دراسات الخطاب النقدية: السلطة والسيطرة على الخطاب العام (مقتطف)





بقلم: توين فان دايك
ترجمة: غيداء العلي

وتبين هذه المعايير -بصورة واضحة- أن الباحثين في مجال دراسات الخطاب النقدية لا يقفون موقف "المحايد"، بل يلتزمون بالانخراط دفاعًا عن مصالح الفئات المهيمن عليها (كالأقليات) في المجتمع، ويلتزمون بهذا الموقف بكل صراحة ووضوح، وفي حين يتبنى البحث الاجتماعي "الحيادية" موقفًا اجتماعيًا أو سياسيًا أو أيديولوجيا ضمنيًا (أو في الواقع ينفي اتخاذ مثل هذا الموقف، وهذا -بحد ذاته- اتخاذ موقف)، يعترف الباحثون في مجال دراسات الخطاب النقدية بالتزاماتهم الخاصة في مجال البحث ومكانتهم في المجتمع ويدركونها ويتأملون فيها، فهم لا يعون فحسب الأهمية العلمية لاختياراتهم لأولويات الأبحاث والنظريات والمناهج أو البيانات وموضوعاتها فحسب، بل يدركون الدور السياسي الاجتماعي لها أيضا، ولا يقومون بدراسة مجردة للمشكلات الاجتماعية؛ لأنها موضوعات مثيرة للاهتمام فحسب، بل لأن هدفهم صريح وواضح وهو الإسهام في إحداث تغيير اجتماعي محدد لصالح المجموعات المهيمن عليها، وهم يقدمون نقدا ذاتيا لمعرفة ما إذا كانت نتائج بحوثهم قد تفيد الموقف المهيمن للجماعات القوية في المجتمع، وفضلا عن اتخاذ وجهة نظر الجماعات المهيمن عليها، فإن دارسي الخطاب الناقدين قد يؤثرون في نشطاء "التغيير" أو "المنشقين" عن المجموعات المهيمنة، ويتعاونون معهم.

ولابد من الإشارة إلى الجدل الكبير حول إمكانية عد البحث العلمي الملتزم سياسيا واجتماعيا بحثًا علميا في المقام الاول، وعادة ما توجه اتهامات "التحيز" ضد البحث النقدي، وهذه الاتهامات ذاتها تحتاج إلى تحليل نقدي؛ لأن عدم الالتزام سياسيا هو خيار سياسي أيضا، ومع ذلك نتقبل -بوصفنا باحثين نقديين- أنواع النقد الجدي ونأخذ به، ومن المهم تأكيد أن دقة البحث العلمي لا يجوز أن تقل أبدا، بسبب تبني المنظور النقدي الملتزم اجتماعيا؛ إذ ليس هناك شيء مما ذكرناه عن البحث النقدي في العلوم الاجتماعية يؤخذ على أنه يقلل من علمية نظريات الخطابات النقدية ومناهجها.
[...]

الخطاب وإعادة إنتاج السلطة الاجتماعية

من هذا المنظور الواسع لأهداف دراسات الخطاب النقدية وأسسها، سأقوم بدراسة العلاقات المعقدة بين الخطاب والسلطة.

فعلى الرغم من وجود مفاهيم كثيرة للسلطة في الفلسفة، والعلوم الاجتماعية، سوف أعرف السلطة أو القوى الاجتماعية في هذا الكتاب وفقًا لمفهوم السيطرة، وهذا يعني سيطرة مجموعة واحدة على مجموعات أخرى وعلى الأفراد التي تتكون منها هذه المجموعات، ويعرَّف مفهوم "السيطرة" تقليديًّا، بوصفه التحكم بأفعال الآخرين وتصرفاتهم، إذا كان هذا التحكم يصب في مصلحة أولئك الذين يمارسون هذه السلطة، وضد مصلحة الذين تتحكم بهم، عندئذِ يمكننا الكلام عن سوء توظيف السلطة، وإذا كانت هذه الأفعال أفعالا تواصلية -أي خطابًا- فإننا نتعامل مع السيطرة على خطاب الآخرين، وهي إحدى الوسائل الموضحة لعلاقة السلطة بالخطاب: فالناس يفتقدون حرية التعبير وحرية الكلام أوالكتابة؛ ليس للمرء حرية اختيار الوقت والمكان والجمهور "أين، ومتى، ومع من، وعن ماذا يكتب أو يتكلم .. وغير ذلك"، فهم مسلوبو الحرية جزئيًا أو كليًا بسبب سلطة الآخرين وسطوتهم كالدولة، والشرطة، ووسائل الإعلام، أو الشركات التجارية التي ترغب في قمع حرية الكتابة والحديث (الانتقادي عادة)، أو بخلاف ذلك، كأن يلزم المرء أن يقول أو يكتب ما يؤمر به فقط.

ويمكن أن تكون مثل هذه السيطرة متفشية في المجتمع؛ إذ إن قليلًا من الناس يملك الحرية الكاملة ليقول ما يريد ويكتب ما يريد، حيثما يريد، وأنى يريد، ولمن يريد، فهناك معوقات اجتماعية قد تكون قانونية (مثل قوانين تجريم التشهير أو القذف أو الدعاية العنصرية) وأحيانًا تكون من أعراف اللياقة، ولدى معظم الناس وظائف تتطلب منهم أساليب خاصة للحديث أو كتابة النص، وفي هذا الصدد يظهر أن سيطرة الخطاب هي القاعدة وليست الاستثناء، وللتحقيق في سوء استغلال مثل هذا الخطاب المسيطر نحتاج إلى وضع شروط محددة، مثل انتهاكات حقوق الإنسان أو الحقوق الاجتماعية، وهو ما سنناقشه لاحقًا.

لا تنطبق السيطرة على الخطاب بوصفها ممارسة اجتماعية فحسب، بل تنطبق أيضًا على عقول الذين يُتحكم بهم، أي التحكم بمعرفتهم وآرائهم واتجاهاتهم وأيديولوجيتهم، وكذلك تمثيلاتهم الشخصية أو الاجتماعية، وبصورة عامة قد تكون السيطرة على العقل غير مباشرة ومقصودة، ولكن قد تكون نتيجة ممكنة ومحتملة لعواقب الخطاب، وهكذا ربما يسيطر الذين يتحكمون بالخطاب - بصورة غير مباشرة- على عقول الناس؛ لأن أفعال الناس مرهونة بعقولهم (المعرفة والمواقف والأيديولوجيات والأعراف والقيم)، فالسيطرة على العقل تعني - أيضًا السيطرة غير المباشرة على الأفعال، وقد تكون مثل هذه الأفعال خطابية، لذلك قد يؤثر الخطاب القوي -بصورة غير مباشرة- في الخطابات الأخرى التي تصب في منفعة من هم في السلطة وتخدم مصلحتهم.

السيطرة السياقية: المنفذ access

إذا كان الخطاب يتحكم في العقول، والعقول تتحكم في الفعل، فمن المهم للسلطة السيطرة على الخطاب في المقام الأول، لكن كيف تفعل ذلك؟

إذا كانت الأحداث التواصلية لا تتكون من "النص اللفظي" والحديث فحسب وإنما أيضًا تتضمن السياق الذي يؤثر في الخطاب، لذلك فإن الخطوة الأولى من التحكم بالخطاب تكمن في السيطرة على سياقاته، فعلى سبيل المثال، قد تقرر النخب المتنفذة أو المنظمات القوية من الذي يمكن أن يشارك في بعض الأحداث التواصلية، ومتى، وأين، وبأية أهداف؟

وهذا يعني أننا نحتاج إلى دراسة مفصلة لسبل الولوج إلى الخطاب، التي ينظمها من هم في السلطة، كما هو الحال في أحد الأنماط المؤثرة في الخطاب العام، ألا وهي وسائل الإعلام: من له منفذ إلى (إنتاج) الأخبار أو البرامج، ومن يسيطر على مثل هذا المنفذ؟ ومن يستطيع أن ينظم المؤتمرات الصحفية المفتوحة للصحفيين؟ وأي الصحف لها حق النشر؟ ثم من الذي تعقد معه المقابلات، ويستشهد بقوله؟ وأي الأفعال والأحداث تعرف بأنها أخبار؟ وأي الافتتاحيات ومقالات الرأي أو الرسائل تنشر من بين تلك التي تصل إلى المحرر؟ ومن يحق له الاشتراك في برنامج تلفازي؟ وبعبارة أكثر تعميمًا: من الذي يُقبل تعريفه للموقف السياسي والاجتماعي ويؤخذ على محمل الجد؟

في هذه الحالات كلها نتحدث عن المنفذ الفعال؛ أي المشاركة في الرقابة والسيطرة على محتويات وسائل الإعلام وأنماطها، وليس على المنفذ السلبي والأقل فعالية للمستهلكين (حتى عندما يقاوم هؤلاء المستهلكين وسائل الإعلام بواسطة تأويلات غير محببة)، وفضلًا عن ذلك، ينبغي التأكيد على النفاذ الشامل والمعزز إلى وسائل الإعلام القوية و المتنفذة قد يعني طمس وسائل الإعلام الصغيرة، ووسائل الإعلام البديلة التي لديها حجم قليل من الموارد المالية والتكنولوجية، [...].

سيطرة الخطاب

حالما تترسخ السيطرة على مؤشرات السياق وإنتاج الخطاب، يمكننا أن نستقصي كيف يتم التحكم ببنى الخطاب نفسه: ما الذي يمكن أن يقال (من الموضوعات الكلية إلى المعاني الجزئية)؟ وكيف يمكن صوغه (بأي الكلمات، أكثر تفصيلًا ودقة أو أقلهما، وفي أي نمط من الجمل، وفي أي ترتيب، وفي أي موضع؟ [...]

السيطرة العقلية

في كل مرحل من مراحل إعادة إنتاج الخطاب نحتاج إلى تحليل خطابي واجتماعي وإدراكي مفصل ومتطور، إن معظم العلاقات التي ذكرناها للتو مفهومة بالكاد، نعم، بدأنا نفهم كيف يُستوعب الخطاب ويفهم، وما زلنا لا نعي تمامًا كيف يؤدي مثل هذا الفهم إلى أنماط من "التغييرات العقلية": مثل التعلم، أو الإقناع، أو التلاعب أو التلقين. إن "السيطرة العقلية" تشتمل على ما هو أبعد من مجرد فهم النص أو الحديث، وهنا لا بد من الإشارة إلى العوامل الأخرى التي تؤدي دورًا في تغيير فكر الإنسان وعقله، ومنها المعرفة الشخصية والاجتماعية، والخبرات السابقة والآراء الشخصية، والمواقف الاجتماعية والأيديولوجيات والأعراف أو القيم.

وعندما نستوعب مثل هذه التمثيلات والعمليات الإدراكية المعقدة، من الممكن أن نبين -على سبيل المثال- كيف أن التغطيات الصحفية العنصرية عن المهاجرين تؤدي إلى تأكيد التحيز والتحامل والصور النمطية، وهذا -بدوره- يمكن أن يؤدي إلى تكوين الأيديولوجيات العنصرية، وأن يتأثر بتكون هذه الأيديولوجيات وهي -أنفسها- يمكن توظيفها لإنتاج نص أو حديث عنصري جديد في سياقات أخرى يمكن أن تسهم في -النهاية- في إعادة الخطاب العنصري، واليوم باتت مثل هذه العمليات مفهومة بشكل عام جدًا، ولكن -مرة أخرى- فإننا لا نكاد نفهم تفاصيل التأثيرات الخطابية في عقول الناس. [...]

تحليل الخطاب بوصفه تحليلًا اجتماعيًا

توجد مشكلات نظرية وتجريبية مشابهة في تعريف الجماعات أو المؤسسات القوية، وهما يمثلان جذور إعادة الإنتاج الخطابي للسلطة، والسؤال هنا: ما الخصائص التي تحتاج إليها مجموعات من الناس حتى يمكن وصفها بأنها "صاحبة سلطة"؟

قد يكون هذا أمرًا واضحًا فيما يتعلق بالحكومات، والبرلمانات، ووكالات الدولة، والشرطة، ووسائل الإعلام، والمؤسسات العسكرية والتجارية الكبيرة، وربما بعض المهنيين كالأطباء وأساتذة الجامعات، أو الأدوار الاجتماعية للآباء والأمهات، ولكن هل يعني هذا أن الصحفيين المستقلين ذوو سلطة أيضًا؟ إذ من المحتمل أن ينكر معظمهم مثل هذا القول، حتى لو كانوا يدركون أن لديهم القدرة على التأثير على عقول مئات الآلاف، إن لم يكن الملايين من البشر، السلطة بهذا المعنى لا يمكن تعرييفها بأنها سلطة فرد ما، وإنما بوصفها جزءًا من سلطة مؤسسة ما، لذلك نحتاج إلى الانخراط في تحليل اجتماعي متطور أكثر لنتمكن من تسليط الضوء على من يسيطر على الخطاب العام وكيفية ذلك.

ومن الممكن إعطاء أمثلة مشابهة لميدان رئيس آخر ل"السلطة الرمزية"، ألا وهو ميدان التعليم، فنحن نعلم أن المدرسين والكتب المدرسية تؤثر في عقول الطلبة وفكرهم [...]

باختصار عندما نقوم بتحليل الخطاب بصفته تحليلًا اجتماعيًا، نصبح منخرطين -إلى حد كبير- ف الهياكل المعقدة للمنظمات والرقابة والسيطرة والسلطة، التي يكون الحديث والنصوص العامة فيها واحدة فحسب من ممارسات اجتماعية أخرى لا بد من التدقيق فيها، وفضلا عن ذلك، هناك مشكلات منهجية تواجه مثل هذه الدراسة النقدية للمؤسسات المعقدة والقوية، مثل فرض قيود خطيرة على النفاذ إليها، فعلى سبيل المثال، من الممكن -أيضًا- أن نجري تحليلًا نقديًا لتقرير إخباري عام أو مقال افتتاحي، أو كتاب مدرسي، أو للتفاعل في غرفة الدراسة، أو الدعاية لحزب ما، أو لإعلان شركة ما، ولكن نادرًا ما يحصل هذا النوع من التفاعل الخطابي في الجزء العلوي للهرم السياسي: كاجتماع مجلس الوزاراء، أو اجتماع هيئة التحرير في صحيفة، أو اجتماع كبار رجال حزب سياسي، أو المداولات التي تجري في مجلس إدارة شركة تجارية.

وفي العمل الميداني تكون القاعدة العامة هي: كلما كانت الخطابات المتنفذة في أعلى الهرم السياسي، كانت نقاشاتها أكثر سرية، ومتاجة بدرجة أقل للجمهور وأقل خضوعًا للتدقيق النقدي، وأحيانًا تكتسب الحصانة من القانون، كما هو الحال بالنسبة لاجتماعات مجلس الوزاراء.
[...]

أبين في هذا الكتاب كيف يرتبط التحليل الاجتماعي على نحو وثيق بتحليل الخطاب السياقي. تقليديًا، تم تعريف سلطة المجموعات الاجتماعية (الطبقات الاجتماعية والمنظمات) وفقًا للتفاضل فيما بينها فيما يتعلق بقدرتها على النفاذ إلى (أو السيطرة على) الموارد المادية الخاصة، كرأس المال، أو الأرض، والموارد الرمزية كالمعرفة، أو التعليم، أو الشهرة، أو القوة البدنية.

ومع هذا، هناك كثير من أنماط السلطة المعاصرة التي ينبغي أن تُعرف بأنها "السلطة الرمزية"، [...] إن السيطرة على الخطاب العام هي سيطرة على العقل العام، ومن ثم -بصورة غير مباشرة- سيطرة على ما يريده العامة وما يفعلونه، أي على إرادة الجمهور ونشاطه. ولا يحتاج المرء إلى الإكراه إذا كان قادرًا على الإقناع، والإغواء والتلقين أو كان بارعًا في التلاعب بالناس.

[...]
لذا ينبغي علينا أن نتجاوز الشعارات النقدية الشائعة عن السلطة السياسية أو وسائل الإعلام (التي تكون عادة صحيحة، ولكنها مبسطة جدًا) من حيث أنها "مديرة العقل"، ونبحث -بدقة وتفصيل- عما يعنيه هذا بالضبط: كيف تسيطر مجموعات خاصة أو محددة في المجتمع على تعريف الأحداث العامة (وهذا يعني النماذج العقلية)، والمشاعر تجاه الأحداث العامة، أو المعرفة الاجتماعية - الثقافية العامة، والحس السليم، والمواقف تجاه القضايا المثيرة للجدل، أو بصورة جوهرية، تجاه الأيديولوجيات الأساسية والأعراف والقيم التي تنظم مثل هذه الصور الاجتماعية عند الجمهور وتتحكم فيها.

[...]
يؤسس التحليل الموجز لإعادة الإنتاج الخطابي للسلطة المذكور سلفًا على العلاقات الأساسية ل"مثلث مفاهيم" يُنظم معظم بحوثي، ومؤلفاتي الأخرى، وهو مثلث: الخطاب، والإدراك، والمجتمع، وفي رأيي يحتاج أي نوع من دراسات الخطاب النقدية إلى الاهتمام بهذه الأبعاد الثلاثة، حتى عندما نريد التركيز على واحد أو اثنين منها.

مقطع من كتاب: الخطاب والسلطة
تأليف: توين فان دايك
ترجمة: غيداء العلي
مراجعة وتقديم: عماد عبد اللطيف
القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2014.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

النوافذ

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

قصائد من الشعر الأفريقي المعاصر