الفاشية في تاريخ أوروبا (مقتطفات)




بقلم: بيير ميلزا
الفاشية هي أساسًا ظاهرة أوروبية، سواء كانت في الشكل المكتمل، الذي تميزه الديكتاتوريات الشمولية لفترة ما بين الحربين، أو في الشكل الجنيني للحركات التي غالبًا ما توصف بما قبل الفاشية، والتي تطورت في العديد من دول العالم القديم عند ملتقى القرنين التاسع عشر والعشرين. وسواء شئنا أم أبينا، فهي مرتبطة دائمًا بتاريخنا. فهي من نتاج تاريخنا المشترك. وعلى هذا النحو - أيًا ما كان الألم الذي يسببه اختبار الذاكرة- ينبغي مجابهتها، ليس كعرض عابر أو ك"مرض أخلاقي مقحم، في جسم سليم، حسبما اعتقد بنيديتو كروس Benedetto CroceK، لكن كذروة مسلك أيديولوجي وثقافي متجذر في تاريخ أوروبا المعاصرة، وذلك للتمكن من فهم آعمق وتحقيق استجابة أكثر فعالية إزاء الانبعاثات المحتملة، وإن لم تكن مناسبة مسبقًا لشياطين قدامى أمكن الاعتقاد بأنها لن تلاحق سوى الذاكرة المتحجرة لبعض من يحن إلى "النظام الجديد" الهتلري.

...
الفاشية والبربرية التي ولدتها، لا سيما في قالبها الهتلري، ليستا غريبتين عن أوروبا. ولدت الفاشية في أوروبا. وتطورت صباح اليوم التالي للحرب العالمية الأولى في سياق أوروبي بشكلٍ محدد. فأساليب الحكم التي أوجدتها الفاشية، والنظام الجديد الذي تشيده صالح لقارتنا. الحرب التي فكرت فيها الفاشية، أو أرادتها وفي الختام شنتها عام 1939 كانت في البدء حربًا أوروبية، قبل أن تمتد إلى باقي العالم، ففي أوروبا أولًا شُنت، وفاز بها أعداء المحور. وفي الختام، ولدت الفاشية مع ذلك من احتدام القومية، وغذت لدى عدد معين من المثقفين رؤية شبه أوروبية هي، أيديولوجيا على نقيض الرؤية التي يسعى الديموقراطيون بوعيهم السياسي المختلف عبر تعاوض السنين إلى إحيائها منذ خمسين عامًا.

*** *** ***

 ثم أن الشمولية لا تحد حركتها داخل المجال السياسي والاجتماعي وحده. فهي ترى أنه على الإنسان، برمته، الخضوع للمتحكمين في السلطة لإعادة القولبة التي يبتغونها. لهذا لن تفلت الحياة المهنية، وأوقات الفراغ، والحياة الأسرية، والمعتقدات، والأخلاق، بل وعلم الجمال من سلطان نفوذ الدولة الشمولية. لم تقلق الإمبراطورية الثانية كثيرًا من تطور فن طليعي "الانطباعية"، منفصلًا عن الفن المسيطر، بجانب الفن الأكاديمي الذي تحميه. وعلى النقيض، لا حقت الشمولية النازية بضرباتها الفن الحديث، فحكمت عليه بالانحطاط وفرضت فنًا تشخيصيًا ينتمي للكلاسيكية الجديدة، وحده متوافق مع مفاهيمها العنصرية.

بعبارة أخرى، تكمن خصوصية الشمولية الفاشية في محاولتها احتواء دائرة الشخصي في مجال عمل سلطة هدفها تشكيل " الإنسان الجديد"، والرغبة في إزالة "المجتمع المدني" الذي يحترمه الديكتاتوريون الكلاسيكيون طالما لا يهدد سلطتهم. بالتأكيد لم ينجز هذا الهدف على نحو شامل في أي مكان. كان إنجاز ألمانيا أبعد بكثير عما في إيطاليا، لكن في أي من الحالات لم يصل المشروع الشمولي إلى اكتماله.
   
يبقى أن الشمولية الفاشية والنازية تفرضان استبعاد كل بنى المجتمع التي تتعارض مع تحقيق الهدف المحدد عندما تسمح للفرد بالهرب من مشاريع التأطير الذي وضعته السلطة. من هنا إلغاء الأحزاب، الجمعيات، النقابات، إلخ، غير المرتبطة بالسلطة. من هنا، أيضًا هيمنة الحزب الوحيد كلية الوجود، مليشيا مسلحة في خدمة المسيطرين على السلطة، وآلة إشراف وإحاطة جسدية وأيدولوجية للجماهير في آن، هيكل مميز لتدريب وترقية الصفوة ورحم "الإنسان الجديد". 

*** *** ***

المراحل المختلف للفاشية 

 أعتقد شخصيًا أنه من المهم التمييز في تاريخ الفاشية بين أربع مراحل كبرى، أربعة أشكال لكل منها خصوصيته:

مرحلة "الفاشية الأولى"، وهو الوجود العفوي، في سياق أزمة جسيمة، لحركات متطرفة منحدرة بشكل رئيسي من الطبقة الوسطى وتقاوم في آن الصفوة المتحكمة والقوى الثورية لليسار المتطرف. شرعت الفاشية الأولى -ذات التوجه الشمولي والمعادية لليبرالية والديموقراطية والشيوعية- وهي تعد السكان الذين يعانون من الفاقة بعودة "العصر الذهبي"- في إحاطة الجماهير وتجنيدها، بهدف أولي ألا وهو تسلم السلطة. هذا هو إذا شئنا شكل "الفاشية الثورية"، التي أغرت ضحايا الأزمات بالأمل في غد أفضل. في هذه المرحلة، شهدت الفاشية الأولى توسعًا جغرافيًا مهمًا، لكن فعاليتها كانت غالبًا متواضعة. 

ولدت الفاشية الثانية بدءًا من اللحظة التي أدرك فيها قادة المجتمع أنهم لن يصلوا إلى السلطة إلا بمساندة كوادر المجتمع التقليدية، أو على الأقل حيادها المتعاطف. فثابروا إذن على عقد تسوية مع الصفوة القديمة، وتخلوا عن البنود التي تخيفها في برنامجهم، لا سيما تلك التي لها علاقة بإعادة توزيع السلطة الاقتصادية أو بفرض عراقيل على حرية الشركات. تخلى موسوليني Mussolini عن برنامج ال"فاشيست" في 1919، بينما ألغى هتلر Hitlr البرنامج الذي تبناه الحزب (NSDAP) عام 1920، فتمكنا من الوصول إلى السلطة بهذه التسوية وبالموافقة الضمنية، على أية حال، للأوساط الحاكمة التقليدية. 

المرحلة الثالثة هي الخاصة بوصول الفاشية للسلطة. ولأنها تأسست على التسوية بين الفاشية والصفوة التقليديين، فقد تضمنت تناقضات متعددة. من ناحية، احتفظت الطبقة الحاكمة القديمة بجزء كبير من السلطة في الاقتصاد، والإدارة العليا، العدل، الجيش والسلك الدبلوماسي، لكن مجال نفوذها أخذ في التقلص على توالي الأيام، فقد اختلفت طموحاتها غالبًا مع أهداف النظام. ومن ناحية أخرى، اتسعت، على نحو مطرد، المساحة الممنوحة لكوادر الحزب الأوحد، آلة السيطرة الشمولية على المجتمع. يمكن وصف تاريخ النظم الفاشية والنازية من نواحٍ عديدة، بقصة حرب استنزاف بين القوتين اللتين تحالفتا من أجل فرض الديكتاتورية. في ألمانيا، كان فوز الحزب النازي ومجموعات النفوذ التي تتشكل حوله مباشرًا. فبعد مناورة يونيو 1934 الإرهابية الكبرى (ليلة السكاكين الطويلة)، لم يكن لدى الفئات التقليدية الحاكمة خيار آخر سوى الانخراط الكامل في الرايخ الثالث. وعلى النقيض في إيطاليا عانت الجماعة الفاشية الحاكمة كثيرًا لفرض "ثورتها الثقافية" على القوى المحافظة التي، رغم موافقتها على التعاون مع الجماعة الفاشية، ظل نفوذها قويًا لفترة طويلة. ومن ناحية أخرى، من أجل إلغاء هذه القوى على نحو جيد وكي تحل الهيمنة السياسية والأيديولوجية والثقافية للحزب محل الأنتليجنتسيا التقليدية (التي ظلت مرتبطة بشدة بالاتجاه المحافظ والكاثوليكية)، شرع موسيليني، في اليوم التالي لحرب أثيوبيا، في تجذير نظامه بالمعنى الكليِّاني. 

نصل في الختام -إنها المرحلة الرابعة- لنظام شمولي خالص، لفاشية تامة، يقوم فيها الزعيم المؤثر على الجماهير والصفوة الجديدة التي كونها الحزب أو الأرستقراطية العسكرية والعنصرية، المخلقة على نحو مصطنع والمتعصبة إلى الحد الأقصى للحرس النازي الخاص (SS)، بفرض أفعالها المتمتعة بالحكم الذاتي. لم يتحقق هذا الطور الرابع على نحو كامل تقريبًا إلا في ألمانيا أثناء الحرب، مع انتصار "الدولة". وفي إيطاليا بدأ التمهيد له في 1937-1938، لكنه لم يتمكن من فرض نفسه إلا بشكل سطحي على المجتمع المدني، الذي ظلت السلطة العقائدية للنخبة التقليدية تمارس نفسها فيه بصورة قتالية- رغم الجهود المبذولة لفرض ثقافة وأسلوب حياة جديدين على عامة الناس. 

*** *** ***

محاكاة وعدوى الفاشية

 لا ينبغي أن تخدعنا عملية غرس نظم ديكتاتورية استتبت بعد انقلاب عسكري أو بدونه، أولًا خلال العقد الأول لما بعد الحرب، كرد فعل إزاء الموجة الثورية، ثم خلال الأعوام التي تلت بدء الأزمة الاقتصادية العالمية، فلا يمكن وصف أي من هذه النظم بالفاشية بصريح العبارة، فهي لم تؤسس على نفس القواعد الاجتماعية، ولا على نفس مشروع المجتمع. هنا غالبًا ما تمارس الطبقة التقليدية الحاكمة، التي يتكون أغلبها من ملاك أراض، السلطة مباشرة أو بميليشيات مسخرة، وتنشر توجيهاتها لنظام استثنائي من وضعها. لا يقلقها، كما في ألمانيا وإيطاليا، تبرير شرعيتها بالاستناد على إجماع عام يتم المحافظة عليه على نحو مصطنع، والهدف الذي تسعى إليه ليس اختلاق إنسانية جديدة، وإنما إحياء المؤسسات التقليدية، ثم تثبيت المجتمع في شكله المجدد. 

لكن الفاشية حاضرة رغم هذا على مستويين في هذه النظم الرجعية على نحو كلاسيكي. أولًا في "الأسلوب" الذي يتبناه غالبًا موجهيها لاهتمامهم بالفاعلية، وكي يتعاطوا وهم الإجماع، أو لأنها ببساطة جزء من الجو العام. فرجل مثل جومبو Gombos الذي وصل لرئاسة الحكومة المجرية عام 1932، يفضل التجمعات الجماهيرية الكبرى، وعرض الميليشيات القومية، وهتافات الجماهير المؤيدة ل"قائد الأمة المجرية المحبوب". سالازار Salazar، ميتاكساس Metaxas، فرانكو Franco بعد انتصار القوى القومية لم ينفروا أيضًا من لحظات التقرب من الجماهير، ولا انتشار الميليشيات المسلحة وحركات الشباب التي أدخلها النظام في حزبه. ولا يتميز هذا النظام -جذريًا- عن النظم الجماهيرية الشمولية للطبقات. 

الفاشية بحصر المعنى، موجودة أيضًا في هذه البلاد، في الشكل الأصلي ل"الفاشية- حركة"، أي أنه ثمة منظمات عديدة تستند إليها وتمثل، من خلال قاعدتها الاجتماعية وأيديولوجيتها، وأسلوبها الثوري المميز وعنف مناهجها، سمات تنتمي بالفعل للفاشية. لكن الصلات بين هذه الحركات الرافضة والسلطات المستبدة التي تحكم دول أوروبا الوسطى والشرقية والبحر متوسطية نادرًا ما تكون جيدة. بل أحيانًا ما نصل لصراعات حقيقية صريحة بين الديكتاتورية التي تمارسها القوى المحافظة والأحزاب الفاشية التي يزداد استنادها على الفلاحين والبرجوازية الصغيرة. في رومانيا على سبيل المثال، وإزاء صعود الفاشية الممثلة في الحرس الحديدي، لجأ الملك كارول Carol شخصيًا عام 1938 إلى مناورة سياسية، وتبعها بحل كل الأحزاب وتصفية كودرانو Codreanu، رئيس الحرس الحديدي، جسديًا. يمكن مضاعفة الدراسات التي تظهر حالات وأوضاع مماثلة (في بولندا، وبلغاريا، وإسبانيا، إلخ)

مقتطفات من:
الفاشية في تاريخ أوروبا/ بيير ميلزا؛ ترجمة: راوية صادق؛ مراجعة: قسم الترجمة بالمركز الفرنسي للثقافة والتعاون.
من كتاب:
جامعة كل المعارف، ما الثقافة (الجزء السادس)/ إشراف: إيف ميشو.- ط1.- القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2006.-(المشروع القومي للترجمة، 1018).

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

ما هو الفن الطليعي؟ (Avant Garde)

فن الكم = Quantum art

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات