عن فيلم الجوكر (2019)



(1)

فيلم الجوكر فيلم لطيف، مسلي وممتع، خصوصًا في نصفه الأخير، بداية من المشهد الذي يقوم فيه بقتل زميله. بدءًا من هذه اللقطة استغرقت مع أغلب المشاهدة باستمتاع. مشكلتي مع الفيلم هو ما يأتي قبل هذه اللقطة.

نحن أمام شخصية نعرف مسبقًا ما ستتحول إليه، نهاية الفيلم معلومة نوعًا. لولا هذه المعرفة التي تتمتع بها كمشاهد من أول لحظة، لاختلف تفاعلك مع الفيلم، وتوقعك للأحداث وتفاعلك مع الشخصية؛ ربما كانت ستحدث الصدمة الناتجة عن الاختلاف بين توقعك أو أملك للحل والتطور المفاجيء للشخصية. لكن طبيعة الفيلم هنا مختلفة، وهذا مفهوم.

امتلك السيناريست هنا بعض الحرية في التعامل مع الشخصية، فنحن أمام شخصية لها أصل مجهول نوعًا: لا يوجد أصل واضح للجوكر في الكوميك، لا يوجد أصلًا آرثر فليك، كما أنه في عالم دي سي، كان هناك أكثر من تجلٍ للجوكر؛ قرأت أن ثلاثة أشخاص مختلفين لعبوا  شخصية الجوكر.

منذ أول لقطة في الفيلم آرثر مهرج، وبالتالي أنت كمشاهد تعرف منذ اللحظة الأولى أصل ومنطق التحول إلى الجوكر بشكله النهائي. وهو تحول منطقي لكن أظن أن كون آرثر منذ اللحظة الأولى هو مهرج ومريض عقلي، حرمنا من مصدر محتمل للترقب والتساؤل لكيفية هذا التحول، وهو ما جعل بعض مشاهد النصف الأول تحصيل حاصل،  متوقعة من مشاهدة أفلام مشابهة خارج عالم الأبطال الخارقين، نجح الأداء أحيانا من امتاعنا، لكنه لم يوقف عقلك عن الخروج من حالة الاندماج، للانتقاد والسخرية من الكليشيه، لأنك بشكل ما شاهدت مشاهد مشابهة تقوم بنفس الدور في حبكة مشابهة، وهو ما حرمنا من تفاصيل ممتعة كان من الممكن أن تضيف للفيلم، لو بدأ البطل كمدرس أو كموظف مثلا. اختيار الفيلم كان الأكثر قربا من المنطق العادي، وهو ما جعل التحول منطقيًا وسلسًا، لكنه كان تقليديا.

(2)

أعجبني في المقابل في الفيلم أنه لم يكن قصة سقوط، بل في المقابل قصة تحرر. التحول إلى جوكر هو الخروج من شرنقة المعاناة والشك، تحرير البطل لكل إمكاناته، وليس سقوطًا بالمعنى التقليدي؛ وهو ما يخالف المنطق المعتاد، والأخلاق العادية، لكنه يناسب طبيعة الفيلم، وطبيعة الحالة والمشاعر التي يريد إيصالها. 

(3)

لم يعجبني تفسير الفيلم لضحكة الجوكر، القصة لطيفة ومرسومة بمهارة في الفيلم. لكن هذا التفسير مضر في رأيي بشخصية الجوكر. الجوكر الذي يستجيب للتهديد والضرب بضحكته الساخرة، وبإلقاء النكات، هذه الضحكة الشجاعة النادرة المجنونة يتم تفسيرها ببساطة كرد فعل لا إرادي ناتج عن حالة مرضية، تفسير محبط في رأيي. كان مرسومًا بشكل جيد جدا في الفيلم، بل قد يكون من نقاط قوة السيناريو، لكني لا أحبها خارج هذا السيناريو.

ربما ليس لهذا التعليق معنى في سياق أن جوكر هذا الفيلم ليس هو بالضرورة الجوكر الذي سيقابل باتمان فيما بعد. في الفيلم إشارات واضحة في رأيي لأن آرثر فليك قد لا يكون الجوكر الذي سيحاربه باتمان فيما بعد. مثل الفارق العمري الواضح بين بروس وآرثر.

(4)





من أفضل ما قرأت عن شخصية الجوكر، مقال لا أذكر أين قرأته أو من كتبه، يرى فيه أن كثيرًا من أفعال الجوكر قد تكون ناتجة ببساطة من أنه يدرك أحيانًا أنه مجرد شخصية في كوميكس. أثرت هذه الفرضية على تفاعلي مع شخصية الجوكر. في الفيلم من ضمن ما أعجبني في السيناريو هو تساؤل آرثر طوال الوقت عن حقيقة الواقع الذي يشاهده. بدءا من مناقشاته مع المعالجة النفسية في النصف الأول من الفيلم، التي تشير إلى هذا التساؤل، مرورًا بأحداث يرويها الفيلم نكتشف فيما بعد أنها حدثت فقط في عقل الجوكر، وصولا إلى النهاية التي يفسرها البعض بأن كل ما يرويه الفيلم هي أحداث غير حقيقية حدثت فقط في عقل آرثر: في المشهد الختامي تطلب منه المعالجة أن يخبرها النكتة التي ضحك عليها للتو، فيرد: لن تفهميها. 

في رأيي مسائلة الواقع، والشك في حقيقة ما يحدث، هو أحد ركائز شخصية الجوكر. بالتالي قد يكون هذا تفسيرًا جيدًا جدًا للألعاب التي يقوم بها طوال الوقت والتي تمزج بين الذكاء العالي والتخطيط المتقن، والارتجال العفوي وليد اللحظة، ألعاب لا تتقيد بالقيم المعتادة. الجوكر -في بعض تجسيداته- هو شخص أدرك وجود مشكلة ما في الواقع، في ما  يمكن أن يعتبره حقيقيًا، وبالتالي يمكننا أن نرى أن القتل والتخريب هو طريقة الجوكر في التفلسف.

(5)

جوثام مدينة بلا قلب، مليئة بالفساد، والعنف. الجوكر يرى أن جوثام مدينة غير قابلة للإصلاح، مجنونة، وقاسية، وغير عادلة. باتمان مشغول برغبته وأمله في الإصلاح، لكنه محمي بقلعة ضخمة، وثراء فاحش، وجيش من الخدم والموظفين الذين يجعلون حياته اليومية العادية سهلة. بروس وين لا ينشغل في أي وقت بقدرته الشرائية، لا تقلقه وجبته التالية، قادر على الاحتماء بالأسوار العالية من الفساد والظلم والإهانة اليومية. ومن هنا كانت رؤية الفيلم المخالفة جزءًا من قوة الفيلم. البطل هنا يحتمي من الجنون بالجنون، ومن العنف بالعنف. جوكر هو سجين في مدينة قاهرة، وكحال المساجين، هو مجبر على اعتناق القسوة. ومن هنا ربما تكون أهمية الفيلم؛ قد يكون الفيلم هو محاولة لاستغلال شعبية الشخصية الطاغية، بعد نجاح ثلاثية نولان؛ لكن لو نجح هذا الفيلم، في إلهام أفلام أخرى لتبني رؤية مختلفة في التعامل مع حكايات الأبطال الخارقين: أفلام تتناول الحكايات من منظورات غير تقليدية، فسيكون ذلك مكسبًا كبيرًا. 

تعليقات

إرسال تعليق

أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

النوافذ

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات