عصر السريالية (مقتطف)
بقلم: والاس فاولي
أصبحت كلمة "سريالية" تشير إلى مرحلة تاريخية معينة، مع أنها لم تدخل لغة المعاجم إلا منذ وقت وجيز. وهي تستعمل بصورة جامعة مانعة لوصف تلك الحركة الفنية التي اتخذت من باريس مركزًا لها في فترة ما بين الحربين العالميتين 1919-1939. لقد كانت السريالية في عشرينيات هذا القرن وثلاثينياته حركة منظمة ذات طبيعة ثورية ترفض القيم والأعراف القديمة، ولها قادتها ومريدوها، وبياناتها ومنشوراتها، كما كان لها معارضها وتظاهراتها. في تلك السنوات صارت حركة عالمية حتى أن أربعة عشر بلدًا اشتركت في معرضها الذي أقيم سنة 1938.
ولكن للسريالية (فوق الواقعية) معنى آخر، قد يكون أبديًا، كما أن لها مضمونًا يتجاوز مضمون جماعة أندريه بريتون التي خلفت الدادائية حوالي عام 1924. وفي تقسيمنا لهذا الكتاب حافظنا على النسبة العادلة بين الإنجازات التاريخية لسريالية القرن العشرين من ناحية، ومعناها الفلسفي الأعمق من ناحية أخرى. لذلك سنتناول في بعض الفصول السرياليين الذين يعتبرون أنفسهم مؤسسي الحركة، أمثال بريتون وإليوار، بينما نتناول في الفصول الأخرى الفنانيين الذين كانوا قريبين من السريالية، دون أن يشاركوا فيها عمليًا، أمثال أبولنير وكوكتو، وهناك آخرون كانوا قريبين منها، إلا أنهم تجاوزوها، لما امتازت به آثارهم من العظمة والشمول: من هؤلاء بيكاسو.
[...]
[...]
لقد كان من هم السرياليين أن يكتشفوا في الماضي، القريب والبعيد على السواء، ما يدعم أفكارهم وأعمالهم، وراحوا يهشمون كل من يتعارض معهم، بالعنف نفسه الذي يمجدون به الأفكار القريبة إليهم. وهكذا يدعي بريتون أن هيراقليطس سريالي ديالكتيكي، وأن بودلير سريالي أخلاقي، ولم يكتف السرياليون بترداد الأسماء الشهيرة من أمثال ساد وهيجل وماركس وفرويد وسان جوست بألفة وبساطة، بل أدخلوا إلى هيكلهم من باب جانبي وببعض القسر، شخصيات أخرى كدانتي وشكسبير وجيد.
لقد اجتازت السريالية كمصطلح، المرحلة التي كانت فيها الحلقات الأكاديمية خصوصًا، والنقاد الجادون، يعتبرونها أفكوهة ويرفضون أن يعيروها أي اهتمام، صحيح أنها ما تزال تقابل ببعض السخرية، لكنني أعتقد أن هذه السخرية لا تصدر إلا عن أشخاص غرباء عن الفن. أمضيت أيامًا عدة في المعرض العالمي الذي أقيم في باريس عام 1938، والذي كان أكبر تظاهرة قام بها السرياليون حتى ذلك التاريخ، ما زلت أذكر كيف كان بعض الحضور يضحكون ويتهكمون. ويمكننا اليوم أن نلمس لدى السياح الذين يزورون متحف الفن الحديث في نيويورك ومعهد الفن في شيكاغو، الموقف نفسه، موقف الارتياب والنفور.
[...]
فإذا كانت السريالية بالمعنى المعاصر، تأخذ مكانها، بقوة وشمول، إلى جانب الشيوعية والتومائية الجديدة، فهي بمعناها التاريخي تستحق مكانًا إلى جانب الكلاسيكية والرومانطقية، اللتين كانتا مدار الجدل والتعريفات في الفن الغربي. إذ أن هذين الاصطلاحين، كما هي الحال في السريالية، أطلقا على حركتين تاريخيتين استمرت كل منهما عشرين سنة، ورافقهما نشر البيانات وإعلان المذاهب الجمالية. فقد ظهرت الكلاسيكية في فرنسا ما بين 1660 و 1680، وظهرت الرومنطقية بين 1820 و 1840. ولكن من العبث أن نحصر هذه الاصطلاحات الثلاثة في حقبة معينة تمتد إلى عشرين سنة، إذ أن المدارس الفنية المنظمة، شأنها شأن الأكاديميات أو الجامعات، تميل إلى الحذلقة والقواعد العقيمة، بيد أن أعظم دعائم هذه الاتجاهات الفنية يبقى عادة خارج المدارس بمعناها الاصطلاحي، شأن لوتريامون بالنسبة إلى السريالية. والحق أن الفنانين الكبار تبناهم الرومنطقيون والكلاسيكيون على السواء، وبعد مجيء السريالية تبناهم السرياليون. فشكسبير مثلا يمكن اعتباره كلاسيكيًا لأنه وضع مآسيه في خمسة فصول، لكن مزاجه يقدم للرومانطقية أسبابًا قوية لضمه إليها، وأنا واثق من أن كتابًا مهمًا وضروريًا سيكتب ذات يوم عن "هاملت" كبطل سريالي. (حين يعترف أخيرًا بلا عقلانية هاملت بالمعنى السريالي، سيستغنى عن كثير من النظريات العقيمة المتعبة التي حاولت أن تدرس دوافع هاملت ومشكلاته).
مقاطع من مقدمة كتاب: عصر السريالية
والاس فاولي
ترجمة: خالدة سعيد
دمشق: التكوين، 2011
(نشر الكتاب في أصله الإنجليزي عام 1950)
لقد اجتازت السريالية كمصطلح، المرحلة التي كانت فيها الحلقات الأكاديمية خصوصًا، والنقاد الجادون، يعتبرونها أفكوهة ويرفضون أن يعيروها أي اهتمام، صحيح أنها ما تزال تقابل ببعض السخرية، لكنني أعتقد أن هذه السخرية لا تصدر إلا عن أشخاص غرباء عن الفن. أمضيت أيامًا عدة في المعرض العالمي الذي أقيم في باريس عام 1938، والذي كان أكبر تظاهرة قام بها السرياليون حتى ذلك التاريخ، ما زلت أذكر كيف كان بعض الحضور يضحكون ويتهكمون. ويمكننا اليوم أن نلمس لدى السياح الذين يزورون متحف الفن الحديث في نيويورك ومعهد الفن في شيكاغو، الموقف نفسه، موقف الارتياب والنفور.
[...]
فإذا كانت السريالية بالمعنى المعاصر، تأخذ مكانها، بقوة وشمول، إلى جانب الشيوعية والتومائية الجديدة، فهي بمعناها التاريخي تستحق مكانًا إلى جانب الكلاسيكية والرومانطقية، اللتين كانتا مدار الجدل والتعريفات في الفن الغربي. إذ أن هذين الاصطلاحين، كما هي الحال في السريالية، أطلقا على حركتين تاريخيتين استمرت كل منهما عشرين سنة، ورافقهما نشر البيانات وإعلان المذاهب الجمالية. فقد ظهرت الكلاسيكية في فرنسا ما بين 1660 و 1680، وظهرت الرومنطقية بين 1820 و 1840. ولكن من العبث أن نحصر هذه الاصطلاحات الثلاثة في حقبة معينة تمتد إلى عشرين سنة، إذ أن المدارس الفنية المنظمة، شأنها شأن الأكاديميات أو الجامعات، تميل إلى الحذلقة والقواعد العقيمة، بيد أن أعظم دعائم هذه الاتجاهات الفنية يبقى عادة خارج المدارس بمعناها الاصطلاحي، شأن لوتريامون بالنسبة إلى السريالية. والحق أن الفنانين الكبار تبناهم الرومنطقيون والكلاسيكيون على السواء، وبعد مجيء السريالية تبناهم السرياليون. فشكسبير مثلا يمكن اعتباره كلاسيكيًا لأنه وضع مآسيه في خمسة فصول، لكن مزاجه يقدم للرومانطقية أسبابًا قوية لضمه إليها، وأنا واثق من أن كتابًا مهمًا وضروريًا سيكتب ذات يوم عن "هاملت" كبطل سريالي. (حين يعترف أخيرًا بلا عقلانية هاملت بالمعنى السريالي، سيستغنى عن كثير من النظريات العقيمة المتعبة التي حاولت أن تدرس دوافع هاملت ومشكلاته).
مقاطع من مقدمة كتاب: عصر السريالية
والاس فاولي
ترجمة: خالدة سعيد
دمشق: التكوين، 2011
(نشر الكتاب في أصله الإنجليزي عام 1950)
تعليقات
إرسال تعليق
أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء