مقتطف من كتاب نقطة مقابل نقطة






مقتطف من كتاب نقطة مقابل نقطة/ ألدوس هكسلي؛ ترجمة نظمي لوقا.- القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب؛ 1985.



وأردفت  "إنك تبذل جهدًا كبيرًا " هذا تلطفٌ منك؛ فقال محتجًا: "من البلاهة أن تتكلمي بهذه الصورة فأنت تعلمين كم أحبك" فابتسمت وربتت خده قائلة: "نعم أعلم أنك تحبني عندما يكون لديك متسع من الوقت، وفي هذه الحالة تعرب عن حبك باللاسلكي عبر المحيط الأطلنطي" فقال " كلا ليس هذا صحيحًا" ولكنه يعلم في سريرته أنه صحيح فقد ظل طول حياته يسير وحده في خلاء خاص به ولم يسمح لأحد على الإطلاق بدخوله: لا لأمه، ولا لأصدقائه، ولا لعشيقاته. وحتى وهو يمسك بها على هذا النحو ويضمها إليه عن كثب إنما يفعل ذلك باللاسلكي كما قالت ليتصل بها عبر المحيط الأطلنطي؛ فرددت عبارته متهكمة في حنان: "هذا ليس صحيحًا. ولكنك يا عزيزي المسكين لم يكن في وسعك أن تخدع طفلًا؛ فأنت لا تدري كيف تكذب بصورة مقنعة، لأنك أمين أكثر مما ينبغي. وهذا سبب من أسباب حبي لك. فليتك تدري إلى أي حدٍ أنت شفاف"
وصمت فيليب؛ فالمناقشات من هذا القبيل التي تتناول العلاقات الشخصية تجعله على الدوام يشعر بعدم الارتياح، لأنها تهدد وحدته، تلك الوحدة التي يأسف لها بجانب من عقله (لأنه يشعر أنه معزول عن الكثير مما يود أن يجربه) بيد أن فكره لا يجد راحته إلا فيها، ففيها وحدها يشعر أنه حر وفي الأوقات العادية كان يأخذ هذه الوحدة الداخلية مأخذ التسليم كما يتقبل المرء الجو الذي يعيش فيه ولكنه عندما يتهددها شيء يشعر شعورًا أليمًا بأهميتها لديه؛ فيكافح في سبيلها، كما يكافح المختنق في سبيل الهواء، ولكنه كفاح بلا عنف، المعركة فيه معركة انطواء سلبي، معركة دفاعية. وها هو ينسحب داخل خنادق الصمت، داخل الصمت الهادئ البعيد المجامل الذي يعلم أن إلينور لن تحاول اختراقه لإدراكها عقم هذه المحاولة، وكان على حق؛ فقد نظرت إليه إلينور لحظة ثم أشاحت عنه ناظرة إلى المنظر المنبسط تحت ضوء القمر، وتوالى صمتهما ممتدين في الزمن من غير أن يتلاقيا.
ومضت بهما السيارة مخترقة بهما هذا الظلام الهندي، والهواء، الذي يكاد يكون منعشًا رطبًا في مسه وجهيهما محمل هبوبه بعبير الأزهار التي تنبت في المنطقة الحارة أحيانًا، وبرائحة النفايات والكاري واحتراق روث البقر أحيانًا أخرى.
وقالت إلينور فجأة، وقد عجزت عن المضي قدمًا في كبح خواطرها الساخطة: " ومع هذا أنت ما كنت لتستغني عني، فأين كنت عسيًا أن تصبح لو أنني تركتك ومضيت إلى شخص مستعد أن يمنحني شيئا في مقابل ما أعطيه إياه؟ أين كنت عسيًا أن تصبح؟"
وغاص سؤالها في الصمت، فلم يرد عليها فيليب. ولكن أين كان عسيًا أن يصبح؟ هكذا تساءل هو أيضًا، لأنه في عالم الاتصالات البشرية العادية اليومية كان أشبه بالأجنبي يشعر بالغربة وعدم الارتياح وسط أقرانه، ويجد صعوبة أو استحالة الدخول في اتصالات مع أي شخص سوى ممن يستطيعون التخاطب بلغته الثقافية الأصلية .. لغة الأفكار.. أما عاطفيًا فهو أجنبي و إلينور في هذا هي مترجمته وترجمانه، فإلينور بدليك مثل والدها جاءت إلى العالم ولديها موهبة الفهم الحدسي والارتياح إلى الصلات الاجتماعية فما أسرع ما تشعر أنها على سجيتها مع أي إنسان فهي تدري غرزيًا – مثل أبيها جون  العجوز نفسه – ماذا ينبغي أن يقال بالضبط لكل نمط من الأشخاص. ربما باستثناء نمط زوجها؛ فمن العسير أن يدري المرء ماذا يقول لشخصٍ لا يرد على كلامك بشيء ويجيب على الكلمة الشخصية بكلمة غير شخصية، وعن الكلمة والشعور المخصصين بتعميم ذهني، ومع ذلك فهي لحبها له تواصل في إلحاح جهودها لاستدراجه إلى الاتصال المباشر، ومع أن النتائج غير مشجعة – كالغناء وسط صم بكم وإنشاء القريض في قاعة خالية – إلا أنها واصلت الإفضاء إليه بمكنونات تفكيرها وشعورها. وكانت ثمة أحايين كان يبذل فيها قصاراه بجهد كبير كي يبادلها سلوكها نحوه بإدخالها في نطاق خصوصياته الشخصية، بيد أن إلينور – إما لأن عادة السرية جعلت من المستحيل عليه أن يصرح بمشاعره الداخلية، وإما لأن قدرته نفسها على الشعور قد ضمرت فعلا بالصمت والكبح المتواصلين – كانت تجد هذه المكاشفات النادرة مخيبة للأمل، فقدس الأقداس الذي أدخلها بعناء إليه يكاد يكون عاطلا قاعا صفصفا كمثيله الذي أدهش الغزاة في الرومان عندما انتهكوا هيكل أورشليم. ومع هذا كانت تشعر بعرفان الجميل نحو فيليب لنياته الطيبة التي برهن عليها على الأقل برغبته في إدخالها إلى حمى مشاعره الداخلية حتى ولم لم يكن هناك الشيء الكثير من الحياة العاطفية التي يمكن المشاركة  الحميمة فيها. ضرب من اللاأدرية البيرونية غير المكترثة، تخفف من غلوائها أيضًا ثوران الهوى الجسدي العنيف أحيانًا: تلك هي الحال التي جعلتها الطبيعة والطبيعة الثانية سوية بالنسبة له. وقال لإلينور عقلها إن هذا هو واقع الأمر، بيد أن عواطفها ما كانت لتقبل عمليًا ما ثبت لها نظريًا؛ فما هو حي وحساس وغير عقلي في تكوينها آذاه عدم اكتراثه وكأنه برود شخصي موجه ضدها دون سواها. ومع ذلك فمهما يكن شعورها، فهي مدركة طول الوقت أن عدم اكتراثه ليس شخصيًا، وأن هذه حاله مع كل إنسان، وأنه يحبها غاية طاقته من الحب، وأن حبه لها لم ينقص، لأنه في الواقع لم يكن في أي يوم من الأيام أعظم مما هو الآن. لعله كان أشد تلهبًا يومًاما، ولكنه لم يكن قط أغنى عاطفيًا في المكاشفات الحميمة والعطاء حتى في أشد أوقاته تلهبًا؛ بيد أن مشاعرها مع هذا تأذت، فما كان ينبغي له أن يكون كذلك. ما كان ينبغي له، لكن هكذا، وبعد شيء من الثوران ستكون قمينة بأن تهدأ وتحاول أن تحبه بتعقل ما استطاعت ذلك، مكبرة من شأن رقته وهواه المستقل الانعزالي، ومحاولاته الشاقة المتباعدة المتكاشفة العاطفية الحميمة، وأخيرًا من شأن ذكائه: من شأن ذلك الذكاء السريع المستوعب، والبديهة الحاضرة التي تقدر على فهم كل شيء، بما في ذلك المشاعر التي لا يستطيع الإحساس بها والغرائز التي يحذر ذكاؤه من التأثر بها. وذات مرة عندما كان يحدثها بصدد كتاب كوهلر عن القردة قالت له: " إنك أشبه بقرد على الجانب السوبرماني للبشرية .. شبه إنسان، كحيوانات الشامبانزي المسكينة. وكل الفرق بينكما أنها تحاول أن تفكر صعوديًا عن طريق مشاعرها وغرائزها، وأنك تحاول أن تشعر نزوليا عن طريق ذهنك. شبه إنسان أنت يا فيليب المسكين ترتجف على شفا الهاوية".

كان يفهم كل شيء غاية الفهم وأكمله، ولذا كان ممتعا لها أن تكون ترجمانه الذي يترجم لغات الآخرين له (والأمر أقل إقناعًا عندما يحاول المرء الترجمة عن ذاته) فهو يدرك كل ما في وسع الذهن أن يصل إلى إدراكه، كانت تقدم إليه ثمرات اتصالاتها بأهالي مملكة الانفعالات والعواطف فيفهمها على الفور ويعمم لها تجربتها ويربطها بالتجارب الأخرى ويصنفها، ويجد لها ما يماثلها ويوازنها، فإذا بها وقد كانت فردية تغدو في يديه جزءًا من نظام، وأدهشها أن تجد نفسها وأصحابها وقد كانوا لا شعوريًا مكونات نظرية أو أمثلة لتعميم كلي شائق. ولم تكن مهمتها باعتبارها ترجمانه قاصرة على الاستكشاف والإبلاغ بل كانت تقوم أيضًا بعمل المترجم الشخصي المباشر بين فيليب وأي طرف ثالث قد يحب أن يتصل به، فتخلق الجو الذي يستحيل بدونه تبادل الأمور الشخصية مجنبة جنوح الحديث كل جنوح إلى الجفاف الذهني. ولو ترك فيليب لنفسه لما استطاع إنشاء اتصال شخصي أو المحافظة على ذلك الاتصال بعد إنشائه، أما عندما تكون إلينور هناك فهي التي تقوم له بإنشاء الاتصال الشخصي والحفاظ عليه، فيكون في مقدوره عندئذٍ أن يفهم ويتعاطف عن طريق ذكائه وبأسلوب تؤكد إلينور أنه لا يمكن أن يكون بشريًا، وفي عمليات التعميم اللاحقة من التجربة التي يسرتها له يغدو مرة أخرى ذلك الإنسان الأعلى بلا مواربه.
أجل إنها لمتعة أن تعمل ترجمانًا لمثل هذا السائح ذي الذكاء الخارق في جولاته بمملكة المشاعر، ولكن الأمر في نظر إلينور كان أكثر من متعة: كان واجبًا أيضًا؛ فكتاباته يجب أن تدخل في الاعتبار وكثيرًا ما كانت تقول له: "آه لو كنت إنسانا أعلى بمقدار أقل من هذا يا فيليب أي روايات جيدة كنت حريًا أن تكتب عندئذٍ!"
وبدهاء كان يقرها على هذا الرأي، فقد كان من الذكاء بحيث يعرف نقائضه، وإلينور تبذل أقصى جهدها لإمداده بما ينقصه؛ فهي تمده بمعلومات مباشرة عن عادات الأهالي، وتقوم بدور الوسيط عندما يريد الاتصال شخصيًا بأحد منهم، وليس من أجلها شخصيًا فحسب، بل من أجل الروائي الذي يمكن أن يكونه كانت تتمنى أن يحطم عادات السلوك غير الشخصي وأن يتعلم كيف يعيش بحدسه ومشاعره وغرائزه مثلما يعيش بذهنه، بل لقد شجعته ببطولة على المضي في نزوات هواه الضعيفة المترددة نحو الأخريات من النساء، فقد يجدي عليه أن تكون له بعض العلاقات غرامية، وقد بلغ من تلهفها على إسداء النفع إليه من حيث هو روائي أنها في أكثر من مناسبة تتجشم عمدًا إنشاء الاتصال لحسابه، ذلك الاتصال الذي ما كان ليفلح في إنشائه لنفسه. وكان في هذا مخاطرة منها بطبيعة الحال، فقد يعشقها حقًا وقد ينسى النزعة الذهنية وينقلب حاله لصالح امرأة أخرى، بيد أن  إلينور كانت تقدم على المخاطرة لأنها من جهة كانت تعتقد أن كتاباته ينبغي أن تأتي قبل كل شيء آخر، ولو كان ذلك الشيء سعادتها الشخصية، ومن جهة أخرى لأنها كانت مقتنعة في سريرتها أنه لا مخاطرة ثمة على الإطلاق، وأنه لن يفقد عقله كل الفقدان أبدًا بحيث يهرب مع امرأة أخرى، والعلاج بطريقة العلاقات الغرامية سيكون لطيفًا في مفعوله إن أفلح إطلاقًا، وفي حالة فلاحه فهي واثقة بأنها ستعرف كيف تستفيد من أثره الطيب فيه، ومهما يكن  من شيء فتلك الطريقة لم تفلح كثيرًا فخيانات فيليب لم تتمخض إلا عن أقل القليل ولم يكن لها أثر فيه يستحق الذكر، وظل على حاله بصورة مثبطة للهمة بل وباعثة على الجنون، فهو ذكي إلى حد يكاد يجعله بشرًا، ورقيق في تباعد، ومتدله وشهواني في انعزال، وعذب دمث بصورة غير شخصية. شيء يشير الجنون، لماذا استمرت على حبه؟ انها لتتساءل، فذلك يكاد يشبه المضي قدمًا في حب خزانه كتب. إنها قمينة أن تتركه حقًا في يوم من الأيام؛ فثمة سلوك يستحق أن ينعت بأنه مغرق في الإيثار متطرف في الولاء وعلى المرء أن يفكر في سعادته الخاصة أحيانًا، بحيث يكون محبوبًا على سبيل التغيير بدلا من تجشم أعباء الحب جميعها من جانب واحد، ويتلقى بدلا من ذلك البذل والعطاء المتصلين .. أجل إنها قمينة يومًا من الأيام أن تتركه حقًا؛ فعليها أن تفكر في نفسها، ثم أن ذلك سيكون بمثابة عقاب لفيليب. أجل سيكون عقابًا لأنها واثقة بأنها إن تركته سيكون فريسة سهلة لشقاء حقيقي على طريقته وإلى أقصى مدى تتيحه له طبيعته من الشقاء. ولعل الشقاء حري أن يحقق المعجزة التي ظلت تتطلع إليها وتعمل لها هذه السنوات، بحيث يغدو حساسًا وشخصيًا في مشاعره، عسىى أن يكون ذلك مصدر نعمة له باعتباره كاتبًا، وقد يكون من واجبها أن تجعله شقيًا، بل إن ذلك قد يكون أقدس واجباتها على هذا الأساس.

تعليقات

  1. جميلة المقتطفة دي جدا جدا :)

    ردحذف
  2. @ قهوة بالفانيليا : ومرورك أجمل .. سعيدٌ أن أعجبتك

    ردحذف
  3. أما المقطع فقد أعجبني للغاية أيضًا ولعلي أتكلم عن الرواية هنا بعد إكمالها .. فلألدوس هكسلي أسلوب مميز جدا أحببته في هذه الرواية وفي الرواية التي قرأتها من قبل له "بعد عدة أصياف"

    ردحذف

إرسال تعليق

أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

ما هو الفن الطليعي؟ (Avant Garde)

فن الكم = Quantum art

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات