ليست نهاية العالم التي كنتَ تتطلع إليها.

Mad Max: Fury Road 




بقلم: لوري بيني 
ترجمة: أحمد ع. الحضري

الصدمة في حد ذاتها صادمة. ألم يكن من المفترض أن نكون أكثر جاهزية؟ ألم تغرق الثقافة لعقود في بورنو الكوارث: القنبلة (The bomb)، العطل (The breakdown).، غبار ذري (fallout)، جيوش المعتوهين من الموتى الأحياء، كل هذه الكوابيس التي شاهدنا فيها أجيالًا من الموتى يمرون على شاشاتنا. ألم يعش المراهقون والشباب لعقود حالة حزن استباقي على كل ما نعرفه. لكن بشكل ما، ما يحدث الآن مختلف. 



لطالما كانت فكرة وجود كارثة محدقة جزءًا من وعينا الجمعي. كان البشر مسكونين بفكرة نهاية كل شيء، لفترة طويلة للغاية. بدءًا من تاريخ نهاية تقويم المايا، مرورًا بملحمة جلجامش، وطوفان سفر التكوين، وسفر الرؤيا؛ حتى صارت مؤخرًا تسليتنا الافتراضية. لقد كبرنا مع تهديد الاحترار العالمي، تحت وطأة الكارثة الاقتصادية، وشاهدنا مدهوشين ومنهكين، موت حضارتنا مرة تلو الأخرى. ظهرت نهاية العالم في وسائل الترفيه منذ بداية هذا القرن، أكثر مما ظهرت في القرن الماضي بأكمله: "The Day After Tomorrow"، و"Zombieland"، و"The Walking Dead"، و"The Road"، و"Children of Men"، و"The Last of Us". نفس القصة مرة تلو الأخرى، في منطقة ما بين تحقق الأمنية والاستعداد للكارثة، تظهر مجهزة إيانا لفكرة أن المستقبل ملغي، أنه في يوم قريب سينهار كل شيء، لن يبقى أي شي، ولا يوجد ما يمكن فعله لمنع ذلك. 

احتفظت منذ كنت طفلة قلقة ومنقبضة، بسجل خاص، للأشياء التي ظننت أني قد أفتقدها بشكل أكبر حين ينتهي العالم، كي أركز على الاستمتاع بها بأكبر قدر ممكن: الدش الدافئ، التسكع في المحلات، الموز ؛ حيث لم أتوقع أن ينتهي بي الأمر كناجية في أي دولة ينمو فيها الموز، في الواقع لم أتوقع النجاة أصلًا؛ أنا مخلوقة ضئيلة، حساسة، وكانت أكبر فرصة لي هو أن تحملني أختي الطويلة المهيبة على أحد كتفيها، بينما تحارب الأشرار بيد واحدة، افترضت أننا سنكون معًا، لا أن نكون معزولين في قارتين مختلفتين. مضحك كيف تتطور الأمور. 


غيَّر كوفيد-19 كل شيء. فجأة، أتت الأزمة المخيفة، الكارثة التي تعني أن الأمور لن تعود لسابق عهدها، وهي مختلفة للغاية عن تخيلنا لها. توقعت أمرًا مشابهًا للعبة "Half-Life"، توقعت "World War Z"، لقد كنت أختار ملابسي كأنني داخل ماتركس منذ عام 2003. لم أتوقع أن أواجه مثل هذه الحادثة وأنا مرتدية جوارب دافئة، وعباءة النوم، على مسافة آلاف الأميال من منزلي، أحاول ألا أهلع، وأشتاق لكوب شاي مضبوط. تبدو نهاية العالم أقل شبهًا بأفلام المخرج داني بويل (Danny Boyle)، وأكثر شبهًا في المقابل بأعمال دوجلاس آدمز (Douglas Adams).


هناك اختلاف مهم بين نهاية العالم (apocalypse) والكارثة (catastrophe)
. الكارثة هي دمار شامل، لم يبق شيء، لم نتعلم أي شيء. نهاية العالم -خاصة كما تتجلى في الكتاب المقدس- تعني وقت أزمة وتغيير، وقت تجلي الحقائق. وقت الكشف والرؤيا. حين تحدثنا عن نهاية كل يقين، لم نكن نتوقع أي كشف، لم نتوقع هذه السذاجة، والعذوبة، والحزن. 

"تَخيُّل نهاية العالم أسهل من تَخيُّل نهاية الرأسمالية". انتشر هذا الشعار حول العالم منذ عشر سنوات، خلال حركة احتلال وول ستريت، وتتم نسبته بصيغ مختلفة إلى فيدريك جيمسون، وسلافوي زيزيك. طلبت تفسيرًا له لأول مرة من ناشط مفرط الحماس، مفتقر للنوم، قضى عمره مثلنا وهو يشاهد على الشاشة تفجيرات وحرائق في نيويورك ولندن وواشنطون وطوكيو؛ لكنه رغم ذلك لم يملك القدرة على تخيل أي مستقبل ليس فيه سعي مستمر مدى الحياة لقضاء الديون. تتطلب منا الرأسمالية هذا. لا تستطيع الرأسمالية أن تتخيل مستقبلًا يتجاوزها، إلا إذا كان هذا المستقبل مجزرة شاملة. 


سبب ذلك أن الرأسمالية المتأخرة كانت دومًا عصبية موت (death cult). لا يستطيع أصحاب السلطة صغار العقول معدومو الكفاءة التعامل مع مشكلة لا يمكن حلها ببساطة عن طريق التضحية بالفقراء، والمستضعفين، والأفراد الذين يمكن الاستغناء عنهم لأي سبب آخر. حين تواجههم أزمة لا يمكن حلها بالعنف، يرتجفون وينتحبون، ويضيعون وقتًا لا يمكن حسابه إلا بعدد الجثث. لا توجد بصيرة، لأنهم لم يتخيلوا قط مستقبلًا لا يجلسون فيه مكللين بالذهب فوق ركام البشر. لأسابيع أشارت خطب المنصات إلى أن قدرًا ما من الموت المؤلم، هو ثمن معقول يمكن لآخرين دفعه من أجل حماية النظام المالي الحالي. امتلأت موجات الراديو والتلفاز بمتعصبين يمينين مرتخين، يدفعهم تركيزهم الشديد في دعوتهم إلى دارونية اجتماعية إلى الإفصاح بشكل عرضي عما تكن صدورهم.


وما تكنه صدورهم هو الآتي: من وجهة نظر الأغنياء والأغبياء، فإن عددًا من الإجراءات الاقتصادية الضرورية لإيقاف الفيروس هي غير مقبولة، لدرجة أنهم يفضلون موت الملايين. وهذا خطأ تتجاوز فداحته المستوى الأخلاقي؛ فإجبار المرضى وناقلي العدوى على العودة للعمل من أجل إنقاذ وول ستريت يضعنا جميعًا تحت وطأة الخطر. ولهذا لا يكتفي هؤلاء البلهاء الجالسين في مناصب لا يستحقونها باستسهال تخيل نهاية العالم عن وضع قيد واحد على الرأسمالية، بل إنهم يفضلونها. 


بالطبع لم يحتكر اليمين في أي وقت أحلام حمى الكارثة. فكرة حدوث هرمجدون مطهرة، تخلصنا في الحال من كل الجوانب غير الملائمة للحداثة: كل سنوات العمل المرهقة، والمواءمة بين ما نحن عليه وما نرغب أن نكونه، هي أمر عالمي، وطفولي للغاية. لقد قضيت وقتًا أكثر من اللازم في الاستماع لهيبسترز سكارى بلحى سوفيتية تقليدية وهم يخبرونني أنه لا جدوى من النسوية أو معادة التمييز العرقي، لأن كل هذه الأمور ستنصلح بعد ثورة العمال الجبارة الدموية التي هي حتمًا في الطريق. يمكنك الاستماع لنفس الترقب المبتهج في خطاب جماعات تيار البيئة الأصولي "الأخضر الداكن"، والذين يتفوقون حاليًا على المتطرفين الدينيين في تسرعهم في إعلان أن فيروس كورونا هو غضب الطبيعة من الإنسانية. لو أنك ميال لأن يتم عقابك فهناك مواقع إنترنت يمكن أن تسهل لك ذلك، لكن لو أنك ترغب في عقاب الجنس البشري بالكامل فهذه ليست فيتشية إنها فاشية.


يتم إعادة الديموقراطية الاجتماعية مرة أخرى على عجل، وهذا بسبب -إذا أعدنا صياغة مقولة مارجريت تاتشر- عدم وجود أي بديل حقيقي. في الولايات المتحدة، تسارع الولايات في دعم 3.5 مليون عامل انتقلوا إلى البطالة خلال أسبوع واحد. مشردو لندن -والذين تضاعف عددهم خلال عقد- اختفوا من الشوارع بين عشية وضحاها. نفدت أدوات الوقاية لأطباء والممرضين من خدمة الصحة الوطنية (The National Health Service)، وكانت الحكومة البريطانية بطيئة للغاية في توفيرها، لكن أحد مواقع الفيتشية الطبية [موقع بيع أدوات وملابس طبية عادية للراغبين في تقمص الأدوار]، سارع بالتبرع بمخزونه الكامل من الأزياء والأقنعة، لأننا في أزمة وكل منا يفعل ما يستطيع فعله. 


لم تجهزنا كوارث الثقافة الشعبية لهذا. "هذا ليس فيلمًا"، كما قال أحد العمد الإيطاليين في بث مباشر من غرفته في الأسبوع الماضي. "أنت لست ويل سميث في فيلم "I Am Legend". أحد الأسباب هو الطابع الاجتماعي الواضح. معظم رؤانا الجمعية لما بعد نهاية العالم تشترك فيما بينها في أنها تتخيل العالم وهو يصير أصغر. أبطالنا -وهم في العادة رجال بيض أسوياء لهم أسر نووية يرغبون في حمايتها- منعزلون عن بقية العالم؛ يتمثل حلم اليقظة هنا في خلخلة قيود الحضارة، والتحول إلى الحامي الشجاع و/أو المحارب القبلي الذي كان مقدرًا لهم أن يكونوه. وجزء من فانتازيا الكارثة يمثل تحررًا -قد ترغب عصابات تعتلي دراجات بخارية وترتدي ملابس العبيد في قتلك من أجل نصف خزان وقود وساندوتش، لكن على الأقل لن تحتاج بعد الآن للقلق بخصوص تاريخك الائتماني، أو دين تعليمك الجامعي، أو جيرانك. 


بدلًا من ذلك، نشعر أن العالم قد صار أكبر. حاليًا، بينما يفرض أكثر من ثلث العالم درجة ما من الإغلاق، ويواجه كل جزء من العالم تجليًا ما لنفس الأزمة في ذات الوقت، أصبحنا متلهفين للمس بعضنا البعض. يبدو التواصل مرة اخرى مع أصدقاء أكثر أهمية. يبدو أهم أن نصير لطفاء وساذجين. كل منا يعرف شخصًا ما اضطر للبقاء في منزله منفردًا، يحاول ألا يصاب بالجنون. كل منا يعرف شخصًا اضطر للبقاء في منزل واحد مع شخص بغيض، محاولًا النجاة من مشاجرات علاقة هي أصلًا سامة. والكثير منا يعرف بالفعل مريضًا ما.


الحالمون بالإفلات من الواقع عن طريق كارثة - وهي جزء بارز من خيالات اليمين المتطرف- لم يتوقعوا هذا. كثيرًا ما تسكعت في عدد من حواري الأيديولوجيات الراكدة على الإنترنت التي يتحدث فيها شباب بحماس عن النهاية المرتقبة للحضارة، حيث يمكن للرجال أن يصيروا رجالًا حقيقيين مرة أخرى، وتحتاج النساء إلى حماة. كم هو غير ملائم، إذن، أنه حين ظهرت هذه الكارثة التي قلبت العالم، لم تقدم لنا عدوًا يمكن أن نحاربه بأيدينا (اغسل يديك).


لم تكن أساطير نهاية العالم قط بهذه البساطة من وجهة نظر النساء، غالبًا لأن معظمنا يعلم أنه حين تتشقق البنى الاجتماعية وتتحطم، لا تحدث ردة إلى حالة طبيعية تحكمها القوة العضلية، لكن ما يحدث بالفعل هو أن النساء ومقدمي الرعاية بشكل عام، ينهكون أنفسهم بصمت في ملء الفجوات، محاولين منع أكبر عدد ممكن من الناس من الوقوع تحت وطأة الانهيار البدني والعقلي. ليس المحاربون هم من يقفون في الخطوط الأمامية، بل المعالجون ومقدمو الرعاية. نفس الفئة التي لا يتلقى أفرادها مقابلًا يناسب أهمية أدوارهم، هم من نحتاجهم بشكل أكبر وقت الأزمة: الممرضين، الأطباء، عمال النظافة، السائقين. العمل المنزلي والعاطفي لم يكن قط جزءًا من القصة العظيمة التي يحكيها الرجال لأنفسهم حين يتحدثون عن مصير الأنواع، أو حتى وهم يحلمون بالنهاية.


النهاية، لن تكون مجزرة، بل مخبزة، حيث أن كل الناس فيما يبدو قد قرروا تعلم كيفية صناعة الخبز. اختفت الخميرة من المحال. حتى أنا كنت أعمل في المطبخ، رغم أن مخبوزاتي كانت فظيعة للغاية. اتصلت بي من برلين صديقة وشريكة سكن سابقة تعرفني جيدًا لتسألني، إن كنت قد قمت بعمل ذلك البسكوت الكريه المريع. يميل بسكوت النحس هذا للظهور في الأوقات التي أواجه فيها ضغطًا كبيرًا، حتى أن من حولي يشعرون بأنهم مجبرون على أكله. يقول البعض أنه إذا كان بإمكانك صنع كعكه فبإمكانك صنع قنبلة؛ لكن إذا انهار فجأة كل شيء فلن أعمل في مجال الذخائر.


ستكون وظيفتي، مثلك، ومثل الآخرين، أن أكون لطيفة، أن أبقى هادئة، وأن أعتني بمن يحتاج عنايتي في نطاق وجودي. كنا نعيش لسنوات وسنوات فيما يصفه جرامشي بوقت الوحوش، وقت "يموت القديم، ويتأخر الجديد في الظهور". الجديد الآن يولد على عجل، بعد الآن لن يعود شيء لوضعه الطبيعي. هي نهاية العالم كما نعرفه، وتبدو الأمور طيبة- لا كالاسترخاء بل كأطقم الصيني، كالزجاج، كالخيط. تبدو الأمور طيبة، وهشة، ويا للدهشة تستحق الحفاظ عليها. 


___________

نشر المقال الأصلي في مجلة WIRED الأمريكية. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

ما هو الفن الطليعي؟ (Avant Garde)

فن الكم = Quantum art

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات