليصل إلى هدفه. مع الوقت يصبح الفأر متآلفًا مع المتاهة، في المرات التالية يسير إلى هدفه بسرعة أكبر، يفتح الأبواب بالطريقة التي تَعَلَّمَهَا في المرات السابقة ليصل. في هذه المتاهة يتحول السلوك الذي تَعَلَّمَهُ الفأر مع الوقت إلى روتين؛ سلوك مألوف تُعَزِّزه المكافأة التي تنتظره في النهاية. من كثرة ما قرأنا عن هذه التجربة لسنا في حاجة إلى التكلُّم عنها كثيرًا. غرض التجربة هو معرفة كيف يعمل العقل؛ في البداية يبذل الفأر مجهودًا عقليًّا كبيرًا لاستكشاف المتاهة، ثم مع الوقت يتحول سلوكه إلى سلوك روتيني يبذل فيه قدرًا محدودًا من الطاقة الذهنية. شاهد العلماء في هذه التجربة سلوكَ الفأر وهو يتغيَّر وفقًا للبيئة ويتحول إلى روتين من خلال عملية من ثلاث مراحل تتكرر بشكل تلقائي: محفِّز، عادة، مكافأة. دورة تلقائية يخلقها العقل بشكل تلقائي.  (٢) اللوحة ل: M

السير في الزمن

صورة
بقلم: أحمد ع. الحضري (١) رجلٌ عجوزٌ أو شابٌّ صغير، يبدأ حكايته: «كان يا ما كان»، ثم ينتقل بالأحداث على حريته؛ يبطئ حينًا عند مشهدٍ ما ويُسهِب في وصفه، ويسارع في مشاهد أخرى فيجعلها متتابعةً تخطف الأنفاس، قد ينتقل من الزمن الحاضر إلى الماضي: «وكان قبلها قد حدث أنه …»، أو يقفز إلى المستقبل دون تمهيد: «ثم/بعد عشر سنوات/في النهاية …»، أو ربما يخلط بين الأزمان بشكلٍ غير منتظم: ماضٍ حاضر ماضٍ ماضٍ … وهو في هذا كله كحَكَّاءٍ بارع يراعي التشويق، يعرف أن الحدث (الحدوتة) لا يكفي، وأن الطريقة التي يقول بها قصته قد تكون أَهَمَّ من القصة. لكن المسألة ليست فقط في التشويق، الفكرة هي أن شكل الزمن الخطي الذي نعرفه لا يُعَبِّرُ دائمًا عن أفكار الإنسان ومشاعره بشكل كافٍ، الإنسان يكون في لحظته الحاضرة مرتبطًا بلحظات بعينها في ماضٍ قريب أو بعيد، يستعيدها حنينًا، أو ندمًا، أو تأمُّلًا، يستعيدها لصلتها بحاضره، أو لأنها أبعد ما تكون عن حاضره. الإنسان يتطلع أيضًا للمستقبل، يتشبث به كمَهْرَبٍ، أو يخاف منه كخطر، أو يتساءل بخصوصه بحَيْرةٍ. لحظة أو فكرة وُلِدَتْ منذ عشرين عامًا أو أكثر، قد تساعد على فَه

وجهات النظر: بين النسبوية والحقيقة الوحيدة

صورة
بقلم: أحمد ع. الحضري (١) ربما تكونُ قد شاهدْتَ فيلم راشمون (Rashomon-1950) للمخرج الياباني كوروساوا، والذي يعرض أربع رؤًى متباينة لحدث واحد، هو مقتل الساموراي «كانازاوا تاكيهيكو». تعرض كل شخصية زاوية من الحدث تعبِّر عن نظرتها للحقيقة، ومع توالي الرؤى تُفاجأ - كمشاهد- بمقدار التناقُض بينها، ومقدار التشويه الذي حدث في كل زاوية نظر. هذه الانتقائية نمارسها في حياتنا بشكل مستمر: ونحن في بيوتنا، ونحن نسير في الشارع، ونحن نتعامل مع الآخرين. قد نعرف شخصًا ما لفترة طويلة، لكننا نحتار ونتبلبل مثلًا إن سألنا أحدُهم عن تفصيلةٍ ما تخصه. والوعي بهذه الفكرة من النقاط المهمة في تقنية كثير من الأعمال الفنية والأدبية، ومنها القصة والرواية على سبيل المثال. على الروائي في كل جزء من روايته أن يختار زاوية النظر التي سينقل بها الحدث الذي يريد نقله، هل سيستخدم الراوي العليم أم الراوي المشارك؟ ومن أي زاوية سينقل المشهد الذي يريد وصفه؟ الوعي الحديث يدرك أن الراوي لا ينقل الحقيقة بالضرورة كما حدثت، لكنه ينقلها كما رآها أو كما يريدنا أن نسمعها. M. C. Escher (٢) يشير را

"كإن"

صورة
بول جوجان Paul Gauguin: Self-Portrait with Yellow Christ بقلم: أحمد ع. الحضري عارف دايمًا في التراث العربي كانوا بيتكلموا عن الحالة اللي ما ينفعش لغة توصلها إلا إذا كان اللي بتكلمه جربها، المثال المشهور هو حالتك وانت بتحاول توصف الطعم المر أو الحلو أو المالح لواحد عمره ما امتلك حاسة التذوق؛ أو إنك تحاول توصف لواحد ما بيشمش، ريحة الورد، ساعتها ممكن تقول له مثلا: "كإنها موسيقى بيتهوفن"، أو " كإنها صوت فيروز"، وانت عارف إن دا عمره ما هيعرفه يعني إيه ريحة الورد، بس تفكر: على الأقل كلامك ممكن يساعد عقله يتعامل مع الفكرة المجهولة، مع الكلمة الغريبة كل ما يقراها. هنا كإنك بترسم بالدخان، تحس للحظة كإنك قلت، ووصلت للي بتوصفه، بس لا، كله بيطير. الكلمة اللي بتعبر عندي دايمًا عن الحالة دي -حالة اللي واقف على طراطيف صوابعه أو بينط عشان يلمس غصن شجرة أعلى منه حاسس إنه خلاص مسكه، بس عمره ما هيوصل له- هي: "كإن". 

الكلام بيضيق عليك وانت بتضيق ع الكلام

صورة
بول جوجان - بورتريه ذاتي (paul gauguin - self portrait بقلم: أحمد ع. الحضري زي الشيخ اللي كان بيدي دروس ف أكبر جامع ف بغداد، وفجأة لقى نفسه مش قادر يتكلم ... كان جزء منه عايز يكمِّل مع اللي يعرفه ويفهمه واتعود عليه، جزء منه فضل يصحى كل يوم الصبح عشان يعيش حياة الناس ويتكلم كلام الناس، ويحافظ على اللي بناه، على سمعته، وشهرته وشغله، وحب الناس اللي ممكن يختفي، لكن كان فيه جزء تاني مش قابل الوضع وعارف إنه مش مناسب وما بقاش بتاعه ولا يناسبه .. جزء منه كان سافر فعلا برة بغداد وابتدى الرحلة وهو ما كانش ينفع يتكلم ويدرِّس ويقول وهو نص بني آدم.. وما كانش ينفع رحلته تتحسب رحلة لو نصه بس اللي سافر .. كان لازم كله يسافر أو كله يقعد وعشان كدا الشرخ زاد جواه وانقسم اتنين ف مواجهة بعض .. اتنين كل واحد منهم ليه طريق وفكر .. واحد مادد جذورة والتاني فارد جناحاته... حاجة لازم تخليه يقف عن الكلام وعن كل حاجة لإنه في اللحظة دي ما كانش عارف هو نبات ولا طير، وكان لازم يقرر، أو المهم ما كانش القرار، لإنه قرر إنه يقعد، إنه يكمل في اللي يعرفه، بس القرار دا ما كانش له معنى ولا كان ممكن تنفيذه، لإنه كان سافر ف

كيف مزقت التكنولوجيا الحقيقة

صورة
(هذا المقال هو ترجمة من الأصل الإنجليزي المنشور في جريدة الجارديان بتاريخ 12 يوليو 2016 بعنوان: " How technology disrupted the truth ") بقلم: كاثرين فاينر ( Katharine Viner ) ترجمة: أحمد ع. الحضري الصورة لسيباستيان تيبو (Sébastien Thibault) نقلا عن الجارديان.  في صباح يوم اثنين في سبتمبر الماضي، استيقظت بريطانيا على قصة خبرية شائنة. ارتكب رئيس الوزراء، ديفيد كاميرون، وفقًا للديلي ميل، "فعلًا فاحشًا مع رأس خنزير ميت". أفادت الصحيفة أن " شهيرًا زامله في جامعة أوكسفورد يزعم اشتراك كاميرون في إحدى المرات في طقس قبول شائن جرى أثناء فاعلية لبيرس جافستون، تضمنت رأس خنزير ميت،". بيرس جافستون هو اسم نادي طعام منفلت في جامعة أكسفورد؛ زعم مؤلف القصة أن مصدره كان عضوًا في البرلمان، والذي ادعى أنه شاهد دليلًا مصورًا: "تلميحه غير المعتاد هو أن من سيغدوا لاحقًا رئيسًا للوزراء أولج جزءًا خاصًا من أجزاء جسمه داخل الحيوان.". القصة، المقتطفة من سيرة جديدة لكاميرون، أثارت ضجة على الفور. لقد كان الأمر مقززًا، وكانت فرصة عظيمة لإذلال رئيس وزراء نخبوي، وشعرت