مقاطع من كتاب: الثقافة الجماهيرية والحداثة في مصر


غلاف الترجمة العربية
مقاطع من كتاب:
الثقافة الجماهيرية والحداثة في مصر
وولتر أرمبرست
ترجمة محمد الشرقاوي 
الطبعة العربية 2000، الطبعة الإنجليزية: 1996



     كان مدخل غرفة حلف اليمين مغلقًا بقوة، وكان محاميو المستقبل وأسرهم يتجمهرون حول الباب بجنون. وكان الحراس يسمحون لجماعات صغيرة بحفر طريقها إلى الداخل، ... ولكن الفتاة وأمها كانتا غير مستعدتين للدخول في معركة لتكونا ضمن أوائل الناس في الغرفة. واستسلمنا في النهاية، وذهبنا لنتناول كوبا من الشاي.
 
     انزعجت الفتاة التي كان من المفروض أن تحتفل بانتصارها المهني، وقالت إن المسألة لا تعدو كونها محاولة الصعود إلى الأوتوبيس المزدحم وأنهم يعاملوننا ك"شوية فلاحين". وأضافت أنه دون أن ندري فسوف يخلعون أحزمتهم ويضربوننا. لقد ظنت الفتاة المكان محترمًا، ولكنها لم تجد سوى الفوضى. وبينما كنا نتناول الشاي، همست البنت لأمها: "زحمة يا دنيا زحمة، زحمة وتاهوا الحبايب". ابتسمت الأم وأجابت: "زحمة ولا عادش رحمة". كنت أعرف السطر التالي من الأغنية فأكملتها لهما: "مولد وصاحبه غايب."
 
     ... كان هذا سياقًا لاستلهام سريع ومختصر لأغنية شعبية. فالناس من الطبقة المتوسطة يشعرون بالإهانة على يد المؤسسة التي كان ينبغي أن تسهل تصاعدهم في السلم الاجتماعي. ويستجيبون لهذا الموقف بترديد كلمات أغنية يستنكرها نمط الناس الذين يسيطرون على المؤسسات من أمثال نقابة المحامي، ناهيك عن استنكار وسائل الإعلام الرسمية. 
 
     .... ومن هنا جاء ظهور الثقافة الشعبية غير المنتمية لأحمد عدوية وعادل إمام. ويصبح ل: "زحمة يا دنيا" رونقها الخاص جدًا إذا ما كانت العملية الرمزية لدخول المرء في الطبقة المتوسطة لا تشبه إلا محاولة الصعود إلى أوتوبيس مزدحم. 
 
**** ****

     فبقدر ما كانت "فضة المعداوي" جاهلة ومسطحة وفاسدة ومفسدة، كان الدكتور "مفيد أبو الغار" متعلمًا ومثقفًا واعيًا بالعالم وغير قابل للإفساد.  عبقرية المخرج في اختيار الأدوار تكمن في إدراك أن هذا التناقض المرجو يمكن إيضاحه وكشفه بشكل أفضل عن طريق وجود ممثلة تستطيع لعب الدور بشكل كوميدي. لم يرد أن يجعل "فضة المعداوي" شخصية يكرهها الناس بقدر ما أراد أن يجعلها شخصية يحب الناس أن يكرهونها كما كان الحال مع شخصية "جي آر" وهو شرير المسلسل الأمريكي "دلس" والذي جعل من المسلسل شيئًا أكثر من مجرد ميلودراما. وجد المخرج ضالته في سناء جميل التي لعبت دور "فضة" وسرقت الأضواء. فقد كان أداء سناء جميل أكثر من أي شيء آخر في "الراية البيضاء"، هو الذي جعل الشوارع فارغة من الناس الذين تجمهروا لمشاهدة المسلسل وقت عرضه.
...
     وكان الكثير من أدوار سناء جميل كوميديًا، وهو ما كان يبحث عنه المخرج محمد فاضل فترك حيويتها الطبيعية – بحكمته وحسن تقديره – تظهر في العمل، وبالفعل شد أداؤها الجمهور لدرجة أن بعض الناس قالوا أنها نجحت بشكل زائد لدرجة أنها صرفت الأنظار عما اعتقدوا أن يكون الرسالة الأخلاقية التي يقدمها العمل الدرامي. ولقد بين ذلك لي أحد الشباب، من الإسلاميين المتشددين، وكان ميالا للسخرية، عندما قلت إنه من الممكن أن تكون "فضة" محبوبة أكير من الدكتور "مفيد". ورد الشاب متسائلا عما إذا كنت أظن أن المصريين يحبون ما تفعله "فضة". ثم قال بعد ذلك إنهم لا يحبون أن يروا تراثهم يتهدم، وأن يستغله الأغنياء كما يستغلون الفقراء. وأكد لي الشاب بذلك أن البعض يدرك أن "الراية البيضاء" قدمت رؤية واضحة للمدلولات الأخلاقية التي تقدمها الأحداث. أو لعله أراد أن يوضح ذلك في إطار الحديث مع الرجل الأجنبي الذي قد لا يفهم أحداث المسلسل، مع ذلك جعل الناس يضحكون، وربما يرجع هذا الضحك للغموض والتعقيد في العلاقة بين الأشخاص.
 
     الرسالة الأخلاقية هي استراتيجية وعظ، ولكن قبولها وتجلياتها  محدود بسياقات معينة؛ فالكثير من الناس ينظرون للفرق الكبير بين "فضة" الفاسدة والشخصية الأخلاقية للدكتور "مفيد"على أنه فارق يتجلى في لزمتها الكلامية. ولم يكن من الضروري أن يحصل الدكتور "مفيد" على أحسن نتائج تلك المقارنة بين الشخصين؛ فكما يقول أناس كثيرون، فإن "فضة" تتكلم لغة يفهمها الناس، بينما يكون الدكتور "مفيد" مترفعًا ومثاليًا بشكل زائد من الناحية الأخلاقية واللغوية أيضًا، مما يجعل الناس غير مهتمين نسبيًا. ويعتقد البعض أن الناس أحبت "فضة المعداوي" فعلا. من المفروض أن تكون اللغة السليمة التي يتكلمها الدكتور "مفيد" والتي تحمل لكنة فرنسية – كما قال البعض- بالمقارنة باللغة الجميلة الغنية التي تتكلمها "فضه" رمز ومستودع للقيمة التاريخية لكل المصريين، ولكن المحتوم أن يكون وضع الدكتور "مفيد" محددًا - بهذا النمط اللغوي المستخدم- بجماعة معينة لا يتعداها. والصورة التي يقدمها "مفيد" تخضع للمقاييس بشكل عام: في السياق العام، وفي مواجهة العالم الغربي، يظهر بشكل جيد فالمصريون بكل أصنافهم يرونه يمثل مصر  بشكل مناسب أمام العالم كله. ولكن فيما يختص بالإنسان المصري العادي الذي يحاول أن يقضي حاجته بمبلغ 100 جنيه في الشهر، فإن الدكتور "مفيد" يمثل شخصية إشكالية؛ لإنه ليس واحدًا من هؤلاء. فالشخصية محترمة بسبب قيمتها الأخلاقية لدى المشاهدين أكثر من كونها محبوبة.
 
**** ****

     بدأ عبد الوهاب العمل في الكلوب المصري عام 1917، في عمر السابعة إذا افترضنا أنه ولد عام 1910، وكان واجبه الغناء بين فصول المسرحيات بأجر خمسة قروش في الليلة، وهذا ما فعله تحت اسم محمد البغداد، لسوء الحظ لم يكن هذا الاسم المستعار كافيًا ليعمي عائلته عن اكتشاف عمله هذا، فقد حضر أخوه الأكبر حسن للمسرح في ليلة من الليالي وأخذه للبيت. واستجاب محمد عبد الوهاب  لمحاولات التأديب تلك بالهرب من البيت عام 1917 ليغني في السيرك حيث كان ينام مع الحيوانات، ولم تعجبه تلك الحياة ، وبتدخل أحد الأقارب، عاد عبد الوهاب لمنزل العائلة.

     وفي هذا الوقت حصل عبد الوهاب على تصريح على مضض من والده لاستئناف عمله الفني. وبدأ يغني في فرقة عبد الرحمن رشدي في دور بنت صغيرة داخل المسرحيات، وبين الفصول بجاكيت سموكن. وتخبرنا السير مرة أخرى أن الولد الصغير كان ذا شأن عظيم في المستقبل، فقد حضر أحمد شوقي عرض المسرحية في ليلة من الليالي وسمع عبد الوهاب يغني؛ والذي لفت انتباه شوقي إلى الولد لم يكن صوته الجميل فقط، ولكن شبابه أيضًا. ولما كان شوقي رجلا تقدميا، فقد ثار لرؤية الطفل الصغير على المسرح، ولذلك فقط أرسل صديقه رسل باشا الحكمدار البريطاني السابق ليتحدث مع عبد الرحمن رشدي في الأمر، وكانت النتيجة أن عبد الوهاب أجبر على ترك الفرقة.

 **** ****

     كانت المقابلة بين محمد أفندي ابن عبد الوهاب عيسى مؤذن المسجد وشوقي بيك الرجل الأرستقراطي مقابلة مهمة جدًا. كانت مقابلة بين محمد أفندي صبي الترزي وشوقي بيك الذي أرسله الخديوي ليتعلم القانون والأدب في فرنسا. وكانت أيضًا مقابلة بين محمد أفندي الذي بدأ مشروعًا فنيًا ليكمل فيه عمل سيد درويش فنان الشعب الذي كان يجري وراء الأطفال في الشوارع ليتعلم أغنياتهم وأحمد شوقي أمير الشعراء وشاعر الأمير عباس الثاني. لقد كانت تلك المقابلة رمزًا على التحول الاجتماعي في المجتمع المصري؛ فابن الفقراء الذي يصعد للطبقة المتوسطة التي أرادت تقرير مصيرها في الاستقلال والدستور، ورجل هزته الحرب العالمية الأولى والنفي لأسبانيا. لقد كانت المقابلة رمزًا على خطوة تحول في التاريخ المصري والعربي، هي رمز على توفيق الحضارة والتراث الإسلامي مع الحضارة والتراث الغربي. وأحيانًا كان هذا التوفيق ينجح وأحيانًا يفشل ليصبح تلفيقًا ولكن الصبر والكفاح كانا من سمات عبد الوهاب. فقد كان واعيًا بالموسيقى الغربية ويحاول أن يتفهمها ويدرسها بشكل كامل، وحاول أن يوفق ذلك بالموسيقى الشرقية. ومن السهل جدًا أن يدرك المرء تأثير بيتهوفن أو شيكوفسكي على موسيقى عبد الوهاب في محاولاته للتعلم منهما، أو أن يدرك تأثير طرق قراءة القرآن للشيخ رفعت، وتأثير النغمات الجماهيرية المصرية على تلك الموسيقى أيضًا. لقد كان الدمج بين الموسيقى الشرقية والغربية على يد عبد الوهاب، ومجهودات شوقي في تعريفه بالموسيقى المتحضرة الرفيعة. وعلى ذلك فقد كان لشوقي تأثير على أدق تفاصيل حياة عبد الوهاب؛ لقد رآه مريضًا فأرسله للأطباء وأشرف على علاجه، ورآه غير أنيق فألبسه ملابس أنيقه واختار له أسلوب مظهره، وعلمه كيف يأكل ويشرب بطريقة حسنة، لقد علمه الاستقلال والتأنق.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

النوافذ

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات