سحر بلا نهاية: في مديح روايات بلا نهايات أنيقة




     رأيتُ أن هذا المقال لا يحتاج مقدمة خاصة، فهو واضح، كنت أنوي الكتابة عنه فوجدتني أترجمه، على العموم هو مقال خفيف وممتع أرجو أن تستمتعوا به، وهو مترجم من جريدة الجارديان. ويمكن الدخول إلى المقال الأصلي من هنا.

سحر بلا نهاية: في مديح روايات بلا نهايات أنيقة

بقلم: لي روركي (Lee Rourke)
ترجمة: أحمد ع. الحضري


relativity/ By M. C. Escher
     قرأت تدوينة مورجان راسل وليامز (
mogen Russell Williams') الأخيرة المعنونة (الوصول إلى نهايات سيئة: القصص التي ترفض التوقف) بقدر كبير من الاهتمام، وأعلم أنها لا تقول بأي حال أن الروايات التي تفتقر إلى نهايات جيدة ومناسبة هي بأي شكل أقل من الرواية التي تمتلك مثل هذه النهاية، لكن شيئًا ما أزعجني بشدة في رغبة وليامز (والجمهور العام حسبما أدعي) لسردنا أن يصل إلى نهاية مغلقة.
 

     الصيغة المبتذلة (بداية – وسط – نهاية) تكاد تكون هي الصيغة الشائعة في كل الروايات التجارية والأدبية التي تتزاحم على مكان فوق رفوف المكتبات. نحبُّ أن تُظْهِرَ وسائلُ الترفيهِ معناها في الحال، ولو لم تفعل هذا في البداية فلابد أن تشرح كل شيء في النهاية. وهكذا إلى ما لا نهاية. سأزعم أن هناك شيئًا شديد الأهمية تفتقده تلك الصيغة: قوة الإبهام. النهاية المغلقة تختزل تعقيدات المعنى: معنانا الخاص، المتعلق بوجودنا هنا. فما الذي تقوله هذه الرغبة في النهايات المغلقة عنا كقراء؟ لماذا نرغب في الروايات التي تقوم بعملية القراءة بدلا منا، إن جاز لي أن أعيد صياغة ألان روب جريل.


ليست الحياة مثل هذا السرد الذي يكوِّن معظم الروايات المتداولة اليوم، وليست مثل المشاهد التي تم التدريب عليها بشكل جيد التي نستمتع بها في المسرح، أو في الأفلام. الحياة أكثر تعقيدًا من هذا: فهي مليئة بالارتباكات، والطرق المسدودة، والفراغات، والشظايا غير المكتملة. هي محيرة في أوقات، تسبب الضيق، وعلى الدوام ذات نهاية مفتوحة. ليست لدينا أي طريقة حقيقية للتنبؤ بالمستقبل. فلماذا إذن ينبغي على رواياتنا أن تربط هذه الأشياء إلى بعضها، لتكون حزمة مغلفة بعناية من الإجابات الجاهزة؟ هناك شيءٌ في هذا الأمر لا يبدو صحيحًا.

أنا أقرأ الكثير من الروايات المعاصرة، وأغلبها –جيدة أو سيئة- مسكون بهذه الرغبة الواعية / غير الواعية بالوصول إلى نهاية. أشعر بهذا الحدث الغريب الذي يقع بالضبط بعد انتصاف الطريق في أغلب الروايات: تبدأ كل هذه العناصر العشوائية التي أحبها عادة في التصرف بشكل عجيب: تتوقف فجأة عن الفوران، وتبدأ في التوحد، تبدأ جميعها في الحركة في اتجاه واحد، تندفع نحو نفس النقطة بقوة كبيرة. هذا الحدث هو صنيعة المؤلف بالطبع، يدفع الفوضى تجاه النظام، والأحداث الطبيعية للتصرف بشكل غير طبيعي. يخشى المؤلف الغموض، أو بمعنى أصح يخشى خوف القارئ من الغموض، وهذا الحدث ذو الحدين يخلق قراءة متوقعة نوعًا.

فلأعطكم مثالا واضحًا لدعم وجهة نظري. هل كانت مسرحية في انتظار جودو لبيكيت ستكون أثرى لو دخل جودو فجأة إلى المسرح (تا را ررا) في نهاية المسرحية؟ بالطبع لا. فتحفة بيكيت المسرحية أقوى كثيرًا نتيجة لهذا الغياب غير المفهوم لجودو. وهل حقيقة وجود جودو أصلا من عدمه ذات أهمية حتى؟ لا. قوة المسرحية تنشأ من الغموض. هذا الحس بعدم الثبات هو الذي يدفعنا لفحص الأمور بشكل أكثر تدقيقًا. لهذا حين أجلس مع نص "في انتظار جودو"، وأمرُّ بالسخرية، والتكرار، والكآبة، والأفعال العدمية (كل هذه الأشياء غير "المعقولة")، وصولا إلى جملة فلاديمير التي يتم إغفالها عادة: "هل كنتُ نائمًا حين كان كل من سوايَ يعاني" هنا تضربني قوة الغموض فجأة. بيكيت يقدم لنا حاضر رؤيوي مستمر، كارثة حدثت بالفعل/ على وشك الحصول حيث يمكن لشئ مريع كالهولوكوست أن يحدث دون أن نلاحظه. تمامًا كما في الحياة الواقعية. فقط حين نمر بمثل هذه المنعطفات نبدأ في إدراك أن صيغة (البداية – الوسط – النهاية) غير قادرة على التعامل مع كل الحالات. فما الذي يعطينا حق استخدام مثل هذه السلطة؟

ولا يقتصر الأمر على بيكيت، دعونا نلقي نظرة على بعض من كتابنا العظماء، هؤلاء الذين كتبوا أعمالا تتعالى على الزمن بشكل حقيقي. كافكا، جويس، وولف، جاس (وليام جاس)، ديفيد فوستر ولاس، فيلا ماتاس، بيسوا وغيرهم ... هم غير متحيزين للنهايات أيضًا، أليس كذلك؟ كما أشار فيكتور شكلوفسكي: "يمكن أن تختتم الرواية دون أن يكون لها نهاية [...] لأن إنهاء رواية قد يعني معرفة المستقبل، ونحن لا نعلم المستقبل". وهو نفس السبب الذي قال من أجله ذاكري بشكل ساخر، إنه في كل مرة كتب فيها رواية تمنى لو أنه من الممكن أن يضع لها النهاية بدلا منه ذلك الرجل الذي يلمع حذاءه "

ليست مفاجأة أن معظم الروايات تفسدها النهايات المتعسفة؛ تفسدها رغبتنا الجمعية لها أن تنتهي بموضة منظمة، كي نستطيع أن نواصل حيواتنا بعد أن نغلق الكتاب (حسنًا أيها الطريق أنا أنظر إليك الآن). قال ماركس أن الرواية بنية برجوازية – بمعنى أن شكلها ذاته يعكس متطلبات الطبقة البرجوازية التي منحتها السيادة. نمسك برواياتنا كمرايا خيلاء آملين أن تعكس أحلامنا، وأوهامنا، وتطلعاتنا التحررية. بقدر ما من الرضا اللحظي بما انتهت إليه الروايات، نعيدها ونحن راضين وسعيدين. أسبوع بعدها يكون كل شيء قد تم نسيانه، اختفت الرواية السابقة من حيواتنا، ونكون قد تحركنا إلى أخرى، آملين في متعة أكبر قليلا.

لكن هذا لا يحدث مع هذه الروايات التي لا نهاية لها، الروايات المليئة بالغموض،  هذه الروايات تظل معنا. لا نستطيع أن نطردها مهما حاولنا. فهي تطاردنا، تسخر منا، تتسكع منتظرةً إيانا في الظلال، تفسد أيام عملنا، تزعجنا في نومنا، تعذبنا، تجبرنا على المشاركة وفقا لقوانينها الخاصة. بشكل مشابه لما تفعله الحياة معنا، تكشف الروايات التي لا نهاية لها الغموض الذي يخدم رغبتنا في استكشاف الأمور بأنفسنا. كما ترون، مهما كانت متعة وجود الحس المشترك التقليدي في النهايات المغلفة بإتقان، سأدعي أن قدر من الحقيقة يمكن أن يوجد في روايات يفترض أنها غير مفهومة كرواية "بعث آل فينيغان"* (Finnegans Wake) - المشهورة بأنها بلا بداية ولا نهاية- أكثر من هذا الموجود في العدد الضخم من الروايات التقليدية التي تتوق بشكل واضح إلى حبس معانى وجودنا في اهتراء البدايات- الوسط- النهايات. أقول: فليحيا الغموض.

________
* [قام الراحل طه محمد طه بترجمة الرواية تحت هذا العنوان]

تعليقات

  1. أعتقد أن موضوع الغموض، لا يُطلب لحد ذاته، وكأنما هو نوع من الاكتفاء الذي يصل لحد الشبع من النهايات التقليدية أو المغلقة من أجل ألا يُلعن الكاتب من قبل قراءّه. المسألة نسبية وتذوقية؛ فمثلا أنا لم أستطع فهم غرام سوان لبروست(البحث عن الزمن المفقود) لصعوبتها الشديدة، ولبنية الزمن المتشظية فيها..لكن يمكن أن أغيّر رأيي لو قرأتها في وقت آخر.. كما قلت المسألة نسبية.. وما يصلح لفلان لا يصلح لعلان..وما يصلح في وقت قد لا يصلح في وقت آخر.. المقال وإن كان ظريفا يا أحمد، لكن ليس عميقا، وأعتقد أنه مبتسر لحد كبير.. شكرا على ترجمته. تحياتي.

    ردحذف
  2. متفق مع كتير من كلامك يا عارف .. هو المقال ما كنتش منتظر منه يكون أعمق من كدا لإنه في النهاية منشور في صحيفة يومية غير متخصصة، بس بالنسبة لي كان مسلي، هو أكيد ما قالش أو قصد إن الغموض يقصد لذاته، هو الأفضل نبص للمقال في سياقه، كرد على مقال آخر بينتقد الغموض.. فالحوار بالرأيين بتوعة خلق حالة ممتعة... غير إني أميل شخصيا بدرجة ما نحو الغموض وأفضله في أحوال.

    ردحذف

إرسال تعليق

أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

النوافذ

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات