خطايا صغيرة




أذكر أنني قرأت منذ سنين قصة من أكثر قصص تشيكوف تميزًا، قصة لا أستطيع أن أجدها الآن، ولكنها لا بد أن تكون قصة مبكرة [...] في أحد الليالي المطيرة ذهب شاب لزيارة عشيقته. وهي امرأة متزوجة غالبًا ما يتغيب زوجها، وبعد أن جعل التاكسي ينصرف يفتح له الزوج، مما يرعبه، ويقدم بعض الاعتذارات، ويقف في الخارج بائسًا تحت المطر ممسكًا بباقة الزهور التي أحضرها. وأخيرًا، ولكي يحتمي من المطر، تقدم إلى الباب مرة أخرى متظاهرًا بأنه رسول من تاجر الزهور وفي تلك اللحظة تخرج الزوجة من حجرة النوم، وتصيح قائلة أنها كانت في انتظاره. وبعد أن يقوم بزيارته يخرج من جديد مارًا بالزوج، وهو في حالة تزيد عن حرجة في أي وقت آخر. 

لكأننا بالنسبة إلى ثلاثة أرباع القصة نقرأ بوكاشو أو موباسان، وننتظر بسرور بالغ الخدعة التي سيتغلب بها العاشق أو العشيقة على الزوج المخدوع الغيور. ولكن كأنما ألقى تشيكوف فجأة بيده فيها ورفض أن يستمر في اللعب. لا، إن الزوج ليس غيورًا، والزوجة ليست محرجة. إن العاشق هو الذي ينصرف ببرغوث في أذنه لأنه رجل عادي وساذج، حقًا إنه لم ينظر أبدًا إلى الخيانة الزوجية بهذه الطريقة. إن تشيكوف لم يهاجم الخيانة الزوجية أبدًا. إن ما فيه من الرومانتيكية أكثر بكثير من أن يفعل ذلك. وهو يعلم أن الخيانة الزوجية ربما تتطلب صفات خيرة عظيمة من الشجاعة والإخلاص. ولكنه لا يحب التزييف، ولا يحب اللامبالاة. ويبدو أنه يشير في هذه القصة إلى أن الزوجة امرأة رديئة، ولكن السبب في ذلك لم يكن ليقول به أي داعية أخلاقي قبله، ذلك السبب هو أنها لا تبالي. وتكنيك القصة كما أتذكرها غير محكم، وغير مؤكد، ولكن الموضوع نفسه سيصبح من الموضوعات الأساسية عند تشيكوف حتى النهاية.


فبالتدريج بدأ عمله كله يتغير تحت ضغط فكرتين متسلطتين: تسلط فكرة الإثم الصغير كنقيض للإثم اللكبير، وتسلط فكرة التفرد الإنساني. وظهر عنده مقياس جديد للخير، ومعه جماعة مغمورة جديدة من الأطباء والمدرسين، وأحيانًا من القسس، ويمثل المدرسون والأطباء قطبي رؤية تشيكوف للمستقبل، فالأطباء يستطيعون أن يخلصونا من كابوس الألم والمعاناه التي تفرضها الطبيعة على الإنسان، ويستطيع المدرسون أن يساعدونا على النهوض من ليل الخرافات والجهل. وكانت الطائفتان كلتاهما في مجتمع روسيا القيصرية نصف البربري مهضومة الأجر بوحشية، أو مستغلة بشكل يدعو إلى الخجل. 
[...]
ولكن الهدف واضح في "مبارزة"، ويصبح أشد وضوحًا حين ينضج فن تشيكوف، فنحن غير ملعونين بسبب ذنوبنا الكبيرة التي تتطلب شجاعة واحترامًا، ولكن بسبب ذنوبنا الصغيرة التي يمكن بسهولة أكثر أن نخفيها عن أنفسنا، وأن نقترفها مائة مرة في اليوم حتى تستعبدنا كما يستعبدنا الكحول أو المخدرات. وبسبب هذه الذنوب، وبسبب تسامحنا المتساهل معها، نخلق لأنفسنا شخصية مزيفة، شخصية تعتمد على الذنوب الكبيرة التي تفادينا اقترافها، متجاهلين كلية شخصيتنا نفسها التي تكونت حول الذنوب الصغيرة التي لا يتعرف عليها، من الأنانية والطبع الحاد، وعدم الصدق، وعدم الولاء، وليست هذه هي الأخلاق كما قد يدركها أي إنسان من جين أوستن إلى ترولوب. 



يسيطر موضوع الشخصية المزيفة على أعمال تشيكوف الأخيرة، ويبدو أنه هو نفسه كانت قد تملكته هذه الفكرة. وقد وصف جوركي في المقالة الجميلة التي كتبها عن صديقه المتوفي حيلة تشيكوف في السماح للناس أن يتكلموا بشخصياتهم المفتعلة فترة، وعندئذ يقاطعهم بسؤال يهدف إلى إظهار الشخصية الحقيقية. زاره مرة ثلاث نسوة، وأخذن يتحدثن بجدية عن الحرب بين اليونان والأتراك، ذلك الموضوع الذي لم يكن يعلمن عنه شيئًا، حتى سأل تشيكوف سؤالًا يتعلق بصنع الحلوى فبدا أنهن كن فيه خبيرات، وفي مناسبة أخرى بدأ مدرس يزوره في بعض الهذر والمدعى، وبعد أن استمع تشيكوف إلى شطحاته ألقى سؤالًا واحدًا شائكًا حول مدرس آخر في الحي يضرب التلاميذ. وحينئذٍ أصبح المدرس، في دفاعه عن زميله القلق المثقل بالعمل، كما هو عليه فعلا في الحياة، ذكيًا وإنسانيًا ورجلًا ممتازًا. ولم يضغط تشيكوف في نقده للناس مطلقًا على الأشياء الواضحة الخطيرة، قال عن صحفي معين: "إنه شخص موهوب جدًا، كتاباته دائمًا عالية وإنسانية .. حلوة، إنه يدعو زوجته "يا حمقاء أمام الناس". وقال في آخر: "إنه يعرف كل شيء إنه يقرأ كثيرًا، لقد أخذ ثلاثة من كتبي ولم يعدها أبدًا". والإنسان يلاحظ عنده دائمًا الآثام الصغيرة، والمادة الأولية للشخصية المزيفة. 
[...]
ولم يتوقف تشيكوف عن تأكيد أهمية الإثم الصغير، ولكنه بدا كثيرًا وكأنه يقول كلمة طيبة في حق الإثم الكبير، الإثم الذي يتطلب شخصية وثباتًا في الهدف، وكأنما هذا الرجل القدسي الذي يعظنا طول حياته أن نكون مجتهدين، وأن نحترم الأطباء والمدرسين، وأن نعتبر أقربائنا وأصدقائنا، كأنما كان يضيف في يأس: "ولكن إذا لم يجعلكم هذا تحبون الحياة أكثر، إذن كونوا بحق الله سيئين". وفي قصة "عن الحب"، وهي واحدة من ثلاثة قصص رائعة من سنة 1898 يبدو مدافعًا عن الإثم الكبير إذا ثبت حقًا أنه الطريقة الوحيدة إلى التخلص من وجود غير محتمل. 


مقطع من: 


الصوت المنفرد: مقالات في القصة القصيرة
فرانك أوكونور
ترجمة: محمود الربيعي
القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993

تعليقات

  1. الحتة دي عبقرية!
    "فنحن غير ملعونين بسبب ذنوبنا الكبيرة التي تتطلب شجاعة واحترامًا، ولكن بسبب ذنوبنا الصغيرة التي يمكن بسهولة أكثر أن نخفيها عن أنفسنا، وأن نقترفها مائة مرة في اليوم حتى تستعبدنا كما يستعبدنا الكحول أو المخدرات. وبسبب هذه الذنوب، وبسبب تسامحنا المتساهل معها، نخلق لأنفسنا شخصية مزيفة، شخصية تعتمد على الذنوب الكبيرة التي تفادينا اقترافها، متجاهلين كلية شخصيتنا نفسها التي تكونت حول الذنوب الصغيرة التي لا يتعرف عليها، من الأنانية والطبع الحاد، وعدم الصدق، وعدم الولاء، وليست هذه هي الأخلاق كما قد يدركها أي إنسان من جين أوستن إلى ترولوب."

    ردحذف
    الردود
    1. بالفعل، نظرة تشيكوف هنا مثيرة للاهتمام، وملهمة أيضًا.

      حذف

إرسال تعليق

أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

ما هو الفن الطليعي؟ (Avant Garde)

فن الكم = Quantum art

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات