بورخيس: أستاذ من مونتريال
حوار: دون بيل
ترجمة: محمد هاشم عبد السلام
دون بيل: من المحير نوعًا أنك لم تكتب شيئًا يزيد عن عشر أو اثنتي عشرة صفحة، رصيدك الذي تطلق عليه "قصيصات (ficciones)، أو قصصًا، هل يختلف عن القصة القصيرة؟ كيف تصف القصيصات؟
بورخس: أعتقد أنني سأصفها كقصة قصيرة، نعم. لكن فيما يتعلق بكتابتي للنصوص القصيرة. يمكنني اعطاؤك سببين الأول هو كسلي المنيع الذي لا يقهر، والثاني هو أنني مغرم دائمًا بالقصص القصيرة، ودائمًا ما تعترضني بعض المشاكل في إتمام قراءة رواية باستثناء حالة بعض الكتب، مثل حسنًا، "أوراق بيكويك"، "الفنلندي هوكليبيري"، "دون كيخوتة"، "لورد جيم لكونراد"، وأمثال ذلك. إضافة إلى أنني مهتم جدًا "بكيبلينج"، واكتشفت أنه في نهاية حياته كان قادرًا على العودة إلى القصة القصيرة، كالعديد من الناس، أو في الحقيقة أكثر مما يكون عليه الأمر بالنسبة للرواية. وأعتقد أني ربما سأجرب يدي مستعينًا بهذه الحيلة، كتابة مجموعة من القصص القصيرة بعناية شديدة. على الرغم من أنني كسول جدًا عندما أكتب، إلا أنني لست بهذا الكسل عندما أفكر فيها. أحب تطوير حبكة القصة القصيرة، ثم أعمل على اختزالها قدر الإمكان، محاولًا ابتكار وتطوير كل التفاصيل الضرورية، أعرف عن الشخصيات ما يفوق بكثير ما هي عليه في حقيقة الورق.
دون بيل: نعم، لنتحدث عن هوس آخر مستحوذ عليك ومتملكك، إنه تفاعل أو التأثير المتبادل بين الزمان والمكان: دعني أسميه سحرًا. هل تعتبر نفسك فوق طبيعي (خارقًا)؟
بورخس: حسنًا، أود أن أجيب بنعم، لكنني لست متأكدًا تمامًا من هذا. كنت أقول لصديقي السيد ألفارز، هنا إنه فيما يتعلق بمسألة الآخرة والخلود، والعيش بأجساد أخرى وعقول أخرى، فأنا، كما كان سبنسر، من أتباع مذهب اللا أدرية، لا أعتقد أننا قادرون على المعرفة، لكنني أحب عدم الانغلاق العقلي. إذن لو سألتني سواء إن كنت أؤمن بالآخرة أم لا، إن كنت أؤمن بالله ام لا، فقط يمكنني أن أجيبك بأن كل الأشياء ممكنة وإذا كانت كل الأشياء ممكنة، فإن الجنة والنار والملائكة أيضًا هي كيانات ممكنة. ليست مستحيلة أو مستبعدة. أعني، أنني أعتقد أنه غريب جدًا أنه مفترض عليَّ العيش داخل جسدي، وأنه ينبغي عليَّ النظر إليك عن طريق عيني، وأنه يجب عليَّ أن أتحدث بلسان آدمي وعبر فمي، إذا كان هذا قد حدث فعلا، فلم لا تحدث أشياء أخرى عديدة رائعة؟ لم لا أكون خالدًا؟ لم لا أكونُ إلهًا، كائنًا أبديًا؟ أقصد كل الأشياء ممكنة، لذلك لا يتحتم الجزم بشيء، ولا نفي شيء.
دون بيل: وأنت تبين هذا بوضوح وبكل حيوية في اثنتين من قصصك، على وجه التحديد، "ذاكرة فونس"، و"الألف".
بورخس: نعم بالنسبة لحالة "فونس"، فقد جاءت ضمن نوبة أرق. وفي إسبانية الأرجنتين، على الأقل، هناك كلمة راقية ورائعة جدًا، فبدلا من أن نقول "انهض من النوم"، نقول "ريكاردارس" (فلتفق إلى نفسك) – ليذكر المرؤ نفسه بواقعه وهذا حرفيًا صحيح لأنه على سبيل المثال، هذا الصباح، عندما استيقظت، شعرت أنني على ما يرام، كنت أعيش في نوع من الفضاء اللانهائي، وفجأة أنا بورخس، أنا في كامبريدج، يجب بل ينبغي عليَّ الذهاب إلى كندا، ... إلخ. وعليه فإن علي أن أتذكر ظروفي وأوضاعي في العالم كله. وفي حالة "فونس" أعتقد أن الرجل الذي ينوء تحت وطأة العديد من الذكريات لا يهنأ بأي نوم. وعلى النحو المشار إليه فكرت فيه باعتباره في نهاية الأمر ميتًا تحت ثقل ذكرياته. لو تتذكر، وقت وفاته كان في ريعان الشباب، ولديه العديد والعديد من الذكريات التي كان عاجزًا بسببها عن التصريح بها أو بغيرها على الملأ، ثم أصيب بالانهيار التام.
دون بيل: القصة الأخرى كانت "الألف".
بورخِس: حسنًا في "الألف" كان عندي فكرتان في ذهني، الأولى كانت الفكرة القديمة عن العالم الصغير (الميكروكوزم). الفكرة التي تقول بأن العالم بأكمله، الكون كله، عالم الأشياء الخارجية (الظواهر)، قد يكون وفقًا لما نعرفه، مختصرًا في أو محصورًا ضمن نطاق مكاني صغير جدًا. لذلك سيكون لدينا، على سبيل المثال، دائرة صغيرة مشعة بمكان ما في منزل معتم في بيونس أيرس! وهناك يمكن العثور على الكون برمته، وبناء عليه ستجد ألفًا آخر، وهكذا، إلى ما لا نهاية. وعندئذٍ تولدت لدي فكرة أخرى فكرت في رجل يتمتع بخاصية تتيح له الاطلاع على الكون كله ولا يفعل بها شيئًا سوى استخدام هذا الامتياز في كتابة قصيدة تافهة. وهكذا نسج هذا العنصران معًا حبكة القصة.
بورخس: نعم بالنسبة لحالة "فونس"، فقد جاءت ضمن نوبة أرق. وفي إسبانية الأرجنتين، على الأقل، هناك كلمة راقية ورائعة جدًا، فبدلا من أن نقول "انهض من النوم"، نقول "ريكاردارس" (فلتفق إلى نفسك) – ليذكر المرؤ نفسه بواقعه وهذا حرفيًا صحيح لأنه على سبيل المثال، هذا الصباح، عندما استيقظت، شعرت أنني على ما يرام، كنت أعيش في نوع من الفضاء اللانهائي، وفجأة أنا بورخس، أنا في كامبريدج، يجب بل ينبغي عليَّ الذهاب إلى كندا، ... إلخ. وعليه فإن علي أن أتذكر ظروفي وأوضاعي في العالم كله. وفي حالة "فونس" أعتقد أن الرجل الذي ينوء تحت وطأة العديد من الذكريات لا يهنأ بأي نوم. وعلى النحو المشار إليه فكرت فيه باعتباره في نهاية الأمر ميتًا تحت ثقل ذكرياته. لو تتذكر، وقت وفاته كان في ريعان الشباب، ولديه العديد والعديد من الذكريات التي كان عاجزًا بسببها عن التصريح بها أو بغيرها على الملأ، ثم أصيب بالانهيار التام.
دون بيل: القصة الأخرى كانت "الألف".
بورخِس: حسنًا في "الألف" كان عندي فكرتان في ذهني، الأولى كانت الفكرة القديمة عن العالم الصغير (الميكروكوزم). الفكرة التي تقول بأن العالم بأكمله، الكون كله، عالم الأشياء الخارجية (الظواهر)، قد يكون وفقًا لما نعرفه، مختصرًا في أو محصورًا ضمن نطاق مكاني صغير جدًا. لذلك سيكون لدينا، على سبيل المثال، دائرة صغيرة مشعة بمكان ما في منزل معتم في بيونس أيرس! وهناك يمكن العثور على الكون برمته، وبناء عليه ستجد ألفًا آخر، وهكذا، إلى ما لا نهاية. وعندئذٍ تولدت لدي فكرة أخرى فكرت في رجل يتمتع بخاصية تتيح له الاطلاع على الكون كله ولا يفعل بها شيئًا سوى استخدام هذا الامتياز في كتابة قصيدة تافهة. وهكذا نسج هذا العنصران معًا حبكة القصة.
*** *** ***
دون بيل: في واحدة من قصصك تتحدث عن رجل يحلم أنه كان فراشة، وأنت تتساءل، أكان حقًا رجلًا يحلم بأنه كان فراشة، أم أنه كان فراشة تحلم بأنها كانت رجلًا؟
بورخس: كنت أتمنى من الله أن أكون أنا مبتكرها فقد حصلت عليها من الصوفي الصيني "تشوانج تزو"، وقرأتها سنة 1915 في كتاب يدعى "شوانج زو: الصوفي، والفيلسوف الأخلاقي والمصلح الاجتماعي" أعتقد أن هذا الكتاب يعطينا فكرة عن كيف نعيش الحياة مثل الحلم، إنه أفضل بكثير من شكسبير -على سبيل المثال، "نحن فحسب المادة التي تصنع منها الأحلام"- ولأن ذلك في النهاية، تصريح عمومي شمولي؛ فإنه في هذه الحالة، تقترح الفراشة نوعًا من حالمية الحياة -أيضًا الفراشة قصيرة العمر جدًا. أعتقد أنه مثال رائع.
دون بيل: أنا متحير بسبب اقتباسك للمصادر. أحيانًا تكون اقتباسات موثوقًا فيها، لكن غالبًا ما تبدو مختلقة، مصنوعة بيديك. هذا يضلل القارئ لأنه لن يعرف أبدًا أيها يصدق.
بورخس: حسنًا، اسمع سأعطيك كلمة شرف أن أكون أمينًا خلال هذه المحادثة، وبعد ذلك أيضًا. لن أخترع مؤلفين، لن أسرف ف استخدام الاقتباسات الزائفة، سأبذل أفضل ما في وسعي للالتزام بهذا الوعي الجدي الذي أعطيه لك.
دون بيل: أود الآن أن ألقي عليك مقتطفًا. من قصتك "بحث ابن رشد". .
بورخس: أتذكر هذه القصة – حول عربي ذكي جدًا غير قادر على اكتشاف ما قصده أرسطو بالتراجيديا. ورغم كونه رجلًا ألمعيًا جدًا، إلا أنه مفتقر للحقائق الأساسية التي يحتاجها للإجابة عن بحثه.
دون بيل: حسنًا، هذا يستدعي المقتطف: "أعتقد أن ابن رشد، الذي جاهد ليتخيل الدراما دون أن يخامره أدنى إدراك لما هو المسرح، لم يكن أكثر عبثية مني أنا الذي أجاهد لأتخيل من هو ابن رشد".
بورخس: كنت أجمع قصة من بعض فتات المعلومات ليس إلا. وفي النهاية، ربما بعد أن اعتقدت أنني خدعت القارئ ليصدق القصة، عندئذٍ قلت: "انظر، ليس عليك أن تصدقني، لأنني أعرف القليل جدًا عن ابن رشد، وهذه القصة كذب صريح من الألف إلى الياء" لكن كل القصص زائفة بطبيعة الحال، لأنه حتى لو كتبت عن جاري الملاصق لي مباشرة، فستكون قصة زائفة لأنني في النهاية لست هذا الجار.
المقاطع من أحد حوارات كتاب:
مكان تغمره الخصوصية: حوارات مع ساراماجو، بورخس، كورتاثر، بولز وأوستر
ترجمة وتقديم: محمد هاشم عبد السلام
سلسلة آفاق عالمية، 52
الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة
2006
سلسلة آفاق عالمية، 52
الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة
2006
تعليقات
إرسال تعليق
أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء