مقتطفات من كتاب موت الناقد
تأليف: رونان ماكدونالد
ترجمة: فخري صالح
(من: المقدمة)
بهذا المعنى، يبدو أن زمن الناقد، بوصفه الحكم الفيصل الذي يحدد ذائقة الجمهور ويقرر ما يستهلكه ذلك الجمهور على الصعيد الثقافي، قد ولى. كما أن موضع الناقد في حقول الفنون المختلفة أصبح أضعف بكثير مما كان عليه في الخمسينيات والستينيات. ما زال هناك بالطبع نقاد موهوبون واسعو المعرفة، في المسرح والفن والسينما، وكثيرٌ منهم يكتب في الصحف والمجلات، وبعضهم يعمل في الجامعات ويصدر أعمالًا أكاديمية قيّمة.
هناك أيضًا وسائل عديدة يصعب حصرها تهتم بنشر النقد في الإعلام الورقي المطبوع والفضاء الافتراضي. لكن دور الناقد تقلص بعد الذروة التي وصلها نقاد مثل كينث تاينان Kenneth Tynan، أو كليمينت غرينبريغ Clement Greenberg، أو بولين كيلي Pauline Kael. لربما يكون الناقد قد مات لأن جدنا الطاعن في السن تايم Time في رواية جود الغامض Jude the Obscure يقول لنا: "إننا كثيرون". فعندما ترتفع أصوات نقدية كثيرة فإن من غير المستغرب ألا يسمع منها إلا القليل وسط الضجيج.
يحتل الناقد، دون أي شك، مكانه في رأس الهرم: إنه الشخص الذي يعرف عن شكل من أشكال الفنون أكثر منّا، وهو الذي يستحق رأيه أو تأويله نظرًا واعتبارًا خاصين. تلك التراتبية الهرمية التي تربع الناقد على قمتها قضت عليها الانزياحات الواسعة في العلاقات الاجتماعية، بعد تخلص الناس من الإذعان للسلطة. لقد توزعت عملية تقويم الفنون، وأصبح "الجمال"، دون أي شك، "في عين الرائي"، لا في عيني الناقد الخبير أو عالم الجمال.
ليس هناك سبب لموت الناقد. لكن السؤال الأساسي الذي يشغل هذا الكتاب، وهو يتعلق بتغير المواقف تجاه القيمة والتقويم، يثير أسئلة عديدة أخرى. هل تتعلق القيمة الفنية بتفضيلاتنا الشخصية، بما نحبه ولا نحبه؟ هل يكون كل رأي جيدًا مثل أي رأي آخر؟ وهل يمكننا أن نحكم على قيمة الفن أو نُقيِّم حكم القيمة على الفن استنادًا إلى معايير موضوعية خارجية؟ هذه أسئلة عتيقة جدًا وتصعب الإجابة عليها في الوقت نفسه. لكن ما حصل هو أنها أهملت ونُبذت في الدوائر الأكاديمية خلال السنوات الأخيرة. كان النقاد الكبار في منتصف القرن العشرين أساتذة جامعيين في معظمهم، وقد ألفوا كتبًا، وكتبوا مراجعات موجهة للجمهور غير الأكاديمي. لكن مثل هؤلاء الأشخاص أقل حضورًا في الواقع الثقافي الآن.
كثيرًا ما تضمن النقد اليانعة الموجه للجمهور العام روابط وثيقة بين الدراسة الأكاديمية للفنون والمراجعات الأكثر شمولًا واتساعًا في عالم الثقافة. ورغم أن الأكاديميين ما زالوا يكتبون في الصحف فإن الروابط الثقافية ضعفت بصورة ملحوظة. وحتى لو أخذ شخص ما على عاتقه القيام بالدورين معًا، فإن مراجعي الكتب وأساتذة الجامعات منشغلون بمهمات مختلفة تمامًا. كما أن الأرضية المشتركة بين البحث الأكاديمي واهتمامات الجمهور الواسع تقلصت أكثر فأكثر.
يمكن أن أجادل هنا بالقول إن العامل الأساس الذي يفصل النقد الأكاديمي عن النقد غير الأكاديمي هو إدارة الظهر للاهتمامات الجمالية، وتلك تعنى بعملية التقويم في دوائر العلوم الإنسانية في الجامعات. لقد كان موضوع "النصوص المعيارية الأساسية" Canon، أي ما يستحق أن يدرس ولماذا يدرس، ذا أهمية قصوى في الأجيال السابقة. وسواء كان ذلك أمرًا جيدًا أو سيئًا، فقد أشار علينا ماثيو أرنولد أن من الضروري: "أن نسعى إلى تعلم "أفضل" ما هو معروف وما يتم تعليمه في الكون، ومن ثم نسعى إلى نشره. ذلك هو الأساس الراسخ الذي واصل الحضور إلى نهاية الستينيات. وعلى كل حال فإن ظهور الدراسات الثقافية أدى إلى تغير جذري في ما يحظى بالاهتمام والتركيز: فهناك شكٌ عام لا فيما يتعلق بموضوع اختيار النصوص الأساسية التي ندرسها فقط، بل في الحكم الجمالي عامة. ينظر التوجه حديث العهد للماركسية الجديدة في حقل الدراسات الثقافية إلى موضوع "الأفضل" بوصفه مفهومًا سياسيًا مشكوكًا فيه، كما أن الاختيارات التي تقوم على أساسه تغذي جداول أعمال خفية ذات طبيعة هرمية.
هكذا، تم تقطيع أوصال الناقد من خلال قوتين متعاكستين: الميل إلى جعل النقد الأكايديمي عملية داخلية تعنى بنفسها وتهمل الحكم والتقويم، والزخم الذي اكتسبه النقد الصحافي والعام ليصبح فعالية أكثر ديموقراطية وانتشارًا، بحيث لا تترك في أيدي الخبراء. يسعى هذا الكتاب بصور خاصة إلى تتبع عمليات الانفصال التي حدثت بين الناقد الأكاديمي والجمهور العام الواسع، مانحًا اهتمامًا خاصًا للنقد الأدبي. والثيمة الأساسية التي توجه الكتاب هي مصير عملية الحكم والتقويم والأساس التي بنيت عليه.
*** *** ***
(من: الفصل الثاني: أسس القيمة النقدية)
كما أن تبجيل القدماء والإصرار على تطبيق المعايير التي وضعها هوراس كان أقل إلحاحًا في إنجلترا بالمقارنة مع فرنسا. واحدٌ من الأسباب الأساسية لذلك تمثل في وجود شكسبير (1564-1616) الذي استطاع، على نحوٍ رائع، انتهاك القواعد، لكن أحدًا لم يستطع إنكار عظمته.
*** *** ***
ولادة الرومانسية وجهت عقارب الساعة في الاتجاه المعاكس للنيوكلاسيكية. وإذا كانت قوة دفع النيوكلاسيكية آتية من الهيبة التي تمتعت بها الثقافة القديمة، فإن قوة دفع الرومانسية نابعة من اتصالها بالأشكال الثقافية الشعبية الشائعة. سعت النيوكلاسيكية إلى بلوغ أوج الذوق والثقافة والحضارة، في الوقت الذي احتفلت الرومانسية بالطبيعة والبراري والقفار. إن مفردة "الطبيعة" لها دلالاتٌ مختلفة لدى كل من النيوكلاسيكيين والرومانسيين. فالمفردة لدى الرومانسيين لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالمنطق العقلي والنظام، بل إنها تحيل بالأحرى إلى عالم ما قبل الحضارة، أو العالم غير المتحضر، الذي ينبغي على الشاعر أن يحاول الاتصال مع أشكاله "الطبيعية" ووحدته العضوية، ويحاكيها. لقد كان الشعر عند الرومانسيين، بحاجة إلى التحرر من القواعد المفروضة عليه والبراعة في اختيار "معجمه الشعري". ففي القرن الخامس عشر كانت الكتابة باللغة العامية (لا باللاتينية) بحاجة إلى كل من دانتي وبوكاتشيو؛ وقد رغب وليام وردزورث (1770- 1850) وصمويل تيلور كوليريدج (1772- 1834) في تجريب الإمكانات الشعرية للغة الحديث اليومي، خصوصًا ما يجري منه على ألسنة الناس العاديين من الطبقة العاملة.
*** *** ***
لم يترك جون كيتس (1795-1821) مقالة نقدية أساسية واحدة أو مقدمة، لكنه انخرط في محاولة العثور على معنى للشعر في قصائده ورسائله، بحيث كان له دور في تاريخ النقد. لقد طور فكرة أن الشعر "ليس علمًا"، لكنه يشق طريقه إلى الحقيقة بعيدًا عن التشديد التجريبي والعقلاني على الوقائع أو المنطق العقلي. من حيث علاقته بالواقع، فإن الشعر أكثر اتصالًا بالحقيقة من أمور الحياة اليومية والتجربة التي يمكننا قياسها من خلال الملاحظة، لكونه يتصل بالخيال على نحو مكثف. فهو يقبض على الحقيقة من خلال الجمال الذي يعني بالنسبة لكيتس الشيء نفسه: "إن الجمال هو الحقيقة، والحقيقة هي الجمال"، "هذا كل ما تعرفه على الأرض/ وكل ما أنت بحاجة لمعرفته" ، كما يقول في مقطع شهير من "قصيدة غنائية عن جرَّة إغريقية". يشدد كيتس على قيمة "الكفاءة السلبية" التي يُعَرِّفها بأنها القدرة الشعرية على الدخول كليًا في الأعماق العاطفية والثقافية للصور الأدبية، بحيث يفقد المرء هويته وسعيه الدؤوب إلى العثور على التناغم المنطقي العقلاني، ولتشعر حواس المرء بالراحة حين تواجه "علامات اللايقين، والأسرار، والشكوك، دون بذل أية محاولة متعبة للوصول إلى الحقيقة والمنطق العقلي". إن فكرة أن الفن يمكن أن يكون عنصرًا مؤسسًا للحقيقة، لا مجرد محاكاة لواقع موجود سلفًا، سوف تبرهن على كونها مؤثرة بصورة مستمرة، وقد مارس كيتس تأثيرًا عظيمًا على [أوسكار] وايلد والنقاد الجماليين في أواخر القرن التاسع عشر. علاوة على ذلك، فإن فكرة أن الجمال يستطيع التغلب على أي اعتبار، حتى على ذات الشاعر أو هويته الشخصية، يتردد صداها في تشديد تي. إس. إليوت فيما بعد على "اللاشخصية".
*** *** ***
لقد طور شيلي فكرة أن الشعر عنصرٌ تكويني ضروري لولادة الأفكار الثقافية والعادات والتقاليد الاجتماعية، لا مجرد محاكٍ لهذه الأفكار والعادات. ومن ثم فإن العبارة التي عادةً ما تقتبسُ من عمله دفاعٌ عن الشعر (المكتوب عام 1821 لكنه لم ينشر إلا عام 1840)، هي أن الشعراء هم "مشرعو العالم غير المعترف بهم". إن دفاعه عن الشعر هو دفاع عن خصوبة الخيال. وإذا ترجمنا هذا الدفاع بعبارات اجتماعية وسياسية، فإنه يصبح دفاعًا عن الثورة المستمرة في مواجهة تصلب أشكال التأمل والتفكر وتكلسها. إن التشديد على شكل الاستعارة، وضرورة استخدامها في "دفاع عن الشعر" تضعه في مواجهة المعتقدات المتصلبة والقول بعدم وجود نظرية نظامية. بمعنى من المعاني، يرسم شيلي حدود رؤيته بصفته حربًا ضد اللغة والفكر الجاهزين عامةً. إن خضوع الشعر يمثل فضيلته ونقاط قوته لا ضعفه.
.
كانت الرومانسية في انجلترا، كما يتضح في حالة شيلي، تحمل في العادة بعض التوجهات اليسارية على الصعيد السياسي، وتمتلك روابط وثيقة مع الثورة الفرنسية. وعلى كل حال، فإننا نعثر في بعض الذُريات الأخرى للرومانسية، بما تجمله من عقيدة البطل وعلاقته بالعامة، وفي إيمانها بالطاقة البدائية، وأيدولوجية "الدم والتراب" التي آمنوا بها، على أصول النزعة القومية اليمينية السامة. ومن الواضح تمامًا، أن بعض عناصر العقيدة النازية تجد جذورها في بعض مسارات تفكير النظرية الرومانسية الألمانية، إذ أن الرفع من شأن العمل البطولي الخلاق، وتمجيد الجمال السامي المتعالي، يعني أن متاعب الحياة اليومية ومكابدات الضعفاء والبؤساء من الناس يمكن تجاهلها وإشاحة البصر عنها. في واحدة من حلقات تطورها، أدت الرومانسية إلى تحقيق استقلالية الفن، لكنها قد تؤدي أيضًا إلى تضييع القيم الفنية وتبديدها في عالم السياسة حيث يتم تجاوز المبادئ العقلانية المنظمة ذات الطابع الإنساني من قبل قوى رجعية، معادية للحريات الفردية، وراغبة في فرض نظمها الفاشية على الناس. أو، ولكي نوضع الأمر بعبارات أخرى، فإن الأيديولوجية الرومانسية في المجال الاجتماعي قد تؤدي إلى "تلوين السياسة بتلاوين جمالية"، إذا أمكن استعارة عبارة فالتر بنيامين.
لكن الرومانسية في ميراثها الإنجليزي كانت متحررة بعامة من النزعة السابقة. إن القيم والمعتقدات التي حملها الرومانسيون الإنجليز، بتثمينهم المبكر للثورة الفرنسية، موجهة نحو تحقيق سياسة تحررية. عندما دافع وردزروث عن اللغة والموضوعات الشعرية اليومية كان يسعى بالضبط إلى إيجاد صلات بين البشر بغض النظر عن طبقاتهم الاجتماعية، كما أن إعلاء شيلي من شأن الخيال الشعري موجه نحو تحقيق سياسات إعتاقية تحريرية. من هذا المنظور سيكون سهلا التشديد، بصورة مبالغ فيها، على الكيفية التي حل فيها تبجيل الفن وتثمين الكثافة الخاصة التي ينطوي عليها، وقدرته على الوصول إلى الحقيقة غير العقلانية، محل الفكرة العتيقة التي تقول إن على الفن أن يغرس الفضيلة ويرعاها. هناك بالطبع معانٍ سياسية واجتماعية متضمنة في دفاع الرومانسيين عن الفن والخيال. فعلى مدار تاريخ النقد، تواجد كل من حقلي علم الجمال والسياسة، الجميل والفضيل، بإصرار شديد حيث تواجد الآخر، حتى في حالة كون كلُّ منهما مستقلا بصورة ظاهرية عن الآخر.
*** *** ***
في نهاية القرن التاسع عشر، ظهر اتجاه جديد عرف باسم "الحركة الجمالية" أسسه الأستاذ في جامعة أكسفورد والتر بايتر (1839-1894) الذي طور عقيدة الجمال التي ألهمت جيلًا بكامله. في مقالاته، كما في كتابه دراسات في تاريخ النهضة (1873)، طور بايتر عقيدته التي تقول إن الجمال غايةٌ في حدد ذاته، ولذلك علينا تبنيه بكل ما فيه من متع قوية، حسية، قادرة على تعزيز ذاتها. إن الأفكار الفكتورية المبكرة الخاصة بالفن، والتي تبناها كل من رسكن وأرنولد، تنضح بالكثير من العناصر الوظيفية والنفعية. فإضفاء غايات أخلاقية واجتماعية على الفن يعني التهرب من الاعتراف بوضعيته الخاصة ذات الطبيعة غير النفعية، كمن يستخدم تحفة فنية عتيقة لا تقدر بثمن في شرب الشاي. وقد أصبح الاسم المتداول لهذه الحركة "الفن للفن" (Art for Art’s Sake). فليس للفن هدفٌ تعليمي تربوي، وعليه أن يكون جميلًا فقط. وكما يستنتج أوسكار وايلد، أبرز الداعين إلى الاهتمام بالجمال في حد ذاته بين أقرانه، في مقدمته الجامعة المانعة لروايته "صورة دوريان غراي The Picture of Dorian Gray (1891)"، تعد كل الفنون عديمة الفائدة تمامًا.
تكمن أهمية الفن، بالنسبة لبايتر في ما توفره من قوة وكثافة في التجربة، لا في ما تتمتع به من فضائل اجتماعية وأخلاقية أو دينية. ولهذا فإن غاية النقد لديه لا تتمثل في التطبيق العملي الدقيق للقواعد أو النظريات، بل في تمكين الخصوصية المتفردة للعمل الفني من الإشعاع وإبهار أبصارنا:
"لقد حاول كُتَّاب وشعراء عديدون تعريف الجمال تعريفًا مجردًا والتعبير عنه باستخدام تعبيرات واصطلاحات عامة، والعثور على صيغة كونية شاملة تحيط به، لكن قيمة مثل هذه المحاولات لم تتعد في معظم الأحيان الطريقة المثيرة الموحية والنافذة التي انطوت عليها. إن مثل هذا النوع من المناقشات لا يجلب لنا سوى القليل من النفع لكي نتمكن من الاستمتاع بالفنون والأشعار المتميزة، ولنميز بين الأجود والأقل جودة فيها، أو لنستخدم كلمات مثل الجمال، التميز والإبداع، والفن، والشعر، بمعنى أكثر عمقًا واتساعًا مما تعنيه تلك الكلمات. إن الجمال مثله مثل كل السمات والخصائص التي تختبرها التجربة الإنسانية، ذو طبيعة نسبية، ولذلك فإن وضع تعريف محدد له شيء لا معنى له ولا فائدة فيما يتعلق بصورته المجردة. ينبغي تعريف الجمال، لا بالمعنى المجرد، بل من خلال التعبيرات الاصطلاحية الأكثر ملموسية وتحديدًا، لا بهدف العثور على صيغة كونية شاملة له، بل على الصيغة التي تعبر بصورة كافية عن مظاهره وتجلياته المخصوصة المحددة، وهذا ما يمثل الغاية التي يسعى إليها التلميذ الجاد الذي يدرس علم الجمال".
الطريقة الوحيدة لتسليط ضوء النقد على "المظاهر المخصوصة المحددة" للجمال تتمثل في تقديم شرح واضح محدد لتذوقنا الذاتي، الشخصي بالضرورة.
"ما الذي تعنيه هذه الصورة، أو تلك الصورة، هذا المظهر الشخصي الجذاب الممتع في الحياة أو في الكتاب، بالنسبة لي؟ ما الأثر الذي تتركه فيَّ على وجه الحقيقة؟ هل تمنحني السعادة والبهجة؟ وإذا كانت كذلك، فأي نوع من السعادة والبهجة، وإلى أي درجة، سوف يؤثر ذلك فيَّ؟ هل يغير الحضور من طبيعتي وكيف يكون تأثيره؟ الإجابة على هذه الأسئلة تتمثل في الحقائق الأصيلة التي ينبغي على الناقد الجمالي أن يبحثها."
هكذا يقود تشديد بايتر على الجمال إلى نزعة جمالية فردية ذات طابع جذري. لكنه يميز موقفه عن تلك المواقف الانطباعية البسيطة، حيث تتساوى خبرة شخص ما مع عمل عادي لا يمتلك أهمية كبيرة مع خبرته مع عمل كلاسيكي من أمهات الكتب، من خلال تأكيده على ضرورة التمييز بين هذين العملين. ومع أنه يتجنب القول بوجود "صيغة كونية شاملة" فإنه لا يتسامح في موضوع التميز والسوية الفنية.
لقد كان كتاب بايتر دراسات في تاريخ النهضة بمثابة الفضيحة، فتبنيه للحسية والفردية أكثر وضوحًا في خاتمته الشهيرة. ما يهم بالفعل ليس الأخلاق، أو الدين، بل حدة التجربة وكثافتها وحالة الانتشاء الروحي التي تولدها. ينصحنا بايتر أن نحكم قبضتنا على "أي عاطفة جميلة رائعة، أو إسهام في المعرفة يعمل بصورة سامية على إطلاق الروح حرة للحظة من اللحظات، أو كل ما يثير الحواس وينشطها، الأصباغ الغريبة، الألوان العجيبة غير المألوفة، الروائح الغريبة المثيرة للفضول، أو ما تفعله يدا الفنان، أو وجهُ صديق. "
كان هذا المذهب بالنسبة لأوسكار وايلد الشاب بمثابة شيء لا يقاوم. ولسوف يقوم وايلد فيما بعد بتوسيع فردية بايتر ويحولها إلى نظرية جريئة في الفن والنقد. لقد ادعى البعض أن أوسكار وايلد قد سبق في مقالاته النقدية، التي يضمها كتابه مقاصد (Intentions) (1891)، التشديد ما بعد الحداثي على القوة التشريعية للغة (The constitutive power of language) وعلاقة ذلك بالإدراك. إن الواقع الوحيد الذي نعرفه هو الواقع الذي ندركه، لكن إدراكاتنا تتحدد من خلال منظور تعمل فيه الثقافة التي نعيش ضمنها على توسيطه وتشكيله إلى حد كبير. فأنت عندما تنظر إلى غروب الشمس، أو تشاهد نافورة أو جرذًا أو نسرًا، فإنك لا تعاينها كمشاهد محايد، بل إنك تستحضر كل تداعيات المعاني والتراكمات التي تلتصق بتلك الأشياء في ثقافتنا. تتولد تداعيات المعنى [بالطبع] من تمثيل تلك الأشياء في آلاف القصص والصور والحكايات الرمزية ذات المضمون الأخلاقي. "فما هي الطبيعة؟" ليست الطبيعة أما عظيمة ولدتنا. إنها من صنعنا. إنها موجودة في عقولنا التي تبث الحياة في تلك الطبيعة. إن الأشياء موجودة لأننا نراها، وما نراه منها وكيف نراه يعتمد على الفنون التي تأثرنا بها". لهذا، ليس الفن هو الذي يحاكي الحياة، بالنسبة لوايلد، بل إن الحياة هي التي تحاكي الفن. وكما تقول فيفيان في الحوار الذي يتناول معنى الجمال في "اضمحلال الكذب" (The Decay of Lying) (1889)": "من أين لنا أن نبصر ذلك الضباب الأسمر الغامق الجميل الذي يزحف نحو شوارعنا، ويكسو المصابيح الغازية، ويغير شكل منازلنا فتصبح ظلالًا مشوهة مخيفة، إن لم يكن متصلًا بانطباعاتنا؟"
إن الثقافة والفن بالنسبة لوايلد، يعتقان العالم الطبيعي، ويخلصانه من عاديته وتفاهته، وتماثليته. وإذا كان الفن قد عثر على الجمال في الطبيعة فإنه هو نفسه من أضفى الجمال عليها. لقد ادعى بايتر أن الطريقة الوحيدة لمعرفة الفن تتمثل في الشهادة الفردية عليه. وهو يطور بذلك تأكيد أرنولد على مهمة الناقد في "رؤية الشيء كما هو وفي حد ذاته"، من خلال إكسائه مظهرًا ذاتيًا شخصيًا -"إن الخطوة الأولى نحو تحقيق رؤية الشيء كما هو وفي حد ذاته تتمثل في التعرف على انطباعات المرء الذاتية، كما هي، وتمييزها عن غيرها". ويؤكد وايلد على أن الشهادة الفردية للشخص، سواء أكانت شهادة الفنان على الحياة، أم شهادة الناقد على العمل الفني، هي بالضرورة نوع من الإسقاط وفرض الرؤية، أو لنستعمل كلمات وايلد نفسه، هي محضُ "كذبة" لكن ذلك يؤدي، بشكلٍ حاسم، إلى أفضل مما توقعنا. لكن ليس التمثيل representation بل التحويل transformation هو ما يضفي على الفن طاقة السمو والعلو والخلاص.
على هذا النحو نكون قد أتممنا دورة كاملة وعدنا إلى موضعنا الأول. يتقبل وايلد الفكرة الأفلاطونية بأن الفن ليس سوى تحريف وتشويه، لكنه يقلب تمييز أفلاطون، بين الأصيل والتقليد، رأسًا على عقب. فإذا كان الفن "حجابًا بدلا من أن يكون مرآة"، فهذا أفضل بالنسبة لنا. إن النقد أيضًا حجابٌ حول الفن، وهو يفرض عليه أكاذيبه الرائعة. إن العلاقات التراتبية بين "الحياة"، التي تتربع فوق سدة الهرم، و"الفن"، الذي يأتي تاليًا، والنقد الذي يقوم بدور سندريللا الفقيرة البائسة، تجري زعزعتها بصورة جذرية، وتجريدها من قوتها، في مقالات وايلد الذكية الحكيمة والجامعة المانعة.
*** *** ***
(الفصل الثالث:العلم والحساسية)
يكتب إليوت: "علينا عندما نفكر في الشعر أن نتعامل معه بوصفه شعرًا لا كشيء آخر". بكلمات أخرى، لا يمثل الشعر وثيقة عن مرحلة تاريخية أو تعبيرًا عن نوايا المؤلف ومقاصده. علاوة على ذلك ليس الشعر وسيلة لمساعدة القراء على التعبير عن تجاربهم الشخصية، وإعانتهم على احتمالها. إنه مجموعة من الحقائق الصنعية والصور والتمثلات المستقلة، والمعزولة عن فوضى شروط العيش اليومي من حيث إنشاؤها وتلقيها.
سوف تشكل هذه الأفكار العمود الفقري الأساسي للنقد الاكاديمي الناشيء، لكنها ستكون في حاجة إلى تنظيم منهجي. [...]
لكن مع ميل المزاج بصورة حاسمة نحو اليسار في نهاية الستينيات، فإن من المستغرب ألا يكون هناك رد فعل شامل على نبرة إليوت الأسلوبية السلطوية، وسياساته التراتبية ذات الطابع الهرمي، والروحية الجمالية الإقصائية في عمله. إن مبادئه الموضوعية المفترضة، كما قيل، تمثل بوضوح انحيازًا سياسيًا. إنه يتكلم عن "التقليد والموروث" كما لو كانا شيئًا غير قابل للمساءلة، شيئًا متجذرًا في العالم، متحاشيًا المطابقة الإجمالية بينه وبين الثقافة السائدة. فليس "العقل الأوروبي" ممثلا في العرق الأبيض، الذكر، والطبقات الثرية صاحبة الامتياز. ربما يكون هناك محاولة لتعديل قائمة المدعويين، بحذف ميلتون، والرومانسيين، وإضافة دن Donne، والشعراء الميتافيزيقيين والمسرحيين اليعاقبة، لكن الآثار الأدبية الكبرى التي تضمها قائمة مدعوي إليوت تظل محدودة، وحصرية، وذات طابع تراتبي هرمي، كما يمكن للمرء أن يتصور. فنادرًا ما يتم إنزال الجسر المتحرك الذي يؤدي إلى القلعة ليصعد أحدهم. هناك مساحة ضيقة جدًا في قائمة إليوت للاهتمام الجديد بالأصوات المهمشة والمقموعة، وللتقاليد الفرعية، ولتلك المضادة. كما أن إليوت، رغم تخلصه المفترض من الذائقة الفردية، لم يدرك أبدًا أن تحيزاته وتفضيلاته الخاصة قد تكون أملت الآثار الأدبية الكبرى التي تبناها. ورغم أن هذه التحيزات يجري دعما وتحصينها بالادعاء أنها تستند إلى الأعمال السابقة تاريخيًا (على هيئة "التقليد والموروث") فإن هذا النوع من التاريخ، وعلى نحو غير عادي، يبدو قليل الذكاء، ولا يتمتع بالمرونة أو يثير أية أسئلة أو إشكالات. [...] على كل حال، ففي الوقت الذي لا ترقى فيه أهمية شعر إليوت إلى الشك، يمكن لنا أن نرى كيف أن صورة إليوت كناقد، أكثر من التقويمات النقدية التي صدرت عنه، قد بهتت منذ سبعينيات القرن الماضي.
*** *** ***
سعى ريتشاردس (I. A. Richards)، مثله مثل الحداثيين، إلى نبذ الصيغ التجارية من التسلية والمتعة التي شعر أنها تعتمد على ردود الفعل العادية المستهلكة. لقد أخذ عن الشكلانيين الروس -وهم مجموعة من المنظرين الروس الذين سعوا إلى تحليل الخاصيات "الأدبية" للأدب- فكرة أن الأدب ينبغي أن يكون ضد التيار السائد، وأن يموضع نفسه ضمن حقل غير العادي. وهو يدعي "أن معظم الشعر الجيد تقريبًا مزعجٌ مقلق"
*** *** ***
كما يشير جون كرو رانسوم الأب المؤسس للنقد الجديد، فإن القصيدة "تشبه الدولة الديموقراطية، إذا جاز التعبير، التي تسعى إلى فرض سلطة الدولة دون أن تتعدى على خصوصيات مواطنيها".
*** *** ***
(الفصل الرابع: صعود "الدراسات الثقافية")
ربما يكون الفيلسوف والمؤرخ والناقد الفرنسي ميشيل فوكو أكثر شخص تأثيرًا في الإنسانيات، إذ تعاظم هذا التأثير في الثمانينيات والتسعينيات. لقد جعل المبادئ والإجراءات العملية الخاصة بالبنيوية تؤثر بقوة في التحليل التاريخي والماركسي. إن الأشياء والموضوعات الثقافية لا تكتسب معنى في صميم ذاتها، بل في سياق "خطابات" معينة تمثل شبكات من اللغة والأفكار التي تربط الفرد بالمجتمع وتقيد وتحصر في الوقت نفسه عملية التمثيل و[معنى] الحقيقة. كما أن "أنظمة وسلطات الحقيقة" مسيجة بإحكام من قبل أصحاب السلطة للحفاظ على سيطرتهم وهيمنتهم وتأثيرهم. إن الخطاب هو القوة، والقوة هي الخطاب. ضمن هذا النظام الهائل المعقد المتشابك، فإن الأثر الصُنعي أو العمل الفني، وبدلا من أن يكون كتلة كثيفة من المعاني التي يمكن استخلاصها من المجتمع، والذي يمكن من ثم وضعه موضع البحث والتحليل والتقويم، يصبح مجرد فرد واحد ضمن عائلة "العمليات الثقافية" المتعددة. وهكذا وكما هدمت الدراسات الثقافية الحدود بين الثقافتين "الرفيعة" و"الشعبية"، بين العمل الفني رفيع المستوى masterpiece والعمل الفني الشعبي الذي يهدف إلى مجرد التسلية، أسقطت أيضًا التمييز بين الثقافة كخلق وإبداع من أي نوع والسلوك اليومي للناس في المجتمع. بمعنى آخر، فقد أصبح المعنى الإبداعي الخلاق للثقافة جزءًا من المعنى الأنثروبولوجي. إن كتابة قصيدة، أو الذهاب إلى السينما، أو تنظيف أسناننا، هي جميعًا أجزاء من الطرق المعقدة التي يتولد من خلالها المعنى، وهي خاضعة كذلك لفحص المتخصصين في الدراسات الثقافية الماهرين في رسم الحدود الخاصة ب"الخطابات" متواصلة الحضور والتي تغذي الممارسة الاجتماعية.
*** *** ***
كانت الثقافة التي تستلهمها الدراسات الثقافية، وعلى نحو لا يثير الدهشة، يسارية النزعة بصورة واضحة وصريحة، فإذا كنتَ ستنعتها بأنها سياسية الطابع، فسوف يقال لك إن كل خطاب هو سياسة، بما في ذلك التقنيات التي يفترض أنها نزيهة محايدة والتي يستخدمها النقد الأدبي التقليدي –كلُّ ما في المسألة هو أن القيم المحافظة لا تدرك أنها كذلك، مفضلةً أن توارى تحيزاتها خلف قناع "الطبيعة الإنسانية" أو "القيمة الجمالية". ولذلك فإن أولئك الذين يريدون للثقافة أن تكون خاصة بفئة قليلة مرفوضون ويجري نعتهم بأنهم نخبويون، إن من يرغبون في انتشار الثقافة وجعلها تؤثر في تهذيب وتربية المجتمع كله متهمون بمحاولة تعميم قيم طبقتهم المتوسطة الإنسانوية الليبرالية الخاصة بصورة غير مشروعة.
[...] لقد جرى تحويل دراسة الأدب والفنون إلى مشروع سياسي واسع يزدري الشكلانية formalism (عزل العمل الفني عن سياقه) والولع بالآداب الرفيعة. كانت السياسات الراديكالية (وليست روح الثورات الطلابية عام 1968، واستلهاماتُها الثقافية، ببعيدة عن بدايات نشوء الدراسات الثقافية) وعدم الثقة بالأحكام الجمالية، أيًا كان نوعها، هي الحافز وراء نشوء هذه الدراسات. كما كانت الأحكام والتقويمات الفنية مجرد تمرينات للذوق، ونوعًا من الحلية المبهرجة المشكوك في قيمتها جرى التخلص منها بقدر عالٍ من التحيز والنخبوية الثقافية غير العارفة. فالحقيقة أن بعض المعلقين الثقافيين، نظروا إلى فكرة الثقافة الرفيعة التي تمسك بها أرنولد وليفيس كوسيلة لخلاص الحضارة والحفاظ عليها، بوصفها العدو اللدود. عام 1969 اعترف الأكاديمي لويس كامف أن كلمة الثقافة نفسها تجعله "يتقيأ". متحدثًا عن مركز لنكولن في نيويورك، وهو مبنى مشيد في منطقة مُنحت حينها لإسكان أصحاب الدخول المتدنية، أعلن كامف قائلا: "علينا ألا نترك عَرْضًا واحدًا دون أن نخربه. ينبغي أن نجفف النوافير من خلال ملئها بمادة كلوريد الكالسيوم، وأن نبول على التماثيل، ونلطخ الجدران بالخراء". هكذا، وفي تعبير كاشف عن التغيير الحاصل في السمات الجوهرية لتعليم الإنسانيات، جرى انتخاب كامف، بعد وقت قصير من تفوهه بآرائه هذه، رئيسًا لرابطة اللغات الحديثة، وهي أهم مؤسسة متخصصة في النقد الأدبي.
لم يرغب الأكاديميون الراديكاليون جميعهم بتلطيخ مراكز العروض الفنية، لكن كثيرًا منهم تبنى حجة عالم الاجتماع بيير بورديو (1930-2002) بخصوص العلاقة بين القيمة الثقافية والمكانة الاجتماعية. في أكثر أعماله أهمية وتقديرًا "التمييز: نقد اجتماعي لأحكام الذوق" الذي نشر عام 1979 وترجم إلى الإنجليزية عام 1984، يوضح لنا بورديو، من خلال البحوث المسحية والإحصائيات، كيف أن "الثقافة الرفيعة المتحذلقة"، الأوبرا والروايات الأدبية على سبيل المثال ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالطبقات الاجتماعية [العليا]، في الوقت التي تنجذب فيه أذواق الطبقات الأدنى إلى الموسيقى الشعبية والروايات المثيرة التي تلقى احترامًا أقل في العادة. وقد كان هذا العمل من الأبحاث الاجتماعية نادرة المثال التي أحدثت تأثيرًا كبيرًا رغم كون نتائجها متوقعة، فلن يشعر أي شخص بالصدمة عندما يعلم أن المتحمسين لموسيقى شوبان وروايات بلزاك هم سكان الأحياء الغنية في باريس لا من أبناء أحيائها الفقيرة. وهذا لا يعني، على أي حال، أن "السوية" الفنية العالية لهؤلاء الفنانين هي حيلة من أجل الإبقاء على شعور الطبقات الاجتماعية الفقيرة بالدونية. لكن هذا بالضبط هو المعنى الذي يستخلصه جيل كامل من الباحثين والمتخصصين في الدراسات الثقافية من الإحصاءات التي يوردها بورديو في بحثه. إنهم يدّعون أن الأحكام الجمالية بخصوص الذوق طبقية، وأيديولوجية، وهي مصممة من أجل الإبقاء على الوضع السياسي القائم كما هو.
بدلا من التشديد على "ما هو أدبي" أو على الثقافة الرفيعة، أو ما وصفه أرنولد بأنه "أفضل وأرفع شيء قيل وتعلمناه"، وجهت الدراسات الثقافية اهتمامها، مثل البنيوية التي تأثرت بها، نحو "كل شيء قيل وتعلمناه". بمعنى آخر، فإن الثقافة الغربية لا تمثل ما تراكم من لوحات ومنحوتات ومؤلفات عظيمة في دور العرض التشكيلي، والمتاحف، والمكتبات، بل إنها تمثل بالأحرى ممارسات الحياة اليومية جميعها، بدءًا من العناية بالحدائق وصولًا إلى ألعاب الأطفال الإلكترونية. لقد حلت الدراسات الثقافية مشكلة القيمة لا من خلال علمنتها، على طريقة ريتشاردس، أو عبر جعلها جزءًا من العالم الساحر المقدس للموروث، كما فعل إليوت، أو النظر لها كوسيلة للخلاص من خلال وضعها في حالة تناقض مع الثقافة الاستهلاكية السائدة على طريقة ليفيس، بل إنها مرت بالأحرى بمكواة بخارية فوق التراتبيات الهرمية جميعها، مسطحةً كل شيء ومحولة النشاط الإنساني كله إلى ممارسات ثقافية فاترة. سوف تمحص الدراسات الثقافية الاهتمام نفسه لجهاز الآيبود Ipod وللموسيقى التي نستمع إليها من خلاله، وللوحات الإعلانات التي تروج للفيلم كما للفيلم نفسه. إنها تنشب أسنانها في "الأوهام" النقدية الجديدة التي تدعي أن النص مستقل ومكتف بذاته. إن المعاني مصنوعة يجري تدعيمها ونشرها في المواد والأنسجة الاجتماعية؛ الآثار الصنعية أو الأعمال الفنية هي ببساطة مجرد عقد ونقاط التقاء تتولد منها المعاني والشفرات الرمزية.
ومع ذلك ورغم أن الدراسات الثقافية لا تصدر أحكام قيمة جمالية، فهي ليست "بريئة وخالية من حكم القيمة". إن ما يحركها هو برنامج سياسي -يساري، راديكالي، لا يثق بالسلطة ولا يشعر بالراحة تجاهها. وهي تناضل للكشف عن المصالح والأيديولوجية الكامنة وراء العمليات المزعومة الناعمة التي تديرها معظم الأشكال الثقافية. إن مفهوم الهيمنة hegemony، الذي طوره المنظر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891 - 1937)، والذي يتحدث عن القيم السائدة، غير الواعية في العادة، والأيديولوجيات التي تنبثق من نظام التراتبيات الهرمية في المجتمع، هو مفهوم مركزي بالنسبة للدراسات الثقافية. إن الآثار الصنعية والأعمال الفنية تجبَر على الاعتراف بدورها في تثبيت الأفكار الموروثة السائدة وتعزيزها. بهذا المعنى فإن مقاربة الدراسات الثقافية لرواية رومانسية عظيمة الانتشار، مثلا، قد تعزز الانحيازات الجنسية؛ أما المسلسل التلفزيوني البوليسي فقد يقال عنه إنه يعزز سلطة قوة الشرطة ومفهوم انحراف المجرمين بدلا من أن يسعى إلى فهمها سياسيًا واجتماعيًا. ولسوف يتحدث الدراسون الثقافيون الأكثر دقة وحرصًا في البحث عن التناقض والازدواجية، واضعين أيديهم على لحظات المقاومة الثقافية وكذلك على لحظات الامتثال والخضوع. لكن المعيار الأساسي للتقويم يبقى سياسيًا على العموم.
*** *** ***
انطلاقًا مما سبق من الصعب أن نقلل من حجم البرنامج السياسي الذي اضطلعت به الإنسانيات خلال السنوات الثلاثين الأخيرة. فالروحية العامة الخاصة بالدراسات الثقافية، وروح الثورة الطلابية 1968 التي ألهمتها، يصعب إيقافها لتسلحها بأهمية تمردها وعصيانها، وحسها الراديكالي. لكن عثور اليسار على ملاذ له في الإنسانيات، خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، قد يكون مع ذلك، عرضا من أعراض تراجع الاشتراكية. لقد بلغت النظرية ذروة صعودها في الثمانينيات بعد أن ترنحت الكتلة الشرقية وأصبحت آيلة للسقوط، وتعززت أيديولوجية السوق الحرة في الغرب. ففشل سياسات اليسار في عهد إدارتي تاتشر وريغان حرمه من الرسو في أي ميناء يذهب إليه. هكذا وجه كثير من مثقفي اليسار عملهم إلى أقسام الإنسانيات حيث يمكنهم توجيه طاقتهم الراديكالية، غير المهادنة، ضد الفلسفات المؤسسة للحضارة الغربية، دون أن يحدثوا في الحقيقة أي ضرر خارج قاعات المحاضرات. يشخص ريتشارد رورتي الحالة بوضوح، وهو يشير إلى لجوء الدراسات الثقافية إلى مبادئ ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية:
"يبدو أن اليسار الأكاديمي المعاصر يظن أنك كلما زدت من مستوى التجريد في كلامك أصبحت قدرتك على تقويض النظام الراسخ المستقر أكبر. وكلما كانت أجهزتك وأدواتك المفهومية أكثر جدة وفعالية كان نقدك أكثر جذرية ... إن هذه المحاولات العقيمة لكي يفلسف المرء موقفه ويبرره سياسيا هو عرضٌ من أعراض تراجع اليسار وتبنيه نوعًا من المقاربة المشهدية spectatorial للمشكلات التي تواجهها بلاده. إن إدارة الظهر للممارسة العملية ينتج هلوسة نظرية"المقاطع السابقة من كتاب:
موت الناقد
رونان ماكدونالد
ترجمة: فخري صالح
المركزالقومي للترجمة، القاهرة؛ دار عين للنشر، القاهرة
2014
_______________
_______________
تعليقات
إرسال تعليق
أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء