كيف مزقت التكنولوجيا الحقيقة

(هذا المقال هو ترجمة من الأصل الإنجليزي المنشور في جريدة الجارديان بتاريخ 12 يوليو 2016 بعنوان: "How technology disrupted the truth")

بقلم: كاثرين فاينر (Katharine Viner)
ترجمة: أحمد ع. الحضري

الصورة لسيباستيان تيبو (Sébastien Thibault) نقلا عن الجارديان. 


في صباح يوم اثنين في سبتمبر الماضي، استيقظت بريطانيا على قصة خبرية شائنة. ارتكب رئيس الوزراء، ديفيد كاميرون، وفقًا للديلي ميل، "فعلًا فاحشًا مع رأس خنزير ميت". أفادت الصحيفة أن " شهيرًا زامله في جامعة أوكسفورد يزعم اشتراك كاميرون في إحدى المرات في طقس قبول شائن جرى أثناء فاعلية لبيرس جافستون، تضمنت رأس خنزير ميت،". بيرس جافستون هو اسم نادي طعام منفلت في جامعة أكسفورد؛ زعم مؤلف القصة أن مصدره كان عضوًا في البرلمان، والذي ادعى أنه شاهد دليلًا مصورًا: "تلميحه غير المعتاد هو أن من سيغدوا لاحقًا رئيسًا للوزراء أولج جزءًا خاصًا من أجزاء جسمه داخل الحيوان.".

القصة، المقتطفة من سيرة جديدة لكاميرون، أثارت ضجة على الفور. لقد كان الأمر مقززًا، وكانت فرصة عظيمة لإذلال رئيس وزراء نخبوي، وشعرت كثرة من الناس أن القصة تبدو حقيقية بالنسبة لعضو سابق في نادي بولنجدون (Bullingdon Club) سيء السمعة. خلال دقائق كانت #Piggate و #Hameron من ضمن الأكثر انتشارًا (trending) على تويتر، حتى أن سياسيين كبارًا شاركوا في الهزل: قال نيكول ستيرجون (Nicola Sturgeon) أن الادعاءات "أمتعت البلد بكاملها"، بينما مزح بادي أشداون: كاميرون كان "يستأثر برؤوس الأخبار"[i] (hogging the headlines). في البداية، رفضت ال بي بي سي (BBC) ذكر الادعاءات، وقال مكتب رئيس الوزراء (10 Downing Street) أنه لن "يضفى قيمة" (“dignify) على القصة بأي رد – لكنه سريعًا ما اُضطر إلى الإنكار. وهكذا تمت توجيه اهانات جنسية إلى رجل قوي، بطريقة ليس لها علاقة بسياساته المثيرة للخلاف، وبطريقة لا يمكنه قط الرد عليها. لكن من يهتم؟ هو يستطيع أن يتحمل ذلك.


ثم، بعد يوم كامل من المرح الإنترنتي، حدث شيء صادم. إيزابيل أوكشوت (Isabel Oakeshott)، صحفية الديلي ميل التي شاركت في كتابة السيرة مع لورد آشكروفت –رجل أعمال مليونير- ظهرت على التلفاز واعترفت انها لا تعرف حتى إن كان سبقها الصحفي الفضائحي الضخم صحيحًا. بعد الضغط عليها لتقديم دليل على الادعاء المثير، اعترفت أوكشوت أنها لا تملك أي دليل.

قالت في القناة الإخبارية الرابعة (Channel 4 News): "لم نتمكن من التأكد من ادعاءات مصدرنا، لذا قمنا فقط بإيراد القصة التي ذكرها المصدر ... نحن لا نذكر ما إن كنا نصدق صحتها." بكلمات أخرى، لم يكن هناك دليل أن رئيس الوزراء البريطاني قام ذات مرة "بإيلاج جزء خاص من جسده" في فم خنزير ميت- القصة التي أوردتها دستة من الصحف، وكررتها ملايين التغريدات على تويتر، والتحديثات على فيسبوك، والتي من المحتمل أن كثرة من الأشخاص ما زالوا يصدقون أنها صحيحة حتى اليوم. 


أوكشوت مضت حتى أبعد من هذا بأن أعفت نفسها من أي مسؤولية صحفية: لخصت المسألة في أن "الأمر يرجع إلى بقية الناس ليقرروا إن كانوا سيمنحونها أي مصداقية أم لا،". هذه لم تكن بالطبع المرة الأولى التي تم نشر فيها ادعاءات شاذة بناءً على أدلة واهية، لكن هذا كان دفاعًا وقحًا بشكل غير معتاد. يبدو أنه لم يعد مطلوبًا من الصحفيين أن يصدقوا أن القصص التي يكتبونها صحيحة، ولم يعد من المطلوب منهم –كما يبدو- تقديم أدلة. بدلًا من ذلك يعود الأمر للقارئ –الذي لا يعرف حتى هوية المصدر- ليقرر بنفسه. لكن بناء على ماذا؟ غريزته، حدسه، مزاجه؟
أما زالت الحقيقة تهم؟


***


بعد مرور تسعة أشهر على اليوم الذي استيقظ فيه البريطانيون وهم يضحكون على العلاقة الخنزيرية المفترضة لكاميرون، صحت البلد صباح يوم 24 يونيو على مشهد حقيقي للغاية لرئيس الوزراء واقفًا خارج داونينج ستريت في الثامنة صباحًا، معلنًا استقالته. 
"صوَّت المواطنون البريطانيون لصالح ترك الاتحاد الأوروبي ولابد أن تُحترم رغبتهم"، أعلن كاميرون. "هو قرار لم يتم اتخاذه بسهولة، لأسباب ليس أقلها، أن كثيرًا من الأشياء قيلت من قبل منظمات مختلفة للغاية عن أهمية هذا القرار. كي لا يكون هناك شك فيما يخص النتائج؟"
" لكن سريعًا ما أصبح واضحًا أن تقريبًا كل شيء ظل موضعًا للشك. في نهاية الحملة التي هيمنت على الأخبار لشهور، أصبح فجأة باديًا أن الطرف الفائز لم تكن لديه أي خطة تخص كيفية أو وقت خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي - بينما تداعت فجأة الادعاءات الخادعة التي قادت حملة الخروج. في تمام الساعة 6.31 من صباح الجمعة 24 يونيو - بعد مضي فقط ما يزيد عن ساعة من ظهور نتائج استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي- اعترف نايجل فاراج (Nigel Farage) رئيس حزب الاستقلال البريطاني (Ukip) أن بريطانيا ما بعد الخروج من الاتحاد الأوربي لن توفر في الحقيقة 350 مليون جنيه في الأسبوع يمكن صرفها على هيئة الخدمات الصحية الوطنية (NHS) – وهو ادعاء رئيس لأنصار الخروج تمت كتابته على أوتوبيس حملة التصويت للخروج. بعد مضي بضعة ساعات، ذكر دانيال هنان (Daniel Hannan) أنه من غير المرجح أن يقل عدد المهاجرين، وهو ادعاء رئيسٍ آخر. 

أتوبيس حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي مع الدعاية الخادعة مطبوعةً عليه.

ليست تلك هي المرة الأولى التي فشل فيها الساسة في الوفاء بما وعدوا، لكنها قد تكون المرة الأولى التي اعترفوا فيها في الصباح التالي للفوز أن الوعود كانت زائفة على طول الخط. كان هذا هو التصويت الأول في حقبة سياسات ما بعد الحقيقة: حاولت الحملة الهزيلة الداعمة للبقاء محاربة الفانتازيا بالوقائع، لكن سريعًا ما وجدوا أن عملة الحقيقة انخفض سعرها بشكل سيء. 

تم نبذ حقائق الجانب المناصر للبقاء وخبرائه باعتبارها "مشروع خوف" (Project Fear) –وتم تحييدها سريعًا بواسطة "حقائق" مضادة: إن قال 99 خبيرًا أن الاقتصاد سينهار واختلف معهم واحد، ذكرت لنا البي بي سي BBC أن لكل طرف رؤية مختلفة للموقف. (هذا خطأ كارثي يؤدي إلى التعتيم على الحقيقة، ويشبه الطريقة التي يعالج بها البعض مسألة تغير المناخ إخباريًا.)

صرح مايكل جوف (Michael Gove) في ستار نيوز: "لقد اكتفى الناس في هذا البلد من الخبراء. وقارن أيضًا 10 من الفائزين بجائزة نوبل في الاقتصاد وقعوا خطابًا رافضًا للخروج من الاتحاد الأوربي بالعلماء النازيين المناصرين لهتلر.

ملصق نقطة الانهيار


لشهور هللت الصحف المتشككة تجاه الاتحاد الأوروبي لكل ادعاء مشكوك فيه، وسخَّفَت من كل تحذير أطلقه أحد الخبراء، مالئين الصفحات الأولى بعدد أكبر من أن يُحصى من العناوين الرئيسية الملفقة المعادية للمهاجرين، تم تصحيح عدد منها فيما بعد بخط صغيرٍ للغاية. قبل التصويت بأسبوع – في نفس اليوم الذي كشف فيه نايجيل فاراج عن ملصقه الإعلاني التحريضي "نقطة الانهيار" (Breaking Point) [ii] ، ولاقى فيه عضو البرلمان عن حزب العمل جو كوكس (Jo Cox)، الذي دافع بلا كلل عن اللاجئين، حتفه بعد إطلاق النار عليه- أبرز غلاف الديلي ميل صورة للاجئين يركبون في الجزء الخلفي من شاحنة (lorry) أثناء دخولهم للمملكة المتحدة (UK) ، مصحوبةً بعنوان رئيسي "نحن من أوروبا- اسمحوا لنا بالدخول!" في اليوم التالي، تم إجبار الديلي ميل و ذا صن (the Sun) –التي نقلت القصة كذلك- على الاعتراف أن المتهربين كانوا في الحقيقة من العراق والكويت.

لم يتوقف التجاهل الوقح للحقائق بعد التصويت: فقط هذا الأسبوع، المرشحة قصيرة الأجل لقيادة حزب المحافظين أندريا ليدسوم (Andrea Leadsom)، مفعمة بالنشاط بعد دورها البارز في حملة الخروج، أظهرت بوضوح انحسار القوة عن الدليل. بعد أن ذكرت للتايمز أن كونها أمًا سوف يجعلها رئيسة للوزراء أفضل من منافستها تيريزا ماي (Theresa May)، صرخت "صحافة بالوعات" واتهمت الصحيفة بتشويه ملاحظاتها – على الرغم من إنها قالت هذا بالتحديد، بشكلٍ واضح وقاطع ومسجَّل. ليدسم هي من سياسيي "ما بعد الحقيقة" (post-truth politician) حتى عندما يتعلق الأمر بحقائقها هي.

حين تبدأ الحقيقة في التماثل مع ما تحسه صحيحًا أيًا كان، يغدو من الصعب للغاية على أي شخص التفرقة بين "الحقائق" الصحيحة، و"الحقائق" غير الصحيحة. كانت الحملة الداعية للخروج واعية بهذا –واستفادت بشكلٍ كامل، آمنين بمعرفتهم أن هيئة المعايير الإعلانية (Advertising Standards Authority) لا سلطة لها في تنظيم الادعاءات السياسية. بعد التصويت بأيامٍ قليلة، أخبر آرون بانكس (Arron Banks) -أكبر متبرع لحزب الاستقلال البريطاني (Ukip)، والممول الرئيس لحملة الخروج من الاتحاد الأوروبي- الجارديان أن الجانب الذي انحاز له عرف طوال الوقت أن الحقائق لم تكن لتفوز. قال بانكس: "كان الأمر يستلزم أسلوبًا في التعامل يشبه أسلوب أجهزة الإعلام الأمريكية "، "ما ذكروه منذ وقتٍ مبكرٍ، كان أن ’الحقائق لا تؤدي المهمة‘، وهذه هي المسألة. حملة البقاء أبرزت حقائق، حقائق، حقائق، حقائق، حقائق. هي فقط لا تحقق نتائج. لا بد أن تتواصل مع مشاعر الناس. هذا هو سر نجاح ترامب."

لم تكن مفاجأة كبيرة أن بعض الناس كانوا مصدومين بعد النتيجة لاكتشافهم أن الخروج من الاتحاد الأوروبي (Brexit) قد يكون له عواقب وخيمة، والقليل من الفوائد التي تم الوعد بها. حينما "لا تؤدي الحقائق المهمة"، ولا يثق المصوتون في وسائل الإعلام، يصدقُ كلُ شخصٍ نسخته الخاصة من "الحقيقة" – وتكون النتائج – كما رأينا- مدمرة.
كيف انتهينا إلى هذه النقطة؟ وكيف يمكن إصلاح ذلك؟

***
بعد 25 عامًا من ظهور أول موقع على الإنترنت، من الواضح أننا نعيش في حقبة تحول تصيب بالدوار. لمدة 500 سنة بعد جوتنبرج، كان الشكل المسيطر للمعلومة هو الصفحة المطبوعة: كان يتم إيصال المعرفة بشكل أساسي في صيغ ثابتة، صيغ شجعت القارئ على الإيمان بحقائق ثابتة ومستقرة.

الآن، نحن عالقون في سلسلة من المعارك المربكة بين قوىً متعارضة: بين الحق والزيف، الحقيقة والشائعة، الطيبة والقسوة؛ بين القلة والكثرة، المتصل والمعزول؛ بين المنصة المفتوحة للويب كما تصورها مهندسوها والسياج ذي الأبواب كما هو موجود في الفيسبوك وشبكات التواصل الاجتماعي الأخرى؛ بين الجمهور المستنير، والحشد الذي تم تضليله.

ما هو مشترك بين مثل هذه النزاعات -وما يجعل حلها قضية مُلِحَّة- هو أنها جميعًا تتضمن حالة الاضمحلال الذي تعاني منها الحقيقة. هذا لا يعني أنه لا توجد حقائق. الأمر يعني ببساطة، كما بينت لنا هذه السنة بشكل كبير، أننا لا نستطيع أن نتوافق حول كنه هذه الحقائق، وحين لا يكون هناك إجماع حول الحقيقة مع عدم إمكانية تحقيق مثل هذا الإجماع، تأتي الفوضى بعد ذلك.

بشكلٍ متزايد، صار ما يعدُ حقيقةً هو مجرد رأي يحسُ أحدهم أنه صحيحٌ- وجعلت التكنولوجيا من السهل للغاية لهذه "الحقائق" أن تنتشر بسرعة ومدىً لم يكن متخيلًا في حقبة جوتنبرج (أو حتى منذ عقد مضى). قصة مريبة عن كاميرون ورأس خنزير تظهر في تابلويد[iii] ذات صباح، وقبل الظهيرة تكون قد طارت حول العالم على السوشيال ميديا وانتقلت إلى المصادر الإخبارية الموثوق بها في كل مكان. قد يبدو هذا كمسألة صغيرة، لكن عواقبها ضخمة.

"الحقيقة" كما كتب بيتر تشيبنديل (Peter Chippindale) وكريس هوري (Chris Horrie) في كتاب: " Stick It Up Your Punter!"، تأريخهما لصحيفة الصن، هي "بيان غير مفصل تطبعه كل صحيفة على مسؤوليتها الخاصة" . هناك في العادة عدة حقائق متصارعة في أي موضوع، لكن في حقبة الصحافة المطبوعة، ثبتت الكلمات على الورقة الأشياء، سواء اتضح أنها حقيقة أم لا. أحسسنا بالمعلومات كحقائق، على الأقل حتى جاء اليوم التالي بتحديث أو تصحيح، وتشاركنا جميعًا في مجموعة حقائق مشتركة.

كان يتم تلقي هذه "الحقيقة" المستقرة من أعلى: حقيقة راسخة، غالبًا تم تثبيتها في موقعها بواسطة مؤسسة. هذا الترتيب، لم يكن خاليًا من الأخطاء: أبدت الكثير من الصحافة تحيزًا تجاه الوضع الراهن ومراعاة للسلطة، وكان من الصعب بشكل كبير على الناس العاديين أن يتحدوا قوة الصحافة. الآن، يرتاب الناس في أغلب ما يتم تقديمه كحقائق - خصوصًا لو أن الحقائق موضع النقاش غير مريحة، أو غير متوافقة مع آرائهم الخاصة- وبينما يكون بعض هذا الارتياب خاطئًا، فبعضه ليس كذلك.

في العصر الرقمي، غدا نشر معلومات خاطئة أسهل من أي وقتٍ مضى، وهي التي يتم نشرها بسرعة، واستقبالها كحقيقة -كما نرى عادة في حالات الطوارئ حين تنبثق الأخبار في الوقت الحقيقي. وكي نختار مثالًا واحدًا من ضمن الأمثلة الكثيرة، حدث خلال اعتداءات باريس الإرهابية التي جرت في شهر نوفمبر 2015، أن انتشرت شائعات بشكلٍ سريعٍ على وسائل التواصل الاجتماعي أن اللوفر ومركز بومبيدو قد جرت مهاجمتهما، وأن فرانسوا هولاند قد عاني من جلطة. هناك حاجة إلى مؤسسات صحفية موثوقة لكي تفضح مثل هذه القصص المختلقة.

أحيانًا ما تنتشر مثل هذه الشائعات نتيجة للذعر، أحيانًا نتيجة للحقد، وفي أحيانٍ أخرى نتيجةً لتلاعب متعمد، حيث تدفعُ مؤسسةٌ أو نظامٌ أموالًا لأناس من أجل توصيل رسالتهم. أيًا كان الدافع، تنتشر الأكاذيب والحقائق الآن بنفس الطريقة، من خلال ما يسميه الأكاديميون ب "شلال المعلومات" (information cascade). كما يصفه الباحث القانوني، وخبير التحرش الإلكتروني دانيال سيترون (Danielle Citron)، "يمرر الناس أفكارَ الآخرين، حتى لو كانت المعلومة خاطئة، أو مضللة أو غير كاملة، لأنهم يعتقدون أنهم تعلموا شيئًا قيمًا". هذه الدورة تكرر نفسها، وقبل أن تعلم، يكون للشلال زخمًا (momentum) لا يمكن إيقافه. تشارك منشورات الأصدقاء على الفيسبوك، ربما لكي تبديَ تقاربًا أو موافقةً أو لكي تظهر أنك "تعلم"، وبهذا تبرز هذا المنشور للآخرين بشكلٍ أكبر .

الخوارزميات (Algorithms) مثل تلك التي تشغِّل تحديثات الأخبار الخاصة بالفيسبوك مصممة بحيث تمنحنا بشكل أكبر ما يظنون أننا نريده –وهو ما يعني أن نسخة العالم التي نقابلها كل يوم في مجرانا (stream) الخاص يتم التحكم فيها بشكلٍ خفي كي تعزز معتقداتنا القائمة مسبقًا. حين صك إيلاي باريزر (Eli Pariser) المؤسس المشارك لموقع Upworthy مصطلح "فقاعة حاجبة" (filter bubble) في 2011، كان يتحدث عن شخصنة الشبكة -وتحديدًا وظيفة تخصيص البحث في جوجول، والتي تعني عدم تماثل نتائج البحث في جوجول لأي شخصين- وكيف أنها تعني أن هناك احتمالية أقل للتعرض للمعلومات التي تتحدانا، وتوسع نظرتنا للعالم، وأن هناك احتمالية أقل لمواجهة الحقائق التي تدحض المعلومات الخاطئة التي نشرها الآخرون.

ما طالب به باريزر ، في ذلك الوقت، أن هؤلاء القائمين على منصات التواصل الاجتماعي يجب أن يتأكدوا من أن "الخوارزميات الخاصة بهم لا بد أن تعطي الأولوية لموازنة الآراء والأخبار ذات الأهمية، وليس فقط المواد الأكثر شعبية أو ذاتية التحقق بدرجة أكبر(self-validating). لكن خلال أقل من خمس سنوات، بفضل القوة التي لا تصدق لبعض المنصات الاجتماعية، تزايدت حدة [ظاهرة] "الفقاعة الحاجبة" التي وصفها باريزر.

بعد يوم واحد من التصويت، أمدنا الناشط الإنترنتي البريطاني، ومؤسس موقع ’mySociety ‘ توم ستاينبرج (Tom Steinberg,) في تحديث على الفيسبوك، بتمثيل حي على قوة الفقاعة الحاجبة -والتبعات المدنية الخطيرة لعالم تتدفق فيه المعلومات بكثافة خلال الشبكات الاجتماعية:

"أنا أبحث بشكل نشط في الفيسبوك عن أناس يحتفلون بانتصار حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي، لكن الفقاعة الحاجبة قوية للغاية، وممتدة بدرجة كبيرة لتصل إلى أمور مثل البحث المخصص في الفيسبوك (Facebook’s custom search) لدرجة أنني لا أستطيع أن أجد أي شخص سعيد بالرغم من حقيقة أن أكثر من نصف البلد هم بشكلٍ واضح مبتهجين اليوم، وبالرغم من حقيقة أنني أبحث بشكل نشط لكي أسمع ما يقولونه.   
مشكلة غرفة الصدى هذه هي الآن حادة للغاية ومزمنة للغاية لدرجة أنني أستطيع فقط أن أستجدي أي صديقٍ لديَّ يعمل في الفيسبوك أو أي شركة تواصل اجتماعي أو تكنولوجيا كبرى أن يخبر رؤساءه بشكلٍ عاجل أن عدم العمل على هذه المشكلة الآن يعادل أن تساند وتمول بشكلٍ فعال عملية تمزيق نسيج مجتمعاتنا ... لقد صرنا إلى بلدان لا يعرف نصف سكانها أي شيء عن النصف الآخر"

لكن أن تطلب من شركات التكنولوجيا أن "يفعلوا شيئًا" لحل مشكلة الفقاعة الحاجبة يفترض أن هذه مشكلة يمكن إصلاحها بسهولة -بدلا من رؤية أنها مدمجة في صميم فكرة الشبكات الاجتماعية المصممة لكي تمنحك ما ترغب أنت وأصدقاؤك في رؤيته.

***

موقع فيسبوك الذي انطلق فقط في عام 2004، يملك الآن 1.6 مليار مستفيد على مستوى العالم. لقد صار الوسيلة المهيمنة التي يجد بها الناس الأخبار على الإنترنت -وهو مسيطر في الحقيقة بأشكال كان من المستحيل أن نتخيلها في حقبة الصحف [المطبوعة]. كما كتبت إميلي بيل (Emily Bell): "لم تبتلع وسائل التواصل الاجتماعي فقط الصحافة، لقد ابتلعت كل شيء. ابتلعت الحملات السياسية، النظم البنكية، التواريخ الشخصية، صناعة الترفيه، البيع بالقطعة، وحتى الحكومة، والأمن."

بيل مديرة مركز تو للصحافة الافتراضية في جامعة كولومبيا –وعضو مجلس إدارة مؤسسة (Scott Trust)، التي تملك جريدة الجارديان- بينت الأثر الزلزالي لوسائل التواصل الاجتماعي على الصحافة. كتبت في شهر مارس:" تغيرت منظومتنا الإخبارية بشكل أكثر حدة في الخمس سنوات الأخيرة، ...ربما بشكل أكبر من أي وقت خلال الخمسمائة عام الماضية." مستقبل النشر يتم وضعه في " أيدي القلة، الذين يتحكمون الآن في مستقبل الكثرة". فقد ناشرو الأخبار السيطرة على توزيع صحافتهم، والتي تتم تنقيتها (فلترتها) لكثرة من القراء من خلال خوارزميات ومنصات غامضة ولا يمكن التنبؤ بها". يعني هذا أن شركات التواصل الاجتماعي أصبحت قوة ساحقة في تحديد ما نقرأ –ومربحة بشكل كبير عن طريق تحويل شغل الآخرين إلى نقود. وكما تلاحظ بيل: "هناك تركز كبير للنفوذ في هذا الصدد أكثر مما كان عليه الحال في أي وقت مضى" 

المنشورات التي تم تنسيقها بواسطة المحررين تم استبدالها في حالات متعددة بتيار من المعلومات تم اختياره بواسطة أصدقاء، ومعارف وعائلة، وتمت معالجته بواسطة خوارزميات سرية. الفكرة القديمة لشبكة مفتوحة متسعة -حيث خلقت الوصلات التشعبية بين الموقع والآخر شبكة معلومات غير هرمية ودون مركز- حلت محلها بشكلٍ كبير منصات مصممة لتعظيم الوقت الذي تقضيه داخل جدرانها، بعضها (مثل انستجرام، وسناب شات) لا تسمح بالوصلات الخارجية على الإطلاق.

يُمضي الآن عدد كبير من الأفراد، في الحقيقة، خصوصًا المراهقين، قدرًا أكبر وأكبر من وقتهم على تطبيقات محادثة مغلقة، والتي تسمح للمستفيدين بإنشاء مجموعات لنشر الرسائل في نطاق خاص -ربما لأن الشباب، وهم التي تزيد احتمالات أن يكونوا قد تعرضوا للمضايقات على الإنترنت، يلتمسون بشكلٍ أكثر حرصًا المساحات الاجتماعية المحمية. لكن المساحة المغلقة لبرامج الدردشة هي حتى صومعة أكثر تقييدًا من الحدائق ذات الأسوار للفيسبوك والشبكات الاجتماعية الأخرى.

وكما كتب المدون الإيراني البارز حسین درخشان، والذي تم سجنه في طهران لمدة ستة أعوام لنشاطة على الإنترنت - للجارديان في وقتٍ سابقٍ من هذا العام- " التنوع الذي ارتأته الشبكة العنكبوتية العالمية أصلًا" حل محله "تركيز للمعلومات" داخل بضع شبكات منتقاة - والنتيجة النهائية هي "أن جعلتنا أقل قوة مقارنة بالحكومة والشركات".

بالطبع، فيسبوك لا يقرر ما ستقرؤه -على الأقل ليس بالشكل التقليدي لصنع القرارات- ولا يملي على المؤسسات الإخبارية ما تنتجه. لكن حين تغدو إحدى المنصات هي المصدر المهيمن للوصول للمعلومات، ستُفَصِّل المؤسسات الإخبارية في الغالب منتجها ليناسب متطلبات هذا الوسيط الجديد. (الدليل الأكثر وضوحًا على أثر الفيسبوك على الصحافة هو الفزع الذي يصحب أي تغير في الخورازمية التي تتحكم في تحديثات آخر الأخبار يهدد بتقليل عدد المشاهدات (page views) المرسلة للناشرين.)

في السنوات القليلة الماضية، انجرفت عدة مؤسسات إخبارية بعيدًا عن الصحافة المهتمة بالشأن العام نحو أخبار ذات قيمة غذائية ضعيفة (junk-food news)، تطاردُ عدد المشاهدات في سعيٍ عبثيٍ لاجتذاب النقرات والإعلانات (أو الاستثمار) – لكن مثل الوجبات السريعة، تكره نفسك حين تكون قد أتخمت بها. التجسد الأكثر حدة لهذه الظاهرة كان خلق مزارع للأخبار الوهمية، والتي تجتذب الزيارات (traffic) عن طريق تقارير زائفة مصممة كي تبدو مثل الأخبار الحقيقية، ومن ثم تتم مشاركتها بكثافة في شبكات التواصل الاجتماعي. لكن نفس المبدأ ينطبق على الأخبار المضللة، أو الخادعةُ إضفاءً للإثارة، حتى لو لم تكن قد أنشئت كي تخدع: مقياس قيمة الاخبار بالنسبة لكثرة كاسحة من مؤسسات الأخبار هو سرعة الانتشار بدلًا من الحقيقة أو الجودة.

فريدي ستار أكل الهامستر
بالطبع ارتكبت الصحافة سقطات في الماضي -سواء بطريق الخطأ أو نتيجة للتحيز أو عمدًا أحيانًا. (في الغالب لم يأكل فريدي ستار هامستر). لذا سيكون من الخطأ أن نظن أن هذه ظاهرة جديدة خاصة بالعصر الرقمي. لكن الجديد والدال واليوم، هو أن الشائعات والأكاذيب تتم قراءتها بنفس درجة الاتساع التي تتم بها قراءة الحقائق الراسخة –وعادة بدرجة أكثر اتساعًا، لأنها أكثر جموحًا من الواقع ونشرها مثير بدرجة أكبر. الاستخفاف المرتبط بهذا النهج تم التعبير عنه بشكلٍ سافر بواسطة نيتزان زيميرمان (Neetzan Zimmerman)، الذي سبق أن عُيِّنَ بواسطة موقع Gawker كمتخصص في القصص سريعة الانتشار التي تجتذب زيارات كثيفة. ذكر في عام 2014 "الأمر الوحيد الذي يهم حقًا هو إن كان الناس سينقرونه." الحقائق –كما يدَّعي- قد ولى زمنها؛ هي أثرٌ قديم من عصر الصحافة المطبوعة، حين لم يكن للقارئ أي اختيار. يواصل كلامه: "حين لا ينشر أحدٌ قصة خبرية، فهي في جوهرها، ليست خبرًا" 

زيادة انتشار هذا التوجه توحي أننا وسط تغير جذري في قيم الصحافة -تحول استهلاكي. بدلًا من تقوية الروابط الاجتماعية، أو خلق جمهور مستنير، أو فكرة الأخبار كمنفعة مدنية، أو كضرورة ديموقراطية، تخلق شراذم تنشر الأكاذيب العاجلة التي تناسب آرائها، يعزز أفرادها معتقدات بعضهم البعض، يجذبُ أحدهم الآخر أكثرَ داخل الآراء المشتركة، عوضًا عن الحقائق الثابتة.

لكن المشكلة هي أن نموذج العمل (business model) لمعظم المؤسسات الإخبارية يتمحور حول النقرات. وسائل الإعلام الإخبارية حول العالم أصابتها فورة مسعورة من الإفراط في النشر، من أجل الحصول على بنسات وسنتات الإعلانات. (ولا يوجد الكثير من الإعلانات التي يمكن الحصول عليها: في الربع الأول من 2016، 85 سنت من كل دولار تم صرفها على الإعلان على الإنترنت داخل الولايات المتحدة ذهبت لجوجول وفيسبوك. هذه الأموال كانت سابقًا تذهب إلى ناشري الأخبار.)

في تحديثات آخر الأخبار التي تظهر على هاتفك، كل القصص تبدو متشابهة -سواء أتت من مصادر موثوقة أو لا. وبشكل متزايد، تنشر مصادرُ تُعَدُّ موثوقة في أحوالٍ أخرى أخبارًا كاذبةً، مضللةً، أو شائنةً بشكل متعمد. في حوار معه منشور في جريدة الجارديان في أبريل يقول بروك بنكوفسكي (Brooke Binkowski)، محرر في موقع كشف الأكاذيب "Snopes"،: "صيادُ النقراتِ هو الملك (Clickbait is king)، لذا ستقوم صالات التحرير(newsrooms) بنشر بعض أسوأ الأشياء دون أن تنقدها، وهو ما يضفي الشرعية على الهراء، لا تفعل كل صالات التحرير مثل هذا، لكن الكثير منها يفعله"

يجب أن نكون حذرين في ألا نصرف النظر عن أي شيء على الإنترنت بعنوان جذاب باعتباره صياد نقرات – العناوين الجذابة هي أمرٌ محمود، لو أنها تؤدي بالقارئ إلى محتوى صحفي جيد، سواء كان مهمًا أو غير مهم. رأيي أن ما يفصل الصحافة الجادة عن الصحافة ضعيفة المستوى هو الجهد: الصحافة التي يقدرها الناس بشكلٍ أكبر هي تلك التي يستطيعون أن يدركوا أن أحدهم قد قام فيها بشغلٍ مضنٍ- حيث يستطيعون أن يحسوا بالمجهود الذي تم قضاؤه فيها لصالحهم، في مهمة صغيرةٍ كانت أو كبيرة، ذات أهمية أو ترفيهية. وهو عكس ما يطلق عليه "churnalism"[iv]، إعادة تدوير بلا نهاية لقصص كتبها الآخرون من أجل الحصول على النقرات.

نموذج [العمل] الرقمي المعتمد على الإعلانات لا يفرق حاليًا بين الحقيقي وغير الحقيقي، فقط كبير أو صغير. وكما كتب المراسل السياسي الأمريكي ديف ويجل (Dave Weigel) عن بزوغ القصة الخادعة التي صارت واسعة الانتشار للغاية في 2013: "’أفضل من أن نتحقق من صحته‘ كانت في الماضي تحذيرًا يتم توجيهه إلى المحررين الصحفيين كي لا يتسرعوا بالحديث عن قصص تافهة. الآن هي نموذج للعمل."

***

صناعة نشر الأخبار التي تطارد بشكلٍ يائس كل نقرة حقيرة لا تبدو كصناعة في موضع قوة، وبالفعل نشر الأخبار كصناعة يعاني مشكلةً كبيرة. التحول للنشر الرقمي كان تطورًا مثيرًا للصحافة -كما قلت في محاضرة أ.ن. سميث في جامعة ملبورن، فإن "بزوغ القارئ" قد أنتج "إعادة ترسيم جوهرية لعلاقة الصحفيين بالجمهور، وكيف نفكر في قرائنا، وتمثلنا لدورنا في المجتمع، ووضعنا". وكان معنى هذا أننا وجدنا طرقًا جديدة للحصول على قصص -من الجمهور، من البيانات، من وسائل التواصل الاجتماعي. لقد أعطانا طرقًا جديدة لقول القصة -بواسطة التقنيات التفاعلية والآن بواسطة الواقع التخيلي. لقد منحنا طرقًا جديدة لنشر صحافتنا، ولإيجاد قراء جدد في أماكن مفاجئة؛ وقد منحنا طرقًا جديدة للاشتباك مع جمهورنا، معرضين أنفسنا للتحدي، والجدل.

لكن بينما تمت تقوية الإمكانات المتاحة للصحافة بواسطة التطورات الرقمية في السنوات القليلة الماضية، فإن نموذج العمل هو تحت تهديدٍ خطير، لأنه مهما كان عدد النقرات التي تحصل عليها، فهي لن تكون كافية أبدًا. ولو أنك طلبت مقابلا ماديًا من القراء للوصول إلى صحافتك سيكون لديك تحديًا كبيرًا في إقناع المستهلك الإلكتروني الذي اعتاد على الحصول على المعلومات مجانًا أن يشارك بنقوده.

يرى ناشرو الأخبار في كل مكان أرباحهم وعوائدهم وهي تهبط بشكلٍ كبير. لو أنك تريد مثالًا صارخًا للحقائق الجديدة لوسائل الإعلام الرقمية، تأمل نتائج الفصل المالي الأول الذي تم إعلانه بواسطة النيويورك تايمز والفيسبوك والذان تم إعلانهما بفارق أسبوعٍ من أحدهما الآخر سابقًا هذا العام. أعلنت النيويورك تايمز انخفاض أرباح التشغيل بنسبة 13% لتصل إلى 51.5 مليون دولار -وهو أفضل من أداء معظم بقية صناعة النشر، لكنه يظل انخفاضًا كبيرًا. الفيسبوك، في هذه الأثناء، أعلنت أن صافي دخلها عن نفس الفترة تضاعف ثلاث مرات -لتصل إلى مبلغ مذهل للغاية هو 1.5 بليون دولار.

فقد كثرة من الصحفيين وظائفهم في العقد الماضي. عدد الصحفيين في المملكة المتحدة تقلص بنسبة تصل إلى الثلث ما بين عامي 2001 و2010؛ انخفضت غرف الأخبار الأمريكية بمقدار مشابه فيما بين عامي 2006 و 2013. في أستراليا، حدث تخفيض بنسبة 20% في قوة العمل الصحفية ما بين عامي 2012 و 2014 فقط. في وقت سابق من هذا العام في الجارديان أعلننا أننا سنحتاج لأن نتخلى عن مائة وظيفة صحفية. في مارس، توقفت الإندبندنت عن الوجود كجريدة ورقية. منذ 2005، وفقًا لبحثٍ أجرته بريس جازيت (Press Gazette) انخفض عدد الصحف المحلية في المملكة المتحدة بمقدار 181 جريدة -مرة أخرى، ليس بسبب مشكلة في الصحافة، لكن بسبب مشكلة في تمويلها.

لكن فقد الصحفيون لوظائفهم ليس ببساطة مشكلة الصحافيين: فلهذه المسألة أثرٌ ضارٌ على الثقافة بكاملها. وكما حذر الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس (Jürgen Habermas)، في عام 2007: " حين تُعَرِّض إعادة التنظيم وتخفيض التكاليف في هذا المجال الأساسي للخطر المعاييرَ الصحفية المعتادة، فإن هذا يضرب صميم قلب المجال السياسي العام. لأنه دون تدفق المعلومات المكتسب من خلال البحث المكثف، ودون التحفز الذي تخلقه الجدالات المعتمدة على خبرة لا تأتي بثمن بخس، يفقد التواصل العام حيويته الخطابية. وسوف تتوقف وسائل الإعلام العام عن مقاومة النزعات الشعبوية، ولن تتمكن من القيام بالوظيفة التي يجب أن تقوم بها في دولة دستورية ديموقراطية."

إذن ربما تكون هناك حاجة لأن تحول صناعة الأخبار تركيزها إلى الإبداع التجاري: كيف تنقذ تمويل الصحافة، وهو ما يخضع للتهديد. شهدت الصحافة إبداعًا دراماتيكيًا في العقدين الرقميين الماضين، لكن نموذج العمل لم يشهد نفس القدر من الإبداع. وبكلمات زميلتي ماري هاميلتون (Mary Hamilton)، محررة الجارديان التنفيذية لشؤون الجمهور: "لقد حولنا كل شيء يخص الجانب الصحفي من عملنا، لكننا لم نغير بما فيه الكفاية في الجانب التجاري."

***

الأثر الواقع على الصحافة التي تعاني أزمة في نموذج العمل الخاص بها، هو أنها بمطاردتها النقرات التافهة على حساب الدقة والصدق، تقوض هذه المؤسسات الصحفية المبرر الأساسي لوجودها: اكتشاف الأشياء، وإخبار القراء الحقيقة -تقارير، تقارير، تقارير.

تعاني كثرة من غرف الأخبار من خطر فقدان ما يهم بشكلٍ أكبر في مجال الصحافة: العمل الشاق -القيِّم، المدني، الممتلئ بالدوران في الشوارع، وغربلة قواعد البيانات، وسؤال الأسئلة الصعبة- الذي يكشف الأشياء التي لا يريدك أحدهم أن تعرفها. الصحافة الجادة التي تهتم بالشأن العام ذات متطلبات، وهناك احتياج لها أكثر من أي وقت مضى. فهي تساعد على جعل صاحب السلطة نزيهًا؛ تساعد الناس على فهم العالم ومكانهم فيه. الحقائق والمعلومات التي يمكن الاعتماد عليها جوهرية من أجل ديموقراطية فاعلة -وقد أوضح العصر الرقمي هذا حتى بشكلٍ أكبر.

لكن يجب ألا نسمح لفوضى الحاضر أن تلقي على الماضي ضوءًا ورديًا -كما يمكننا أن ندرك من خلال [تأمل] ما جرى مؤخرًا من حلٍّ لتراجيديا صارت واحدة من أحلك اللحظات في تاريخ الصحافة البريطانية. في نهاية شهر أبريل، انتهى تحقيق استمر لمدة عامين إلى أن الستة وتسعين شخصًا الذين ماتوا في كارثة هيلزبراه (Hillsborough) في عام 1989 قُتلوا دون وجه حق دون أن يسهموا في الموقف الخطير على أرض الملعب. كان الحكم هو ذروة حملة استمرت دون كللٍ لمدة سبع وعشرين سنة بواسطة أهالي الضحايا، وقد كتب ديفيد كون (David Conn) على مدار عقدين تقارير عن قضيتهم ذات تفصيلٍ كبير وحساسية. وقد ساعد عمله الصحفي على كشف الحقيقة الفعلية لما حدث في هيلزبره، وما تلاه من تعمية بواسطة جهاز الشرطة- مثال كلاسيكي للمراسل الذي يجعل القوي عرضه للمحاسبة نيابة عن الأقل قوة.

ما جعل الأهالي ينظمون الحملات لمدة ثلاث عقود تقريبًا كان رفضهم للكذب الذي بدأته جريدة الصن (the Sun). محرر التابلويد اليميني العدائي، كالفين ماكينزي (Kelvin MacKenzie)، لام المشجعين على الكارثة، ملمحًا إلى أنهم اقتحموا أرض الملعب دون تذاكر-وهو ادعاء ثبت لاحقًا كذبه. وفقًا للتأريخ الذي كتبه هوري و تشيبنديل عن الصن، قام ماكينزي بنقض ما قاله مراسله وكتب على الصفحة الأول كلمة "الحقيقة"، زاعمًا أن جماهير ليفربول كانوا سكارى، وأنهم نشلوا بعض الضحايا، وأنهم لكموا، ورفسوا وبالوا على رجال الشرطة، وأنهم صرخوا أنهم يريدون ممارسة الجنس مع فتاة ميتة. كانت الجماهير وفقًا لما قاله ضابط ذو رتبة عالية "يتصرفون مثل الحيوانات". القصة، كما كتب تشيبنديل وهوري، هي عملية "تشوية تقليدي للسمعة"، دون أي دليل يساندها و"تناسب تحديدًا أسلوب ماكينزي الذي يتمثل في نشر التحيزات الجاهلة غير الناضجة التي يتم ترديدها على طول البلاد".

من الصعب تخيل أن تحدث مثل حادثة هيلزبره الآن: لو تم سحق 96 شخصًا حتى الموت أمام 53 ألف تليفون محمول، مع وجود صور وروايات لشهود عيان منشورة على وسائل التواصل الاجتماعي، هل كان الأمر سيأخذ كل هذا الوقت حتى ينكشف؟ الآن، لم يكن رجال الشرطة -أو ماكينزي- ليتمكنوا من على الكذب بهذا الشكل السافر طوال هذه المدة.

***

الحقيقة نضال. تتطلب عملًا شاقًا. لكن الأمر يستحق هذ النضال: قيم الصحافة التقليدية جليلة ومهمة وتستحق الدفاع عنها. الثورة الرقمية عنت أن الصحفيين -بشكلٍ مستحق كما أرى- صاروا أكثر عرضه للمحاسبة من قبل جمهورهم. وكما تكشف قصة هيلزبره، وسائل الإعلام القديمة هي بالتأكيد قادرة على ارتكاب أكاذيب مروعة، قد يتطلب كشفها سنوات. بعض البنى الهرمية القديمة تم هدمها بشكلٍ قاطع، وهو ما أدى إلى جدل أكثر انفتاحًا، وتحدٍ أكثر جوهرية للنخب القديمة التي سيطرت اهتماماتها غالبًا على وسائل الإعلام. لكن عصر المعلومات الفورية التي لا تتوقف -والحقائق غير المؤكدة- قد يكون طاغيًا. ننتقل من غضبٍ إلى آخر، لكننا ننسى كل واحدٍ منها بسرعة: إنه يوم قيامة بعد ظهرِ كلِ يومٍ. 

في نفس الوقت، فقد أدت تسوية أرض المشهد المعلوماتي إلى إطلاق سيول من العنصرية والتمييز على أساس الجنس وظهور وسائل جديدة للفضح والتحرش، منبئة بعالم تسود فيه أكثر الحجج فجاجة وأعلاها صوتًا. هو جوٌ ثبت أنه عدائي بشكل خاص تجاه النساء، والأشخاص الملونين، كاشفًا عن أن عدم المساواة في العالم المادي يتم إعادة إنتاجها بسهولة شديدة في فضاءات الإنترنت. صحيفة الجارديان ليست محصنة ضد هذا -لهذا كانت واحدة من أوائل مبادراتي كرئيسة تحرير هي إطلاق مشروع "الشبكة كما نريدها"، وذلك من أجل مقاومة ثقافة عامة تسمح باساءة استعمال الإنترنت، والتساؤل حول الكيفية التي نتمكن بها كمؤسسة من تبني حوارات أفضل وأكثر مدنية على الشبكة.

أكثر من أي شيء، التحدي الذي يواجه الصحافة اليوم ليس ببساطة هو الإبداع التكنولوجي أو خلق نموذج عمل جديد؛ لكنه يتمثل في أن نقرر الدور الذي ما زالت مؤسسات الصحافة تلعبه في ظل خطاب عام صار متشظيًا وغير مستقرٍ بشكلٍ جذري. التطورات السياسية المذهلة في السنة الأخيرة -ومن ضمنها تصويت الخروج من الاتحاد الأوروبي وصعود دونالد ترامب كمرشح جمهوري لرئاسة الولايات المتحدة- ليست مجرد منتجات ثانوية لشعبوية يعاد بعثها أو تمرد من أولئك الذين تم إهمالهم من قبل الرأسمالية العالمية.

وكما جادلت الباحثة الأكاديمية زينب توفيقجي في مقال نُشرَ سابقًا هذا العام، فإن صعود ترامب "هو في الحقيقة عَرَضٌ للضعف المتزايد لوسائل الإعلام الجماهيرية، خصوصًا في التحكم في حدود ما هو مقبول أن يُقال". (يمكن أن نقول نفس الشيء عن تصويت الخروج من الاتحاد الأوروبي.) كتبت توفيقجي: "لعقود، قام الصحفيون في المؤسسات إعلامية كبرى بدور حراس البوابة الذين كانوا يقيِّمون ما طبيعة الأفكار التي يمكن مناقشتها علنًا، وما يُعتبر متطرفًا (radical) أكثر من اللازم،" إضعاف حراس البوابة هو أمرٌ إيجابيٌ وسلبيٌ في نفس الوقت؛ هناك فرص وهناك مخاطر.

كما يمكن أن نرى، فإن حراس البوابة القدامى كانوا قادرين على إحداث ضررٍ وكانوا عادةً مستبدين في رفضهم اعطاء مساحة للنقاشات التي اعتبروا أنها تخرج عن الإجماع السياسي الرئيس. لكن دون شكل ما من الإجماع، من الصعب على أي حقيقة أن تسيطر. ضعف حراس البوابات منح ترامب فرصة إثارة مواضيع كانت فيما مضى من المحرمات، مثل: تكلفة نظام تجارة حرة عالمي يفيد الشركات أكثر من إفادته العمال، القضية التي صرفت النخب الأمريكية ومعظم وسائل الإعلام النظر عنها – هذا بالإضافة لما هو واضح من السماح لأكاذيبه المخزية بالازدهار.

حين يكون المناخ السائد معادي للنخبة ومعادي للسلطة، فإن الثقة في المؤسسات الكبرى، ومن ضمنها مؤسسات الإعلام، سوف يبدأ في التداعي.

أعتقد أن ثقافة صحفية قوية هي أمرٌ يستحق النضال من أجله. وكذلك [وجود] نموذج تجاري للعمل (business model) يخدم ويكافئ المؤسسات الإعلامية التي تضع البحث عن الحقيقة في قلب كل شيء -يبني جمهورًا فاعلًا ومستنيرًا يراقب القوي، لا شراذم رجعية جاهلة تهاجم ما هو عرضة للهجوم. القيم الإخبارية التقليدية يجب أن يتم احتضانها والاحتفاء بها: كتابة التقارير، التحقق من صحتها، جمع روايات شهود العيان، عمل محاولة جادة لاكتشاف ما حدث بالفعل.

نحن محظوطون لأننا نعيش في حقبة يمكننا فيها استخدام عدد من التقنيات الحديثة -والاستفادة من مساعدة جمهورنا- لفعل هذا. لكن يجب أيضًا أن نتعامل مع قضايا أساسية تقوِّضُ الثقافة الرقمية، وأن ندرك أن التحول من وسائل الإعلام المطبوعة إلى نظيرتها الرقمية لم يكن قط مقتصرًا على الجوانب التقنية. لا بد أيضًا من توجيه اهتمامنا إلى القوى المحركة الجديدة التي خلقها هذا التغيير. التكنولوجيا ووسائل الإعلام لا توجد منعزلة -فهم يساعدون في تشكيل المجتمع، تمامًا كما يتم تشكيلهم في المقابل. وهذا يعني الاشتباك مع الناس باعتبارهم أطرافًا مدنية فاعلة، ومواطنين، وأندادًا. الأمر يتعلق بوضع القوة موضع المساءلة، والنضال من أجل حماية الفضاء العام، وتحمل مسؤولية خلق العالم الذي نرغب أن نعيش فيه.



[i] العبارة الإنجليزية بها تلاعب بالكلمات لا يمكن ترجمته فمن معاني كلمة "hog" خنزير، وإن كان المعنى هنا هو يستأثر لكن التلميح للمعنى الآخر واضح، كذلك الأمر في كلمة headlines التي قد تحمل تعريضًا لبعض تفاصيل القصة وأحداثها (هذا الهامش والهوامش التالية الأخرى للمترجم، لا هوامش في المقال الإنجليزي) .
[ii] ملصق دعائي تحريضي معادي للمهاجرين يقول: نقطة الانهيار: لقد خذلنا جميعًا الاتحاد الأوروبي"، مصحوبة بصورة لجحافل من اللاجئين. يضيف نفس الملصق في سطر منفصل: "لا بد أن نتحرر من الاتحاد الأوروبي كي نتمكن من التحكم في حدودنا."
[iii] صحيفة ذات قطع ورق صغير، تركز على موضوعات النميمة والفضيحة في الغالب.
[iv] مصطلح صكه نيك ديفيس (Nick Davies)، يدمج بين كلمة churn وكلمة journalism.

[[ملحوظة أخيرة: اكتشفت بالصدفة أثناء البحث على الإنترنت قبل نشري المقال الذي ترجمته هنا وجود ما يشبه ترجمة مجتزأة سابقة، أقول ما يشبه، لأن الجريدة التي نشرتها لم تشر إلى كونها ترجمة، ولم تترجم سوى أجزاء بسيطة من المقال، وليست الأجزاء التي ترجمتها جريدة العرب هي أهم ما في المقال من وجهة نظري. النص الوارد في جريدة العرب به اختصارات وتعديلات وأخطاء قد تكون ناتجة عن التسرع (لفت نظري مثلًا ما ورد هناك عن " بنك “آرون بانكس" بينما آرون بانكس هو رجل أعمال بريطاني، الفقرة تم اختصارها وحذف جملٍ منها ربما نتيجة لما سببه هذا الخلط من صعوبة في متابعة السياق الأصلي) . وطبعًا تم تغيير العنوان الأصلي غالبًا كي لا يتم اكتشاف الأصل الأجنبي. (أحيلكم للمقال المنشور في جريدة العرب لتقرروا بأنفسكم، المقال هنا)]]

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

ما هو الفن الطليعي؟ (Avant Garde)

ألبرت أينشتاين وميليفا ماريتش: قصة حب (اقتباس)

قصائد من الشعر الأفريقي المعاصر