مصباحي وورقتي البيضاء


(مقطع من خاتمة كتاب جاستون باشلار: لهب شمعة - ترجمة مي عبدا الكريم محمود)


تزداد العزلة لو انتشرت على الطاولة المضيئة بالمصباح، عزلة الصفحة البيضاء، الصفحة البيضاء!
هذه الصحرء الشاسعة التي عليك اجتيازها، فتبقى عصية على الاجتياز أبدًا.

 هذه الصفحة البيضاء التي تظل بيضاء عند كل سهرة أليست هي علامة كبيرة على عزلة مكررة دون انتهاء؟
ويالها من عزلة تلك التي تشتد على المستوحد عندما تكون عزلة لعامل لا يريد أن يتعلم فقط ولا يفكر فقط، ولكنه يريد أن يكتب!
إذن الصفحة البيضاء هي عدم ، عدم مأساوي، عدم الكتابة.
نعم لو كان بإمكانك، لو كان بإمكانك فقط أن تكتب!
بعد ذلك ربما سيكون بإمكانك أن تفكر، هذا ما تقوله مزحة من مزحات نيتشة:
اكتب ثم فكر
غير أنك وحيد أكثر مما يلزم كي تكتب، والصفحة البيضاء هي بيضاء أكثر مما يجب، إنها خالية تمامًا لمن يبدأ وجوده حين يشرع بالكتابة.
تفرض الصفحة البيضاء الصمت! إنها تناقض ألفة المصباح.
وللصورة عندئذٍ قطبان. قطب المصباح، وقطب الصفحة البيضاء، وينقسم العامل المستوحد بين هذين القطبين، فيسود حينذاك صمتٌ عدائي في صورتي.
ألم يعش مالارميه منقسمًا داخل لوحة عندما كان يستحضر الوضوح المهجور لمصباح على الورقة الخالية التي يحميها البياض.
***
سيكون جميلا وكريمًا كذلك أن تبدأ كل شيء، أن تبدأ العيش وأنت تكتب، أن تَلُذ في الكتابة، وبالكتابة مثل عظيم لسهرات عظيمة مستوحدةَ!
بيد أنك ولكي تكتب داخل عزلة وجودك، كما لو كنت تملك وحي الصفحة البيضاء من الحياة، عليك أن تقوم بمغامرات وعي ومغامرات عزلة. ولكن أيمكن للوعي وحده أن ينوع من عزلته! كيف يعرف وهو كائن وحيد؟ كم من مرة عشت وأنا أعيش في إحدى (صوري) اعتقدت بأني أعمق من عزلتي، اعتقدت بأني أهبط سلم وجودي حلقة حلقة.
ولكن في مثل هذا الهبوط كنت أرى وفي اللحظة التي كنت أعتقد فيها أني أفكر، كنت أحلم، فالوجود ليس في الأسفل إنما هو في الأعلى، إنه في الأعلى أبدًا، إنه وبشكل أدق في الفكرة المستوحدة التي تعمل، وسيلزم لكي تولد منا فكرة جديدة قبالة الصفحة البيضاء وفي ملأ شباب الوعي أن نضع أكثر بقليل من الظلمة في (المضاء المعتم) للصور القديمة ، الصور الذابلة.
ويستلزم بالمقابل أن نعيد نقاش النقاش، وأن ننقش مرة أخرى، أن ننقش في كل سهرة وجود المستوحد في عزلة مصباحه.
وبالخلاصة أن نرى كل شيء، وأن نفكر بكل شيء، وأن نكتب كل شيء في وجود أولي.
***
وباختصار شديد وبعد الأخذ بتجارب الحياة، التجارب المتناثرة، والمقطعة، فإني حين أكون أمام ورقتي البيضاء، أمام صفحتي البيضاء الموضوعة على الطاولة على البعد ذاته من المصباح أجدني عند طاولة وجودي.
نعم إني عند طاولة وجودي أدركت الوجود الأقصى، الوجود المشدود إلى الأمام، نحو أمام أعلى، نحو الأعلى.
كل شيء حولي هو راحة وهدوء، إن وجودي وحده، وجودي الذي يبحث عن الوجود مشدودًا إلى الحاجة اللامعقولة التي لا يمكن تصديقها، لأن أكون: كائنا آخر، أكثر من كائن، لذا فإني اعتقد بأني وبمساعدة لاشيء، وبأحلام يقظة فقط سيكون بإمكاني أن أؤلف كتابًا .
بيد أنه حين ينتهي ألبوم صغير من (المضاء – المعتم) لنفسية الحالم، تعود ساعة الحنين لأفكار مرتبة بصورة تامة، ولم أكن وأنا أتابع رومانطيقيتي للشمعة سوى نصف حالم، أمام طاولة الوجود.
إن عجلة تأخذني بعد كل أحلام اليقظة هذه لأدرس مرة أخرى. ولأبعد بالنتيجة الورقة البيضاء لكي أدرس كتابًا صعبًا ، كان صعبًا نوعًا ما عليَّ على الدوام. إن في فكرة الانشداد إلى كتاب مطور للأفكار تتعلم النفس وتعيد تعلمها، فكل صورة للفكر، وكل مستقبل للفكر هو في إعادة تعلم النفس.
ولكن أما زال لي متسع من الوقت، لأجد العامل الذي أعرفه جيدًا وأعيد إدخاله إلى صورتي. 



___

تعليقات

  1. تدوينتك السابقة شدتني للكتاب، والمقطع اللي اخترته هنا زود فضولي لاستكشاف هذا الكاتب الذي لم أقرأ له/عنه من قبل.
    أستاذنا: بأحجز الكتاب أول ما تخلصه، شكرًا

    ردحذف

إرسال تعليق

أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

النوافذ

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات