إنها تأسر عقلك

      عرض مثير للاهتمام في جريدة (The New York review of books) يتناول فكرة الندرة، فكرة الندرة من الأفكار الأساسية في الاقتصاد، الاقتصاد نفسه يتم تعريفه بأنه العلم الذي يتعامل مع الموارد النادرة. العرض لكتاب: “الندرة: لماذا يعني كثيرًا جدًا امتلاك القليل جدًا" للمؤلفين: سندهيل مالينيثور و إلدار شافير.

Scarcity: Why Having Too Little Means So Much
by Sendhil Mullainathan and Eldar Shafir
Times Books, 288 pp.
 
      الكتاب يتناول فكرة الندرة، بمفهوم أوسع، مبينًا علاقتها بوعي الإنسان وطريقة إدراكه للعالم. كأي من الأمور للندرة ميزاتها وعيوبها. أحيانًا هي تشحذ العقل أكثر للنظر إلى المشكلة، لكنها في نفس الوقت تجهد العقل بحيث يكون أقل صفاءً وأكثر عرضه للتوجيه والعصبية واتخاذ القرارات الخاطئة في أمور أخرى. دون مقدمات إليكم ترجمة الجزء الأول من المقال، الذي ترددت بين ترجمته كاملا أو الاكتفاء بترجمة مقتطفات منه، لكني ملت إلى ترجمته كاملا، وسأنشر ترجمة الجزء الثاني هنا أيضًا في حال وجدت اهتمامًا بهذا الجزء.
  
 
(إنها تأسر عقلك)
عرض: Cass R. Sunstein
ترجمة: أحمد ع. الحضري
  
غلاف الكتاب
     هناك الكثير من الرطانة البغيضة في خطاب الحكومة الاتحادية. يسمون المنتج الذي يتولد عن نشاطٍ ما "قابل للتسليم" (the deliverable). المهمة التي تلي الاجتماع تسمى "التكليف" (do-out). طلب نشاط أو عمل ما يوصف بأنه "الالتماس" (the ask). لو أن شخصًا ما يحتاج إلى إكمال مناقشة مع زميل، سيعده بأن "يجتمعوا لاحقًا" (circle back). لو أن مشروعًا يحتاج لأن يهجر أو يتم إيقافه مؤقتًا نتيجة للمنافسة في الطلب على وقت ومجهود الأفراد، ستوصف المشكلة بأنها في "سعة النطاق" "الباندويدث" (bandwidth). بالطبع مثل هذه المصطلحات يمكن أن توجد في عدد من الأماكن الأخرى - بما فيها الشركات – لكنها تستخدم باعتيادية خاصة في العاصمة واشنطن.
  

      بين عدة مصطلحات غير محبوبة، يعد "باندويدث" هو الأكثر إفادة والأكثر لفتًا للاهتمام. الفكرة المركزية هي أن الموظفين العموميين لديهم قدرة التركيز على وتعزيز وتنفيذ عدد محدود من إجمالي العناصر الموجودة في عالم الأفكار الجيدة. الباندويدث محدود، جزئيًا لأسباب سياسية. في أي فترة معينة، قد لا يكون أعضاء الكونجرس، وموظفو الجانب التنفيذي، وحتى الجمهور العام نفسه على استعداد لمساندة أكثر من عدد صغير من المقترحات المقدمة. لكن جانب كبير من المشكلة يتمثل في محدودية الوقت والتركيز. قد يبدو إصلاحٌ ما عند تقديمه ممتازًا، وقد يكون قادرًا حتى على جذب دعم سياسي معقول، لكن عقول الأشخاص المنوطة بهم متابعته مشغولة، ولا يملكون الوقت للتعرف على هذا الإصلاح، وبحث مزاياه. داخل الحكومة، تفشل بعض الأفكار الجيدة في أن تحرز تقدمًا، ليس نتيجة لوجود أي معارضة لها، لكن بسبب أن النظام يفتقر إلى السعة الكافية (bandwidth) التي تسمح بفحصها.
  
     يركز الاقتصاديون على مشكلة الندرة -على كيفية تخصيص الناس لمواردهم (بما فيها الوقت والمال) في ظل وجود كثير من المتطلبات المتنافسة. في كتابهما الكاشف بشكل خاص قام المتخصص في الاقتصاد السلوكي سندهيل مالينيثور والمتخصص في علم النفس المعرفي إلدار شافير، ببحث أمر مختلف تمامًا، وهو الإحساس بالندرة، وما يترتب على هذا الإحساس من النواحي النفسية والسلوكية. هما يعلمان أن الإحساس بالندرة يختلف باختلاف التجارب، وأن الأشخاص قد يشعرون بالفقر حين يتعلق الأمر بالنقود، أو بالوقت، أو بالعلاقات مع الآخرين.


      لكن الادعاء اللافت – وهو ادعاءٌ مبنيٌ على بحوث تجريبية - يتمثل في أنه عبر كل هذه الأنواع المختلفة يبقى للإحساس بالندرة نفس الآثار تمامًا. يضع الناس في ما يشبه النفق المعرفي، مقيدًا ما يستطيعون رؤيته. يستنزف قدرتهم على التحكم الذاتي. يجعلهم أكثر اندفاعًا وأحيانًا أغبياء إلى حدٍ ما. ما نعده عادةً جزءًا من طبيعة الناس الأساسية – كعدم القدرة على التعلم، والميل للغضب أو انعدام الصبر – قد يكون ناتجًا عن الشعور بالندرة. لو أن أيًا منا وضع في ظروف مماثلة قد ننتهي بشخصية كشخصياتهم. المشكلة المتصاعدة تتمثل في أن الندرة تخلق المزيد من الندرة. إنها تخلق فخها الخاص.

  
      لأنهم يفتقدون إلى المال، لابد أن يركز الفقراء بشكل مكثف على العواقب الاقتصادية للنفقات التي يعدها الأغنياء أمرًا تافهًا ولا يستحق القلق. هؤلاء الذين لا يملكون الكثير من الوقت مجبرين على ادخار الدقائق، وقد تكون لديهم مشكلة في التخطيط بعيد المدى. فقراء المال، وفقراء الوقت لديهم الكثير من الأمور المشتركة مع الأشخاص الذين يشعرون بالوحدة، هؤلاء الذين تعدُّ علاقاتهم مع الآخرين نادرة. حين يناضل الناس ضد الندرة، تصيرُ عقولهم منهمكة بشكل مكثف – أو حتى مستلبة بالكاملة – في ما يفتقدونه.
 
     يقدم مالينيثور وشافير مثالا توضيحيًا مروعًا إلى حدٍ ما. مع اقتراب نهاية الحرب العالمية الثانية، عرف الحلفاء أنهم سيجدون عددًا كبيرًا من الأوربيين على حافة الموت جوعًا، وكانوا بحاجة لأن يعرفوا بشكل محدد كيف لهم أن يبدأوا في إطعام من يقومون بتحريرهم. هل تعد الوجبات الكاملة فكرة حسنة؟ أم أن الأفضل أن يبدأوا بكميات قليلة؟ للإجابة على هذه الأسئلة انغمس باحثون بجامعة مينيسوتا في تجربة على متطوعين أصحاء أثرياء تم إنقاص سعراتهم الحرارية إلى الدرجة التي تسبق مباشرة المرحلة التي ينتج عنها ضررٌ دائم. أكثر الاكتشافات إذهالا كان نفسيًا. تحول الرجال إلى أكثر من مجرد جوعى، صاروا يركزون بالكامل على الطعام.  
      
     تطورت أشكال من الهوس بكتب الطهي وقوائم الطعام والمطاعم المحلية. بعض الرجال قد يقضون ساعات في مقارنة أسعار الفاكهة والخضروات بين جريدة ما وأخرى. خطط البعض للاتجاه إلى العمل في الزراعة. حلموا بالعمل كأصحاب مطاعم.... ووقت الذهاب للأفلام فقط مشاهد الطعام أثارت انتباههم.
    
     مشارك في الدراسة وصف التجربة بالمروعة، بشكل أكبر ليس "نتيجة للمشقة الجسدية، لكن لأنها جعلت الطعام أهم ما في حياة المرء … صار الطعام الشيء المركزي والوحيد الموجود حقيقة في حياة المرء.” بالنسة لمالينيثور وشافير (Mullainathan and Shafir). النقطة المركزية هي أن الندرة تسجن العقل. 
     
     إليكم مثالٌ أقل ترويعًا. طلب باحثون من أشخاص النظر إلى شاشة تعرض كلمات تمر سريعًا من خلالها. (1/30 من الثانية) وذكر ما إذا كانوا قادرين على التعرف على هذه الكلمات. الكلمات تضمنت كلمات مثل (RAKE و TAKE و CAKE) تمت دعوة مشاركين للقدوم للمعمل ثلاث أو أربع ساعات قبل بدء التجربة، طُلب من بعضهم الخروج وتناول الغذاء خلال هذا الوقت، بينما لم يأكل الآخرون أي شيء. بشكل عام، المشاركون الجوعى أدوا بنفس جودة المشاركين الذين تناولوا الطعام. لكنهم أدوا بشكل أفضل بكثير في الكلمات التي لها علاقة بالطعام. حين ظهرت كلمة كعك على الشاشة تعرفوا عليها، على الرغم من أنها أفلتت من انتباه الآخرين الذين تناولوا الطعام. الأهم أنهم رأوها بشكل غير واعي لا بتمعن؛ كان مرور الكلمة أسرع بكثير من أن يسمح بأي شكل من التحكم الواعي. (بالنسبة للأشخاص الظامئين يجري نفس الأمر مع كلمات مثل مياة)
    
     أمرٌ مشابه يجري مع كل أنواع الندرة، الأشخاص الذين يحسون بالوحدة لا يبلون أفضل من الآخرين في تذكر ما قد قرأوه لكنهم يبرزون في قدرتهم على استعادة أجزاء السرد التي تضمنت تفاعلا بين الأشخاص. وبشكل ملحوظ يقدر الأطفال الفقراء حجم القطع النقدية الكبيرة (الأرباع والأنصاف) بشكل أكبر من حجمها الحقيقي، واضحٌ أن السبب يرجع إلى أنها تلوح لهم أكبر. في المطاعم والمطارات، يميل الأفراد الذين يمرون بطلاق إلى التنبه بشكل أكبر إلى حضور الأزواج والعائلات.
    
     ركز مالينيثور وشافير على إمكانية أن تكون الندرة ذات فوائد مميزة، ببساطة لأنها تركز العقل. لو أنك تواجه ندرة، قد تنتهي في ما يشبه النفق النفسي، وقد يصير لهذا التركيز أثرًا مفيدًا. يؤدي الناس أفضل عادة في مواجهة اقتراب الموعد النهائي، ليس فقط بسرعة أكبر، لكن أيضًا بشكل أكثر إبداعًا. في كتابه عن وستون تشرشل، اقتبس ماكس هاستينجس مقولة الدبلوماسي لورد دابرمون (Lord D’Abernon) " يعمل عقل الرجل الإنجليزي بشكل أفضل حين يقترب من أن يكون متأخرًا أكثر من اللازم." دراسات حول الاجتماعات تقرر أنه فقط حينما يغدو الوقت قصيرًا يبدأ الناس في إحراز تقدم. (درس لكل أشكال المؤسسات، للنظر في فكرة اقتطاع وقت الاجتماعات للنصف). بعد رحلة للسوبر ماركت، معظم الناس لا يذكرون كم أنفقوا بالضبط على أشياء بعينها، لكن الفقراء يذكرون.
     
     وجد علماء النفس وعلماء الاقتصاد السلوكي أنه فيما يتعلق بالنقود، يقع معظم الناس فيما يعتبره علماء الاقتصاد سلسلة من الأخطاء المعرفية. على سبيل المثال، معظمنا يقدر قيمة تذكرة الحدث الرياضي، على حسب المبلغ الذي دفعناه فيها، بدلا من تقديرها وفقًا لمقدار النقود التي سنجنيها لو أننا بعناها في السوق (وهو المقياس الصحيح من وجهة نظر اقتصادية). وبتركيزهم المكثف على وضعهم الاقتصادي، فإن الفقراء هم أقل احتمالا بكثير للوقوع في مثل هذا الخطأ.
   

     الجانب السلبي هو أنها باحتلالها العقل، فإن الندرة يمكن أن تمنع الناس من الاعتناء بالأمور الأخرى. وإن كان العقل ممتلئًا، سيقضي وقتًا صعبًا في محاولة استيعاب مادة جديدة. حين درس طلاب العام السادس بالقرب من خط السكة الحديدية، تعلموا أقل كثيرًا، ليصبحوا في النهاية متخلفين بعام كام عن أقرانهم. قام علماء الاجتماع بالعديد من التجارب التي لها علاقة ب"الحِمل المعرفي". في مثل هذه التجارب، يطلبون من أشخاص حل معضلات معقدة وبعدها يختبرون إن كان للجهد الذي تم بذله أثرٌ على سلوكهم في الأمور الأخرى، على سبيل المثال بأن يقودوهم إلى انتقاء كعك الشكولاته بدلا من الفواكه. النتيجة القياسية كانت أن تحكمهم الذاتي قد تقلص؛ من الأكثر احتمالا أن يذهبوا إلى الكعك. يظن مالينيثور وشافير أن الندرة تعمل بنفس الشكل. فهي تشكلُ عبءًا كبيرًا يضعف قدرة الأشخاص على الأداء بشكل جيد.
_________


اقرأ أيضًا: إنها تأسر عقلك (2)

تعليقات

  1. المقال ممتع جدا ...اللي جذبنى انه بيوضح قضية الندرة بشكل ممتع
    وكنت قريت كتاب من اصدارات عالم المعرفة
    بعنوان ( صناعة الجوع وخرافة الندرة) بيوضح نفس الفكرة
    بالتوفيق ديما برد ��

    ردحذف
    الردود
    1. ياا قسمة .. ممتن لك على الاهتمام، سعيدٌ أن أثار المقال إعجابك، ومبتهج بمتابعتك لبرد ... شكرًا لك حقًا :)

      حذف

إرسال تعليق

أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

النوافذ

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات