هوية؟


بقلم: أحمد ع. الحضري



      من وحي اللحظة الراهنة في مصر، لي أن أركز على لحظتين من لحظات تطور الحضارة الغربية الحديثة. اللحظة الأولى هي لحظة الميلاد: لحظة الخروج من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، واللحظة الثانية، هي لحظة ما بعد الحربين العالميتين. اللحظة الأولى هي لحظة مراجعة وتحويل مسار، لحظة اتسمت بنقد الحاضر ومحاولة البحث عن حل بديل وكان هذا الحل هو العقل. اللحظة الثانية هي لحظة الصدمة التي سببتها مآسي الحروب العالمية، وتأثير هذا في ظهور تيارات فكرية، وفنية، وأدبية تعكس هذا وتوضح جوانب القصور التي كشفتها هذه الحروب والمشاكل الأخرى.


     يجمع هاتين اللحظتين رغم اختلاف الاتجاه فيهما فكرة أساسية هي نقد الذات، يجمعهما في رأيي أنهما أبناء للزمان والمكان والظروف، الأولى كانت توجهًا لا مفر منه في ظل غلبة مناخ معادٍ للعقل. والثانية نقد ضروري لحضارة وصلت لمرحلة معينة من تطورها واكتشفت الحاجة إلى تعديل ما في المسار. ولكن كلتا اللحظتين هي في نفس الوقت أكثر من مجرد الزمان والمكان التي ولدتا فيه. بمعنى أن أي محاولة لقصرها داخل هذه الظروف هي محاولة تعاني من ضعف في الرؤية.

     لنفترض أننا الآن في مصر في مرحلة اختيار، لنفترض أن السؤال هنا هو سؤال اختيار من متعدد؛ إذن لاخترت اللحظة الأولى على عيوبها كلحظة تستحق أن نستمدها، ونتعلم منها. لأننا الآن في العالم العربي نعيش حالة ما قبل العصر الحديث، ونحتاج إلى دفعه باتجاه العقل، والنظام، والعلم، وحقوق الإنسان، والحريات، واحترام الإنسان لأنه إنسان. نحتاج إلى دفعة إلى الاتجاه المضاد لفوضانا كي نتوازن. لو أن السؤال هو سؤال اختيار من متعدد، لرفضت استمداد اللحظة الثانية في سياقنا الحالي، لأن كثيرين ممن يرددون انتقادات الغرب لذاته، يستخدمونها فقط كتبرير لواقعنا المريض، أو كمبرر لنسخ الماضي. وهم يتناسون أن نقد الحضارة الغربية من قبل روسو ومدرسة فرانكفورت وغيرهم، هو جزء من إنجازات هذه الحضارة على المستوى الفكري. والانتقادات التي تُعرض لها وجاهتها، لكن ترديدنا لنفس هذه الانتقادات يفقدها معناها ويجعلنا تابعين بأسوأ معاني التبعية؛ أدعي أنه لا يوجد أي انتقاد عميق للحضارة الغربية هو ابن للحظة العربية أو الإسلامية الحالية، نحن في أحسن حالاتنا هنا نقف موقف المتعلم حتى في نقد الحضارة الغربية.

     المشكلة أن التيار الذي يسمي نفسه تيار الهوية، والذي يهاجم التيارات الأخرى يقول ويردد ويؤكد على معاني: الهوية، وطابعنا الأصيل، وتقاليدنا. لكنه فعليا يكرس لتبعيات: أولها تبعية فكرية، ناتجة عن نظرة رجعية للفكر، ترفض الاعتراف بأن بعض الأفكار حقيقة لا وطن لها، نعم هي بنت عصرها بمعنى أنها تكون رد فعل لأفكار ما منتشرة في المجتمع، وظروفه السياسية والاقتصادية. لكنها أيضًا بلا وطن. ونتيجة لهذه الرؤية مازال مجتمعنا متأخرًا، ينظر بعين الريبة للعلم، ينظر بعين الريبة لنظريات النسبية ونظرية الكم، ونظرية التطور. ويرفضها من منطلق التقاليد كما يتصورها لا من منطلق البحث العلمي الذي يسعى لتطوير هذه الأفكار وإكمالها وسد ثغراتها، أو حتى إحداث ثورات علمية تغير المفاهيم. ثم تلي هذه التبعية الفكرية تبعيات سياسية واقتصادية واجتماعية تحدث بشكل منطقي نتيجة للتبعية الأولى. ولعل مشهد استاد القاهرة الأخير في المؤتمر الذي عقد – كما قيل - لنصرة القضية السورية مثالًا معبرًا، فرغم أن كل صوت فيه يؤكد على الهوية، كما يراها باعتبارها تصور ما للفكرة الإسلامية السنية، إلا أنه يؤكد في طرحه هذا على التبعية للغرب أكثر من أي تيار آخر.

     أختار اللحظة الأولى إذن في حال كون السؤال هنا هو سؤال اختيار من متعدد لكنه ليس كذلك؛ ففي واقع مثالي ما، كنا سنكون الآن في مرحلة طرح أسئلة والانفتاح على الاحتمالات والأفكار المختلفة، ومحاولة اختيار الأنسب والجدل حوله بعقول مفتوحة، لا في مرحلة تطاحن التحيزات المسبقة. الهوية ليست تحيزًا لماض ما- أيًا كان- يجرنا للخلف، الهوية دائما هي تحيز للمستقبل. ليست إجابات موروثة سهلة على أسئلة هي بطبيعتها متجددة وصعبة. الهوية هي تحول دائم للإنسان الذي يعي نفسه ككائن حي غير جامد، ليس الانحياز السهل إلى ماض ما هو الحل لم يكن ولن يكون.

     مصر لها تاريخها الخاص بها، جغرافيتها المميزة، مجموعة من العناصر التي تميزها عن غيرها، لكن هذا لايعنى إمكانية وضع كتيب تعليمات جامد، يحدد طبيعة هذه الهوية في قواعد ضيقة لا يجوز تجاوزها، لأن هذا ليس دفاعًا عن الهوية بل هو فعليا خنق لهذه الهوية، لأن السكون أخا الموت، لا حياة معه.

____________

اقرأ أيضًا: الآخر مثلي


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

النوافذ

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات