التواجد والتعاقب: مقاطع من كتاب: "الزمن والرواية"
|
وقد عبر وايتهد عن ذلك بقوله:
"في الماضي كانت الفترة الزمنية التي يستغرقها أي تغيير مهم أطول كثيرًا من عمر الكائن البشري، ولذلك ربت الإنسانية نفسها على التكيف لأوضاع ثابتة. أما اليوم فإن هذه الفترة الزمنية أصبحت أقصر كثيرًا من عمر الفرد، فأصبح لزامًا علينا أن نعد الأفراد لمواجهة أوضاع متجددة."
هذه الشهية التي لا تقنع أبدًا هي التي تكسب الزمن ألقه
بالنسبة لنا على مستوى الحياة اليومية،
فكلما حصلنا أو استطعنا أن نحصِّل أردنا المزيد، وكلما زادت سرعة تحصيلنا
لما نريد زاد وعينا بالتغير وحركة الزمن (هذا ليس مرادفًا بالضرورة للتحسن أو التقدم)
إن محور الوجود في هذا العصر هو السرعة، وهي العلاقة بين
المسافة والزمن.
ومن الجدير بالملاحظة أن كلمة "Speed" التي تعني السرعة كانت تعني في الأصل النجاح. والحضارة
الغربية تقيس النجاح اليوم بالزيادة في معدل الحركة للوصول إلى نقطة مكانية ما أو
هدف ما نضعه نصب أعيننا.
ويقدر الإنجاز بمدلولات الزمن الذي استغرقناه للوصول إلى
غاياتنا،
لأن الوقت له ثمنه، ونحن ليس
لدينا وقت للانتظار في عالم متغير.
وبينما تنتج المصانع آلاف الأدوات الجديدة لتوفير الوقت،
فإن مؤسسات الترفيه تنفق الملايين في تسليات لقتل الوقت. ويبدو أن
الحياة أصبحت عبارة عن تدافع محموم لتناول بضع كؤوس أخيرة قبل أن تعلن ساقية الحان
العنيدة إنذارها الصاعق: "انتهى الوقت يا سادة!" وتغلق الحان
إلى الأبد.
*** *** ***
الاهتمام بالزمن يتبدى في كل فن، في إيقاعات الجاز
القلقة بسبب سرعة تواثبها وتوقفها، وفي تحرير النبرة من تركيب المقطع في الموسيقى
الحديثة، وهو حاضر في بحث الشعراء عن إيقاعات أكثر حرية من الأنماط المقفلة نسبيًا
للأوزان والمقاطع التقليدية.
وهناك فنانون حاولوا أن ينقلوا انطباع مرور الزمن في
الرسوم، أي عملية الحركة نفسها لا مجرد حركة متوقفة. ولكن هذا
الاهتمام بالزمن أشد ما نلمسه في الرواية التي تظل مع التوجه الصحيح أكثر الأشكال
الأدبية مرونة وأشدها إثارة.
*** *** ***
وكما قال أحد
الروائيين الأولين:
"ما أسعدنا نحن القصصيين، أو قل نحن الذين نكتب عن الحياة، أنه لم يتقدم أرسطو حديث ليضع لنا القواعد لكيفية التعامل مع القصة، مثل وحدات العمل والزمن والمكان التي فرضها القدماء على جميع كتاب المسرحية (إنني أهنئ نفسي كلما فكرت في ذلك)"
لقد تأخرت ولادة الرواية في الزمن حتى فات الوقت
لإخضاعها لقوانين المشرعين المتزمتين الأولين. فالمسرحية
صمدت لخطر التحجر الدائم،
وذلك بتجاوزها الملاحظات التي أبداها أرسطو على عمل كاتب
أو اثنين،
ثم رفعت إلى مستوى قواعد ثابتة غير قابلة للنقض صممت
لتقييد كل حرية.
والشعر أيضًا من الفنون التي "عقدت السلطة
لسانها"، فقد
كان يكفي الناقد أن يستشهد بهوراس كحجة شبه مقدسة ضد أي شيء يراه ذميمًا. أما الرواية فلم تكن قد بلغت بعد مرحلة تعتبر معها جديرة باهتمام النقد
الجاد. ولذلك لم يكن أمامها حاجز علمي شائك تخترقه. ومن هنا جاءت
الحرية وغنى التجربة والاستكشاف الجديد لأعراف وأساليب فنية جديدة كالتي رافقت
السنوات الأولى للقصة الحديثة وساعدتها باستمرار على تجديد قواها خلال القرنين
اللذين مرا على نشأتها.
ومن هنا أيضًا جاء اتسعدادها للتفاعل مع "مناخ الآراء" المعاصر.
*** *** ***
كان الأدب الحديث مهووسًا بمشكلة الزمن. فالكتاب الذين
يختلفون في كل شيء آخر يشتركون في هذا التشاغل. وأقلهم
اهتمامًا بالسياسة أو الفلسفة،
حتى أولئك الذين ينكرون أي اهتمام بالأفكار، يهتمون بالزمن
بصورة غريبة.
أو كما قال ناقد آخر أكثر تحفظًا:
"إن الجدل بين التقليديين والتجريبيين في الرواية الحديثة هو إلى حد ما جدل حول الزمن."
*** *** ***
يميز لسنغ في "لاوكون"
(Lessing: Laocoon) بين فئتين من الفنون:
الفنون القائمة على التواجد (أي الوجود
المشترك)
في المكان،
والفنون القائمة على التعاقب في الزمان. وتمثل الأولى
الأجسام مرئية في لحظة واحدة من وجودها، بينما تمثل الثانية الأفعال الناشئة في
تتابعات.
ومن الجلي أن العوامل والأعراف الزمنية تنطبق بصورة أخص
على الفنون الزمنية –
الموسيقى والأدب- تمييزًا لها عن الفنون المكانية – الرسم والنحت
والعمارة.
وفي فنون المحاكاة يجب التمييز مرة آخرى بين المحتوى
والواسطة:
فموضوع قطعة منحوتة قد يوحي بالحركة الدينامية وإن كانت
الواسطة ساكنة،
كما أن موضوع قصيدة ما قد يوحي بأجسام ساكنة من خلال
واسطة متحركة.
وهكذا الحال في الرواية، فإن ما يتم
التعبير عنه قد يكون إما ساكنًا وموضوعًا لوصف، أو متحركًا
وموضوعًا لسرد، وتكون واسطة التعبير في الحالين -وهي اللغة- عملية كلامية.
*** *** ***
إن كون التمثال "دائمًا قائمًا أمامك بكليته" لا يعني، كما يوحي كلام
وندهام لويس،
أن هناك "لحظة واحدة معينة يمكن أن يدرك فيها بكليته". والحقيقة أن
أولى هاتين المقولتين يمكن أن تقبل وإن تكن أقرب إلى الميتافيزيقا منها إلى نقد
الفن. أما المقولة الثانية فإنها على التأكيد موضع شك.
فالعين تحتاج إلى وقت لتنتقل من جزء إلى آخر، وانطباع رؤية
الكل ينتج من التتابع السريع للنظرات، وقد تكون الرؤية من زوايا مختلفة. وحتى عندما
يكون في الإمكان رؤية الكل دفعة واحدة فإن جزءًا واحدًا فقط يقع مجال الرؤية
البؤرية بينما يكون الباقي في مجال الرؤية الهامشية. ومن هذه
الناحية فإن التمثال لا يختلف إلا قليلا عن قطع الموسيقى حيث أنه يتطلب ذاكرة " وعليك أن
تأخذه جزءًا جزءًا".
...
كل شيء هو بالنسبة لنا، بصورة رئيسية،
تركيبة، والأشياء المتواجدة التي يمكننا رؤيتها على حدة محدودة جدًا … ولا نرى في
أية لحظة من الزمن إلا عنصرًا صغيرًا من تركيبة الانطباعات الحسية، وهو العنصر
المباشر،
أما العناصر الأخرى فهي انطباعات حسية مجتزأة يمكن أن
تصبح مباشرة في اللحظة التالية،
ولكن ليس في الواقع.
إن قراءة قطعة قصيرة جدًا من الأدب بسرعة يمكن أن تنتج
نفس الوهم للكلية الفورية في الفكر المدرك حتى وإن كان الموضوع وصفًا لجسم ساكن.
"إن تواجد الشيء المادي يتصادم مع تتابع الكلام."
فالإدراك اللحظي بالنظر إلى لوحة أو تمثال له ما يعادله
في ما تلتقطه العين بالقراءة.
والعامل المميز للفنون التشكيلية، عن الفنون الزمنية هو أن العين تستطيع في الأولى أن
تنتقل في أي اتجاه وبأية سرعة في عملية تجميع الانطباع عن كلية الصورة أو التمثال. ولذلك يكون
الناظر حرًا في التركيز على أي جزء مهما يكن حجمه ولأية مدة يشاء وبأي ترتيب حسب
رغبته، وليس لضرورة كامنة في واسطة النحت أو الرسم. أما الموسيقى
والشعر: "فهما في جوهرهما من الفنون الزمنية التي يعتمد إدراكها على تعاقب ثابت
ومحدد. فنحن يمكننا أن نرى في تركيب الصورة ككل، ونستطيع أن
ندرس جميع التفاصيل من اليمين إلى الشمال أو من الشمال إلى اليمين، ومن أعلى إلى
أسفل، كما نريد.
ولكن هذا كله متعذر في اللحن أو الجملة. فالتجربة تظل
غير مكتملة أو مفهومة تمامًا إلى أن نصل إلى الكلمة الأخيرة أو النغم الأخير، ويكون ترتيبها
غير قابل لأن يعكس"
ومع ذلك فإننا كثيرًا ما نجد في تركيب اللوحة إيقاعًا
وتوازنً في الأجسام والخطوط والضوء تقنع العين بأن تتحرك في اتجاه معين وترتيب
معين وحتى بسرعة نسبية معينة.
ولكن قابلية قلب الاتجاه والترتيب والسرعة تظل قائمة. أما في
الرواية مثلا فإن المؤلف غير ملزم بتقديم سلسلة من الأفعال أو التجارب المتعاقبة. ولكن كل وحدة، سواء أكانت
فصلا أو فقرة،
يجب أن تفي بأعراف معينة للتتابع، لا بالنسبة
للكلمات في العلاقات النحوية والسياقية بين الكلمة والأخرى وحسب، بل أيضًا
بالنسبة لسير الأحداث والمشاعر والأفكار ضمن حدود تلك الوحدة مهما تكن صغيرة، حتى عندما
تبدأ الرواية من النهاية، كما في رواية وايلدر [ثورنتن وايلدر، روائي ومسرحي
أمريكي معاصرٍٍ] "جسر سان لويس راي" أو كتبت عكسًا كرواية غودون "كالب وليامز" .
وهكذا نرى أن للفنون التشكيليلة عواملها الزمنية وإن
كانت خاصية "عدم قابلية العكس"
الموجودة في الفنون الزمانية غير موجودة فيها.
*** *** ***
وهكذا فإننا نضيق النظرة عندما نشدد في قصر التواجد على
الفنون المكانية أو قصر التتابع على الفنون الزمنية. ولسنغ ومعظم
النقاد المحدثين الذين نظروا في هذه المسألة يبالغون في دقة التماهي بين الواسطة
وحدودها المنطقية،
ولم يلقوا بال لعامل الإيهام الذي يمكن به إيصال تأثيرات
خارج نطاق الواسطة.
مقتبسات من كتاب: الزمن والرواية
أ.أ. مندولا
ترجمة: بكر عباس
مراجعة: إحسان عباس
أ.أ. مندولا
ترجمة: بكر عباس
مراجعة: إحسان عباس
تعليقات
إرسال تعليق
أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء