من مذكرات شارلي شابلن (2): النجاح
بقلم: شارلي شابلن
ترجمة: صلاح حافظ
اقرأ أولا: من مذكرات شارلي شابلن (1): الصعلوكوأصبحت الآن – حين أشهد أفلامي مع الجمهور- ألاحظ رد فعل مختلفًا وما كان أجملها من مكافأة تلك الموجة من السرور التي تشمل القاعة بمجرد ظهور عنوان (أفلام كيستون) .. وتلك الصيحات المبتهجة التي تستقبل ظهوري حتى قبل ان أفعل أي شيء. فلقد صرت أثيرًا لدى الجمهور. ولم أكن لأطمع في شيء أكثر من أن أواصل حياتي هكذا.. إذ كنت بالعلاوة التي أقبضها أحصل على مائتي دولار في الأسبوع.
تعلمت الكثير من (كيستون)، وعلمتها أنا الكثير. ففي تلك الأيام لم يكونوا يعرفون إلا قليلًا عن (التكنيك) أو الحرفية، او الحركة ... أو غير ذلك مما نقلته إليهم من المسرح. كذلك لم يكونوا يعرفون إلا قليلًا من التمثيل الطبيعي الصامت، فعند تكوين أي منظر كان المخرج يضع ممثليه سواء كانوا ثلاثة أو أربعة في خط واحد، يمثل (أريد أن أتزوج ابنتك) بأن يشير إلى نفسه، ثم إلى الفتاة! كل ذلك بأكثر الحركات فظاظة ومبالغة.
ولم يكن مثل هذا التمثيل ينطوي على أي ذكاء أو فاعلية، فبرزت أنا كشيء مختلف –أيام تلك الأفلام الأولى- إنني أمتلك ميزات كثيرة، وإنني أرتاد كعالم الجيولوجيا منطقة غنية لم تستكشف بعد. أعتقد أن تلك كانت أكثر فترات حياتي إثارة، لأنني فيها كنت على عتبة شيء جديد رائع..
[...]
والآن صارت عندي ثقة في أفكاري. وأعتقد إنني مدين بذلك إلى سينيت فمع أنه كان مثلي غير مثقف فإنه كان يؤمن بذوقه الخاص، وزرع في نفسي أنا أيضًا مثل هذا الإيمان. كما أن طريقته في العمل زادتني ثقة. وبدت لي طريقة صائبة. وكان مما حرك خيالي ملاحظته التي أبداها لي في أول يوم ذهبت فيه إلى الاستوديو: أننا لا نضع سيناريو، وإنما نبدأ بفكرة ثم نتبع التطور الطبيعي للأحداث.
خذ مثلا فيلم (ما قبل التاريخ) إذ لم يكن في ذهني حين بدأت العمل فيه غير تصرف واحد. وهو أن أظهر في صورة الإنسان الأول مرتديا فرو الدب، ثم أستعرض بعيني المكان، وأنا أنتزع الشعر من الفرو وأحشد به غليوني. كانت مثل هذه الفكرة تكفي وحدها لإلهامنا قصة عما قبل التاريخ، يدخل فيها بعد ذلك الحب والمنافسة والصراع، ثم المطاردة. وكانت هذه هي الطريقة التي نعمل بها جميعًا في كيستون.
ما زلت أذكر أول مرة رغبت فيها أن أضيف مبدأ آخر إلى أفلامي بالإضافة إلى الكوميديا، كنت أمثل فيلمًا اسمه (البواب الصغير). وكان المدير في هذا المنظر يطردني من العمل، وأثناء مناشدتي إياه أن يشفق علي ويدعني محتفظًا بوظيفتي، شرعت أمثل في رجاء أن لي أسرة كبيرة من الأطفال الصغار. ومع أنني كنت أصور هذا الرجاء تصويرًا كاريكاتيريًا، فإنني التفتُّ أثناء البروفة فإذا بالممثلة العجوز دورثي رافنبوت – وكانت تتفرج من جانب البلاتوه- تنفجر باكية بالدموع، وتقول لدهشتي الشديدة:
- أعرف أن المفروض أن يكون مضحكًا .. ولكنك تجعلني أبكي.
فأكدت لي بهذا شيئًا كنت أشعر به بالفعل، وهو أن عندي القدرة على انتزاع الدموع والضحكات سواء بسواء.
*** *** ***
ووجدت أنني "الآن صرت وحدي" كما قال هاملت، فمضيت ذلك المساء أتجول في الشوارع وأتفرج على واجهات المحال التجارية، وأقف عند النواصي بلا هدف، ما هذا الذي يحدث لي الآن؟ ها أنا في قمة نجاحي، مرتديًا ثيابي كاملة، ولا أجد مكانًا أذهب إليه، كيف يتأتي للإنسان أن يعرف الناس؟ أن يعرف أشخاصًا يستمتع بمعرفتهم، كان يبدو كأنما كافة البشر يعرفونني، بينما لا أعرف أنا أحدًا. وأنطويت على نفسي، أرثي لحالي، وقد سيطرت علي نوبة من الأسى. وتذكرت ممثلا ناجحًا في شركة كيستون قال لي ذات مرة:
- والآن قد وصلنا يا شارلي .. ما قيمة كل هذا؟
فأجبته:
- وصلنا إلى أين؟
*** *** ***
وقد سألني عدد كبير من الذين قابلوني كيف أحصل على أفكار أفلامي، ولكنني حتى هذه اللحظة لم أستطع أن أجد جوبًا شافيًا. فعلى مدى الأعوام لم أكتشف إلا أن الأفكار تأتي من خلال الرغبة الشديدة في إيجادها. فبالرغبة المتصلة يتحول العقل إلى "برج مراقبة" يفتش عن الحوادث والملابسات -التي تستثير الخيال- وقد تكون الموسيقى أحيانًا، أو مشهد غروب الشمس، مصدر إلهام بفكرة جديدة.
وكل ما أستطيع أن أقوله هو: التقط أي موضوع يثير انتباهك ثم طوره وعالج تفاصيله .. فإذا وصلت به إلى مرحلة تعجز عن التقدم بعدها، اطرحه جانبًا والتقط موضوعًا آخر، فغربلة الأشياء المتراكمة، والتخلص من بعضها، هو العملية التي تقود إلى العثور على ما تريد.
ولكن كيف يحصل الإنسان على الأفكار أصلا؟ بمجرد الإصرار إلى حد الجنون! إذا لا بد أن يكون الإنسان قادرًا على احتمال الألم والجهد والحتفاظ بحماسته وقتًا طويلًا. ولعل بعض الناس يجدون المهمة أسهل مما يجدها البعض الآخر، وإن كنت أشك في ذلك.
[...]
المصدر:
مذكرات شارلي شابلن
ترجمة: صلاح حافظ
تعليقات
إرسال تعليق
أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء