حديث الجسد (اقتباس)
في كافة العروض التي يقدمها الإنسان نرى صورة حية تتأمل كل ثقافة فيها الثقافة الأخرى، ومحورها دائمًا الجسد الإنساني في كافة تفاعلاته مع الآخر التي تؤثر على ردود أفعاله. فما الذي تحاكيه راقصة الاستربتيز إلا الرغبة ذاتها؟ ولكنها ليست رغبتها هي وإنما رغبة الآخر في جسدها، وما الذي يحاكيه الكاهن في قداسه إلا علاقة بالعالم الأعلى تتطلب مشاركة الأتباع، وحتى لاعب الكرة الذي يبحث عن النصر ليرضي من يساندونه من المشجعين. وبوصف آخر يقول راي أن الأجساد الاستعراضية لا معنى لوجودها إلا من خلال وعيون الآخر.
وفن الإيماء يقوم على تبديل التأثيرات الطبيعية (كاللذة، الخوف، الرغبة، الاشمئزاز، وغيرها)، وهي تأثيرات خام غير متوقعة وبالتالي نقية، بغيرها من التأثيرات المعتمدة والتي تشكلها عادات ثقافة ما.
[...]
وبالفعل يمكننا أن نرى في هذا الفن [...] كافة ما يعبر عنه الإنسان من أحاسيس وصراعات داخلية وأفكار ونوازع. فأبسط حركة من الوجه حتى وإن تم تجميدها من خلال قناع أو تضخيمها وتثبيتها من خلال ماكياج ما، تستلزم بالضرورة القيام بالحركة العضلية التي تتوافق معها وتتمكن من إنتاجها. ومن خلال ذلك تتولد كافة المشاعر المتباينة من: انبهار، أوغضب عارم، أو ندم، أو هلع، أو غيرها. وكل هذا يؤثر بدوره على المتلقي الذي يتوحد في أعماقه مع ما يراه سواء بتقمصه أحيانا، أو بالسخرية منه أو برفضه أحيانا أخرى. وكذلك الأمر بالنسبة لباقي الجسد الذي يوظفه البعض أمثال هارولد لويد أو العبقري كيتون للتعبير وحده، مع الاستغناء عن تعبيرات الوجه؛ وغيرهم ممن يخلقون تناغمًا حركيًا وتوافقًا عضليًا، وآليات للجسد قد تولد الضحكة كما في المهرجين في السيرك، أو الانبهار كما نرى في الرياضة، أو الانبهار الممزوج بالخوف في الحركات المعقدة التي يؤديها أكروبات السيرك وذلك لتجاوز الجسد في كافة هذه المواقف لقدراته الطبيعية الفعلية وتحميله أحيانًا فوق ما يطيق مما يفجر طاقات غير عادية.
وهنا يلعب الجسد دورًا يفوق في أهميته ذلك الذي تقوم به الكلمات والعبارات حيث تصبح الصفحة البيضاء مسرحًا، والصور كائنات حية مرسومة فوقها. ورغم الصمت تتجسد قصص وحكايات ومواقف بواسطة لغة خاصة هي لغة الجسد. ونرى ذلك بوضوح أيضًا في كافة الأنظمة المشفرة كما في ربرتوار حركات اليد في التقاليد الهندية (ال mudra)، أو في الإشارات الدقيقة التي يتبادلها الصم والبكم. كما نرى ذلك أيضًا في مجال المسرح حيث تمتزج الكلمة بالحركة ليتولد من امتزاجهما المعنى وإن كان قادرًا على أن يكتفي بإحداهما ليكون له وجود ملموس. ويرتكز الفن الدرامي كله على هذين القطبين: الكلمات، والإيماءات؛ تمتزجان تارة، وتتسيد إحدهما الموقف تارة أخرى.
مقطع من كتاب:
المنظومة الشاعرية لجسد الممثل
تأليف: جاك لوكوك، جان جبريل كاراسو، جان كلود لالياس
ترجمة: سهير الجمل
مراجعة وتقديم: منى صفوت
القاهرة: وزارة الثقافة؛ مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، 2000.
اقرأ أيضًا: الجسد الراقص والتقدم في العمر
تعليقات
إرسال تعليق
أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء