حكمة الجموع وكوكب فيسبوك
بقلم: أحمد ع. الحضري
(1)
حكمة الجموع (wisdom of the crowd) هو مسلسل أمريكي جديد يذاع الآن في موسمه الأول، يحكي عن مدير إحدى الشركات التقنية يتجه بعد مقتل ابنته إلى بناء موقع غرضه الكشف عن قاتلها الحقيقي. الموقع يعمل على فكرة استغلال حشد من الأشخاص العاديين المتحمسين لجمع المعلومات التي تتعلق بموت ابنته. النظرة الأساسية التي يتبناها المسلسل، هي أن الناس حين يجتمعون معًا ويوحدون جهودهم لحل معضلة ما أو لاكتشاف مجهولٍ ما، يتجاوز محصول نجاحهم أي مجهود فردي.
قد تبدو هذه النظرة بدهية للبعض لكن الشك في جدواها وفي إمكانية بناء موقع يستخدم جموع الناس لحل جرائم فعلية هو أمر بدهي أيضًا بالنسبة للبعض الآخر. الاعتراض الأول الذي ثار في داخلي يتعلق ببعض ما كنت قد قرأته في كتاب جوستاف لوبون عالم الاجتماع الشهير عن التأثير السلبي المحتمل لوجود الفرد ضمن عصبة أو شرذمة ما. وكيف قد يؤدي التواجد داخل حشد إلى الضغط على وعي الفرد، مما يؤدي إلى تقلص أو تلاشي الشخصية الواعية، بحيث يغدو الفرد أكثر عرضة للوقوع تحت تأثير الأغلبية الحاضرة، والانقياد لأفعال لم يكن ليفعلها منفردًا، والاقتناع بأفكار لم يكن ليؤمن بها لولا ضغط الجموع. تخيل الانفعالات، والتحيزات المسبقة، والتسرع في الإدانة، وديكتاتورية الرأي الأكثر شيوعًا التي تمارس أحيانًا دون وعي من يمارسها بها. والمسلسل لا يجهل وجود هذه المشاكل أو العيوب، ولا يتجاهلها لكنه يفترض أن بناء منصة فعالة بشكل سليم كفيل بالتقليل من هذه العقبات والحد من خطرها، وتعظيم الأثر الإيجابي في المقابل.
قد تبدو هذه النظرة بدهية للبعض لكن الشك في جدواها وفي إمكانية بناء موقع يستخدم جموع الناس لحل جرائم فعلية هو أمر بدهي أيضًا بالنسبة للبعض الآخر. الاعتراض الأول الذي ثار في داخلي يتعلق ببعض ما كنت قد قرأته في كتاب جوستاف لوبون عالم الاجتماع الشهير عن التأثير السلبي المحتمل لوجود الفرد ضمن عصبة أو شرذمة ما. وكيف قد يؤدي التواجد داخل حشد إلى الضغط على وعي الفرد، مما يؤدي إلى تقلص أو تلاشي الشخصية الواعية، بحيث يغدو الفرد أكثر عرضة للوقوع تحت تأثير الأغلبية الحاضرة، والانقياد لأفعال لم يكن ليفعلها منفردًا، والاقتناع بأفكار لم يكن ليؤمن بها لولا ضغط الجموع. تخيل الانفعالات، والتحيزات المسبقة، والتسرع في الإدانة، وديكتاتورية الرأي الأكثر شيوعًا التي تمارس أحيانًا دون وعي من يمارسها بها. والمسلسل لا يجهل وجود هذه المشاكل أو العيوب، ولا يتجاهلها لكنه يفترض أن بناء منصة فعالة بشكل سليم كفيل بالتقليل من هذه العقبات والحد من خطرها، وتعظيم الأثر الإيجابي في المقابل.
(2)
في الحلقة السابعة من الموسم الأول من مسلسل آخر يسمى Orville يزور طاقم سفينة فضاء كوكبًا شبيهًا بالأرض، في هذا الكوكب لا توجد مؤسسات حكم تقليدية، يتخذ سكان هذا الكوكب كل قراراتهم من خلال التصويت الجماعي، من خلال آلية تصويت تشبه نظام التصويت الذي نعرفه على بعض مواقع الإنترنت: أعجبني / لم يعجبني. يقرر المواطنون رأيهم في كل شيء من خلال هذا التصويت. يسأل أحد أفراد طاقم السفينة مواطنة من الكوكب، لكن كيف تعرفون مثلًا إن كان طعامًا ما مفيدًا أم لا؟ تجيب: نصوت عليه. يرد أحدهم أظن أنكم تخلطون بين الرأي والمعرفة: أي بين الاستراتيجيات العملية أو الأمور الجدلية التي يصلح التصويت بخصوصها والمسائل التي تندرج في سياق الحقائق التي نلجأ إلى الخبراء أو إلى البحث للتعرف عليها.
الصورة المرسومة لهذا الكوكب كاريكاتورية قليلًا. لكن باختصار بدا لي أن هذه الحلقة تتخيل كيف سيكون شكل الحياة على كوكب فيسبوك. على هذا الكوكب نرى بشكلٍ مجسد ما شهدناه يحدث كثيرًا على فيسبوك: إن رأى عدد كبير من الأشخاص أنك قد كتبت أو نشرت أمرًا مسيئًا لهم فسيقوم الموقع بعقابك بحذف المادة "المسيئة" مع احتمال وقفك أو حذف صفحتك. أذكر أيام الثورة الأولى كيف تم حذف صورة فتاة سورية نشرتها بعد خلعها الحجاب؛ مرة تلو الأخرى تم حذف الصورة عقب رفعها بعد بلاغات عديدة من جماهير فيسبوك المستاءة، الصورة ليس فيها نظريًا ما يخالف قواعد فيسبوك، لكنها حذفت عدة مرات، وتم إيقاف الصفحة التي نشرتها عدة مرات، وتهديدها بالحذف بشكل نهائي. شاهدنا مثل هذا يحدث كثيرًا، صفحات أو مواد تحذف لا لشيء سوى وجود عدد كبير من الأفراد الذين قرروا بشكل منظم الإبلاغ عنها. في ظل أيام الثورة كانت هذه البلاغات (Reports) أسلحة حقيقية توجهها جماعات ضغط مسيسة وتتحرك بشكل متناسق لإلغاء الآراء والحقائق التي تراها مزعجة. وهي خاصية قرأت أن جهات تابعة للحكومة الروسية استخدمتها في أوكرانيا في 2014 و2015 عقب ضم روسيا لإقليم القرم، من أجل إخفاء الأصوات المعارضة. وفقًا للتقارير، في خضم التصعيدات الروسية ضد جارتها، تم توجيه عدد كبير من الشكاوى لإدارة فيسبوك، بأن منشورات عادية تمامًا لناشطين مناهضين لروسيا تضم عريًا، أو حديثًا يحض على الكراهية؛ وبالتالي تم حذفها وعقاب ناشريها أو حذفهم دون مبرر حقيقي. في كثير من الأوقات نجد أنفسنا في فيسبوك في مواجهة حقائق "مسيئة" و"أكاذيب" ذات شعبية. خواريزميات فيسبوك تتغير كثيرًا، وطريقة تعامله مع البلاغات تغيرت بعض الشيء عن وقتها، لكن المشاكل الجوهرية لم تحل.
(3)
"كلنا نعلم أن الانترنت قد غيرت العالم. السؤال الوحيد هو: إلامَ؟ يمكنها أن تكون منصة تقربنا أو تشرذمنا." هكذا يبدأ بطل مسلسل حكمة الجموع كل حلقة من المسلسل. يواصل بعدها مخاطبته للمشاهدين: "أعلم هذا لأنني قضيت حياتي محاولًا أن أحوله إلى شيء يربط بيننا جميعًا." يصف الموقع الذي بناه لحل لغز مقتل ابنته بأنه "يكتسب قوته من مجموعة محققين هم الأّذكى، والأكثر استقلالًا على الكوكب: أنتم".
في مشهد من الحلقة التاسعة من المسلسل تقف سارة مورتون بطلة المسلسل في قاعة محاضرات، نراها تقول: "لديَّ رسالة لصناعة تكنولوجيا المعلومات: أنتم تقومون بالأمر بالطريقة الخطأ. مستقبل التقنية ليس في الإعجابات وإعادة النشر (likes or shares)، بل في استخدام القرية الكونية الجديدة لأداء مهام لم يكن من الممكن لأي فرد القيام بها. مهام جليلة." تتابع بعدها بقليل: "هناك قولٌ قديم يرى أن الفرد ذكي لكن الناس أغبياء، حسنًا أنا هنا لأخبركم أن الواقع عكس هذا تمامًا. حين يتم تحفيز الجمهور بشكل مناسب، وحين يكون متنوعًا ومستقلًا بشكلٍ كافٍ في صنع قراراته، يكون أذكى بدرجة كبيرة مما يستطيع أي فرد أن يكونه، تخيلوا معي الآن لو طبقنا هذا المبدأ نفسه في مجال الزراعة، أو الإغاثة من الفيضانات، أو في القضاء على المرض، أو استخدمناه في بناء مشاريع أفضل وأكثر ابتكارية. يجلس العالم فوق ثروة من الحكمة الجمعية، وأنا أقول لنبدأ في التنقيب عنها."
ترسم سارة مورتون مواصفات المنصة التي تتمناها، تتحدث عن جعل المشاركين يساعدون في بناء الموقع، كشفت كود الموقع وجعلت عدد منهم يفحصونه. دافعت عن هذا القرار بأن الزوار الذين شاركوا بفاعلية في المساعدة قد قضوا وقتًا أطول على الموقع بعد ذلك. لا يصف المسلسل كثيرًا من التفاصيل المرتبطة بهذا المشروع التي ساعدت على تطويره في شركة "Allsourcer"؛ لأن أحداث المسلسل تبدأ بعد مقتل ابنة جيرمي، وما سيؤدي له من تركه إدارة هذا المشروع، وبدء مشروعه الجديد مع سارة: مشروع تأسيس منصة أخرى تستخدم حشد المصادر(1) (Crowdsourcing) للمساعدة في حل الجرائم. في هذه المنصة الجديدة "صوفي"، حرص على أن يكون الموقع مجاني، وألا يعتمد على أي إعلانات، وأن يكتشف أنسب الطرق لتوجيه جماهير الموقع للحصول على أكثر نتائج إيجابية. لو تأملت قليلًا ستكتشف أن هناك موقعًا شهيرًا موجودًا في الواقع ينتهج سياسة مشابهة، وهو موقع ويكيبيديا، الذي قد يكون الآن هو أكبر موسوعة شاملة موجودة على الإنترنت.
ترسم سارة مورتون مواصفات المنصة التي تتمناها، تتحدث عن جعل المشاركين يساعدون في بناء الموقع، كشفت كود الموقع وجعلت عدد منهم يفحصونه. دافعت عن هذا القرار بأن الزوار الذين شاركوا بفاعلية في المساعدة قد قضوا وقتًا أطول على الموقع بعد ذلك. لا يصف المسلسل كثيرًا من التفاصيل المرتبطة بهذا المشروع التي ساعدت على تطويره في شركة "Allsourcer"؛ لأن أحداث المسلسل تبدأ بعد مقتل ابنة جيرمي، وما سيؤدي له من تركه إدارة هذا المشروع، وبدء مشروعه الجديد مع سارة: مشروع تأسيس منصة أخرى تستخدم حشد المصادر(1) (Crowdsourcing) للمساعدة في حل الجرائم. في هذه المنصة الجديدة "صوفي"، حرص على أن يكون الموقع مجاني، وألا يعتمد على أي إعلانات، وأن يكتشف أنسب الطرق لتوجيه جماهير الموقع للحصول على أكثر نتائج إيجابية. لو تأملت قليلًا ستكتشف أن هناك موقعًا شهيرًا موجودًا في الواقع ينتهج سياسة مشابهة، وهو موقع ويكيبيديا، الذي قد يكون الآن هو أكبر موسوعة شاملة موجودة على الإنترنت.
(4)
في الواقع يمثل موقعا ويكبيديا وفيسبوك نموذجين يدعوان للتأمل. ويكيبيديا هو مثال حي لكل ما طمح إليه رواد الإنترنت الأوائل، موقع يساعد على جمع جهود عدد كبير من الأفراد على مستوى العالم من أجل بناء صرح ضخم يتجاوز ما كان من الممكن لأي فرد أو مؤسسة تقليدية إنجازه: موسوعة عامة شاملة متعددة اللغات تواصل تحديث موادها بشكل يومي. المجهود في الموقع يتوزع على عدة مراحل تبدأ من إنتاج المادة، ثم مراجعتها أكثر من مرة، وتدقيقها، ووضع الوصلات والروابط مع المواد الأخرى ذات الصلة. موقع يتجاوز الحدود والقوميات. موقع لا يخلو من أخطاء وعيوب ومخاطر متناثرة مع ذلك، لكن الكثيرين يرون أنه مثير للإعجاب، وأنه يتحسن بشكلٍ مستمر.
وفي المقابل هناك فيسبوك. وهو يمثل باختصار ما صار إليه حال أغلب الإنترنت: موقع يقضي فيه ملايين الأفراد مليارات الساعات يوميا. ينشرون فيه موادًا وآراءً وصورًا وفيديوهات بشكل مستمر، بعضها قد يكون مفيدًا وقيمًا لكن بعضها ليس كذلك، ولا توجد وسيلة حقيقية لفصل الجيد عن الغث فيه. أو حتى فصل المواد ذات الطابع المعلوماتي، عن النصوص الأدبية، عن الفضفضات والاعترافات اليومية التي ننشرها بشكل يومي معتاد على الموقع. وربما تفكر أن في الأمر خلطًا ما من جانبي في هذا الوصف، باعتبار أن موقع فيسبوك هو فقط موقع تواصل اجتماعي، وأن تسهيل الوصول للمواد وتصنيفها، ووجود بحث جيد يسهل الوصول للمواد المختلفة على الموقع بشكلٍ شامل وسهل ليس من دوره، وأن الموقع ببساطة يسهل التواصل بينك وبين دوائر المعارف الخاصة بك. لكن في الواقع هذا الاعتراض ليس دقيقًا، فبشكل عملي حرص موقع فيسبوك على توسيع دائرة نفوذه بشكلٍ مستمر على مدار سنوات عمره، من خلال الخوارزميات التي يحدثها باستمرار، والتي كان غرضها الأول هو تنمية الأرباح، لا تعظيم الفائدة التي تعود على الفرد أثناء التواجد به. عمل الموقع على أن يجذب الأفراد للتواجد داخله لساعات أطول، وأثناء هذا أصبح أغلب الأفراد داخل فقاعات مغلقة لا تصلهم فيها صورة حقيقية للعالم بتنوعه واختلافاته، أو حتى حقائقه. تحدث الكثيرون مثلا عن الأثر المدمر لفيسبوك ومواقع التواصل الاجتماعي الأخرى على الصحافة. وهذا الأثر وطبيعته لم يتم بمحض الصدفة، بل عن طريق استراتيجيات تطورت على مدار السنين بغرض تعظيم النفوذ وزيادة الربح. ضغط فيسبوك استمر بشكل متواصل على صانعي الأخبار ومنتجي المواد من أجل دفع المزيد والمزيد من نقود الإعلانات للوصول إلى الناس. فكر مثلا في الصفحات التي أبديت إعجابك بها على فيسبوك بغرض متابعة ما تنشره، والتي تختفي بشكلٍ غامض من صفحتك لفترات طويلة، هل هذا الاختفاء هو فقط نتيجة لنمط تعاملك على الموقع أم أن بحث فيسبوك عن الربح له دور في هذا. على فيسبوك تحس أن كل ما ينشره زوار الموقع وكل المجهود المبذول فيه لا يثري الإنترنت أو الحياة بمقدار يتناسب مع هذه الطاقة المهدرة.
الفكرة باختصار هي أنك إن رغبت في البحث عن معلومة أو مقال أو مادة أدبية لن تبحث عنها على فيسبوك، لأن طبيعة فيسبوك وطريقة البحث فيه لا تجعله فعالًا في استرجاع المواد. ومع ذلك عدد كبير من الأشخاص تم اجتذابهم بطرق لا تخلو من إجبار للكتابة والنشر حصريًا داخل الموقع. مواد لا يستطيع أصحابها أنفسهم الوصول إليها دون مشقة. وشاهدت من يفقد نصوصه ومجهوده وتاريخه على الموقع في طرفة عين نتيجة إغلاق صفحته بشكلٍ نهائي بعد بلاغات قد تكون مبررة أو غير مبررة. المواقع الإخبارية بدورها صارت مجبرة على تفصيل موادها لتناسب طبيعة فيسبوك وخوارزمياته التي تتغير بشكلٍ مستمر لأن كل الناس موجودين فيه. وجزء من المشكلة فينا نحن حين نعتبره مصدرنا الأول -وأحيانًا الوحيد- لمتابعة الأخبار والتعرف على الجديد، في حين أنه غير مؤهل بشكل واضح لهذا، وغير عملي. المقصود ليست أن تهجر فيسبوك ومواقع التواصل الاجتماعي، لكن أن تستخدمها فقط في الدائرة التي ستكون مفيدة فيها بشكلٍ أكبر.
______________
1- هناك ترجمات مختلفة للمصطلح، استخدمت ويكيبيديا على سبيل المثال مصطلح: "التعهييد الجماعي"، التي لم أحبها، هناك من استخدم تجييش الجماهير، التي كدت أن استخدمه لولا الوقع العسكري لهذه الترجمة التي لا يحملها المصطلح الأصلي.
تعليقات
إرسال تعليق
أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء