حكاية للكائن الزمني: A Tale for The Time Being

بقلم: أحمد ع. الحضري

A Tale for The Time Being
 - Ruth Ozeki
     ما هو الزمن؟ الإجابة ليست سهلة. لكن الزمن في الحس العام يتلخص في: ماضٍ وحاضر ومستقبل؛ تتابع واضح خطي ثابت مستقر. الزمن الروائي في المقابل لا يتقيد بهذا التتابع فللروائي أن يرتب الأحداث كما يرى، قد يذكر المستقبل أولا ثم الماضي ثم الحاضر. وهناك زمن آخر يرتبط بالكتابة وهو زمن القراءة، القارئ في غرفته أو في مكتبه يجلس ليقرأ الرواية، ويستشعر الزمن بطريقة مختلفة. في البوذية لا يفهمون الزمن كخط يفهمونه كدائرة، وبالتالي فمفاهيم المستقبل والماضي ليست بالضرورة متنافرة لهذه الدرجة. أما في العلم الحديث متمثلا في النسبية والكوانتم فقد ابتعد أيضًا عن مفهوم الزمن في الحس العام. لماذا أذكر كل هذه المفاهيم في إطار الحديث عن رواية. لأنها جميعًا موجودة في هذه الرواية. هل هي رواية عن الزمن؟ ربما.
 
     اسم الرواية: "حكاية للكائن الزمني"، "ما هو الكائن الزمني؟ إنه شخص يعيش في الزمن، هذا يشملك، ويشملني، ويشمل كلَّ واحدٍ منا يكون أو كان أو سوف يكون" هكذا تشرح ناو  في الصفحات الأولى لمذكراتها. ومنذ السطور الأولى نتعرف على ناو كفتاة يابانية عاشت في أمريكا كل طفولتها قبل أن تعود إلى اليابان بعد فقدان أبيها لعمله في وادي السليكون، تمتلك حس فكاهة يظهر في كتابتها، منطلقة في الحديث، و ... تنوي على الانتحار. 
 
     مذكرات ناو الفتاة اليابانية وجدتها روث على الشاطئ داخل صندوق مع مجموعة من المتعلقات الأخرى: "خطابات، وساعة، ومذكرات أخرى صغيرة". روث التي تعيش في جزيرة من الجزر الكندية وهي نصف يابانية تبدأ في قراءة مذكرات ناو ومع الوقت يزداد تفاعلها معها. تقرر ألا تقرأها دفعةً واحدة . تحاول أن تعايش في قراءتها الحدث، أن تحس بالزمن بطريقة مقاربة لما أحست به ناو وهي تعيشه. ربما أرادت أن تكون أقرب لها. وأن تفهمها أكثر. روث متزوجة، وتعيش مع زوجها ذي الخلفية العلمية في جزيرة .. نتيجة لظروف مالية. الجزيرة هادئة مجتمعها صغير. 
 
     واضحٌ  أن ناو تكتب مذكراتها، وتقرأها روث بعد عدة سنوات. روث المنشغلة على الفتاة، والقلقة من فكرة انتحارها، تحاول البحث على الإنترنت لمعرفة مصيرها. المواد والمعلومات التي تجدها على الإنترنت مسار آخر للرواية. لن يحدث لقاء بين ناو وروث طول الرواية، لكن العلاقة بينهما قوية بشكل ما. ناو في مذكراتها تخاطب روث بشكل مباشر، وتسأل أسئلة أثناء الكتابة عن هذا القارئ المفترض وعن مكانه وجنسة وسنه. روث تنغمس في المذكرات بشدة، وتحاول بشكل غير منطقي إنقاذ الفتاة. الرواية في أغلب أجزئها تنقسم إلى فصول لناو، تليها فصول لروث. وأنت -أثناء القراءة- تقرأ في البداية مذكرات ناو، ثم تقرأ حكاية روث مع هذه المذكرات. 
 
     هذه المذكرات كانت ناو قد اشترتها، من أحد المتاجر، الذي يصنع مذكرات أنيقة عن طريق وضع ورق فارغ داخل أغلفة كتب قديمة، بعد نزع صفحات الكتاب الأصلي. اختارت ناو التي تعاني من اضطهاد زميلاتها لها، غلافًا فرنسيًا أحمر، لم تفهم معنى المكتوب عليه، لكنها اختارته لأن الكلمات الفرنسية ستبعد المتطفلين من زميلاتها. سيتضح فيما بعد أنه غلاف طبعة من طبعات رواية البحث عن الزمن المفقود. تسأل ناو بعد أن تعرف: "كيف يمكنك أن تبحث عن الزمن المفقود على أي حال؟ " 
 
     روث بطلة الرواية كاتبة، وهي في الجزيرة التي تعيش فيها تعاني من سكتة كتابية، فهي غير قادرة على الكتابة منذ فترة، وفي يوم ما وهي تمشي على الشاطئ تجد هذا الصندوق الذي يحتوي على المذكرات. بعد فترة من القراءة وعند لحظة تمهد بشكل واضح لموت ناو. تقابل روث تجربة غريبة. الصفحات التي كانت هناك في اليوم السابق، لم تعد هناك. تتحير روث في تفسير ذلك، هل هي بشكل ما سكتة قرائية، معادلة للسكتة الكتابية كما تعرفها؟ في لحظة ما يغدو تداخل روث مع المذكرات التي تقرأها، وثيقًا إلى الدرجة التي تظن فيها أنها تدخلت لتغير الأحداث. هل العلاقة هنا هي علاقة الكاتب القارئ المعتادة. هل ما أحدثته روث من أثر في مصير ناو هنا يقف عند حدود التأويل؟ وبالتالي يعبر الحدث الذي شاهدناه – ولم أحكه بالكامل- عن فعل القراءة بشكل رمزي. هل هي رواية عن الكتابة / القراءة؟ ربما. 
 
      أم أن الرواية في هذا الموقف تسائل مفاهيم الزمان والواقع بشكل أعمق، حتى وإن اختلف مع الحس العام. تشير الرواية في هذا المقطع وتشرح بقليل من التفصيل بعض أفكار ميكانيكا الكم، وتمزجها مع أفكار البوذية. في هذه اللحظة يتداخل واقع روث، مع أحلامها، مع المذكرات والرسائل التي تقرؤها.  
 
     توجد في الرواية حكاية فرعية نوعًا لا أملك ألا أتكلم عنها، زوج روث بطلة الرواية يملك قطًا. ونتيجة لخلفيته العلمية سماه شرودنجر. في الرواية حين تقرأ الاسم ستبتسم حتمًا إن كنت قد قرأت عن معضلة قط شرودنجر الشهير. الاسم صعب عمليًا كي ينادوا به القط، فصار له اسم آخر بيست، أو بيستو. بيست ف لحظة ما يخرج من المنزل ولا يرجع. الخوف هنا أن تكون الذئاب قد أكلته. هل القط حي؟ هل هو ميت؟ هذا أكثر ما يقلق  موريل زوج روث. بالتوازي مع معضلة شرودنجر الكمية، فبيستو أيضًا هو حي وميت في نفس الوقت. حتى يتأكدوا. علاقة روث مع ناو، يمكن النظر لها بنفس الطريقة. بشكل ما تتساءل روث طوال الوقت: هل انتحرت ناو؟ وإن كانت لم تنتحر، هل نجت من تسونامي الذي جرى في نفس المكان الذي كانت تعيش فيه؟ يمكنك أن تعتبر أن ناو هي ميتة وحية في نفس الوقت.
 
     الحكايات في الرواية كثيرة، فناو تحكي عن والدها هاروكي، ومحاولات انتحاره، وعن جدتها جيكو الكاهنة البوذية، ذات الأربعة والمائة عام. وعن عمها هاروكي الأول الذي كان قائدًا لطائرة انتحارية، من الطائرات التي هاجمت أمريكا. ولروث حكاياتها أيضًا: أصولها اليابانية، زوجها، أمها، الكتابة، القط شرودنجر. والرواية مليئة بالتفاصيل الممتعة، التي لا أظن أني أفسدتها بالحديث عن بعضها. 
 
     السرد أيضًا ذكي يتنقل بين راويين ناو، وروث. وهناك رسائل وحوارات، ورسائل موبايل قصيرة تتخل السرد وتخلق به إيقاعا محببًا. في الجزء الخاص بناو مثلا، ترسل رسالة ما لجدتها، و "سأخبركم بردها حين يصل" وفي المكان المناسب من السرد يجئ الرد الذي قد يكون دعابة أو حكمة، أو نصيحة وهو يخلق حالة ممتعة.  السرد ممتع، يتخلله حس ساخر مرح، وممتع، سواء في كتابة ناو أو في فقرات التي ترويها روث. أعجبني أيضًا طريقة استخدام الرواية للأحلام ببراعة،  بحيث تكون مرتبطة بأحداث وأحاديث وأفكار ما قبل النوم التي تم حكيها، ومعبرة عن روث ومشاعرها ورغباتها، ولكن ارتباط الأحلام مع الواقع كعادة الأحلام ارتباط غير شفاف، يفتح للقارئ فرصة للتأمل.

     يمكنك أن تقرأ الرواية على أنها عن الزمن، أو عن ثنائية الكتابة / القراءة، أو عن الموت والانتحار، أو عن علاقة الشرق والغرب، أو عن كل هؤلاء معًا.  أحيانًا ما يضفر الكاتب الحكايات لكي يكون بناء ما. لوحة كبيرة متخيلة. نهاية ما يرنو إليها. أحيانًا قد تقرأ راوية ما وتصل بشكل واضح إلى ما تتكلم عنه هذه الرواية، وتصل بسهولة لمركزها. وأحيانًا قد تسأل الكاتب بحيرة: ما الذي تريده؟ فتجيء عدة إجابات في ذهنك. كلها ممكنة، بل وكلها صحيحة. لست مضطرًا إذًا إلى الاختيار. ربما كلها مقصودة بشكلٍ ما. ربما اختارت الكاتبة بشكل متعمد أن تكتب رواية دون مركز وحيد، لتناسب الموضوعات غير التقليدية للرواية. وربما ليس مهمًا ما أرادته حقًا. طالما أنك وأنت تقرأقد تفاعلت مع النص بفهم، فمن حقك أن تساهم بوضع بصمتك الخاصة عليه.
 
     ترجمة هذه الرواية ستكون صعبة للغاية، بنية اللغة في الرواية نفسها معتمدة على مزج الإنجليزية بكثير من المصطلحات اليابانية التي يتم شرحها في الهوامش. المسألة هنا جزء من بنية اللغة، أن يقابل من يقرأ باللغة الإنجليزية عبارة غير مفهومة ويجد بجوارها الإحالة فيرجع لها ليعرف ما المعنى. جزء من لعبة اللغة في الرواية. نقل المعاني سيكون بسيطًا نوعًا لكن نقل الحالة هو الصعب. لأن الهوامش هنا لم تتم إضافتها من قبل شارح أو ناشر، بل هي جزء من بنية العمل كما اختارته المؤلفة.
 
     الفكرة ربما أن اللغة الإنجليزية ربما تكون أكثر مرونة لتقبل ألفاظ من خارجها، والأمريكان ربما متفاعلون بحكم الهجرات والانفتاح على الثقافة اليابانية، بحيث أن دخول ألفاظ بهذه الطريقة هو ممتع للقارئ. 
 
     التنسيق، والشكل الطباعي أيضا يتم استغلالها بشكل جيد، لكنها تصعب أيضًا عملية الترجمة. كيف ستترجم خربشات ناو وروث، التي تعبر فيها صورة الكلمات المكتوبة، مع مضمون هذه الكلمات عن المقصود، كاشفةً مشاعرهما. حتى لو ترجمت هذه الرواية، فأنصحك بقرائتها بلغتها الأصلية إن تمكنت من ذلك.

ترسم ناو في مذاكراتها مثلا:

مثال آخر: كلمة now كما خربشتها ناو في مذكراتها  ليست مجرد زينة  أو لعب هي جزء من السرد لا يستقيم دونه:

وتعبر روث عن مشاعرها في أحد المقاطع فتبدو هكذا:


عن روث أوزيكي  (Ruth Ozeki):

     روائية أمريكية كندية مولودة في 12 مارس 1956، مخرجة أفلام، ومعلمة/  كاهنة زن، صنعت عددًا من الأفلام المستقلة قبل التوجه لكتابة الأدب.  ولدت روث وتربت في ولاية كونيتيكت Connecticut لأب أمريكي وأم يابانية، درست الإنجليزية والدراسات الأسيوية في كلية سميث (Smith College). ارتحلت في آسيا عدة مرات. نالت منحة وزارة التعليم اليابانية لعمل دراسات عليا في الأدب الياباني الكلاسيكي في جامعة نارا.  خلال وجودها في اليابان درست تنسيق الزهور، ودراما الناجوكو   (Noh , or Nogaku drama )[وهي عروض درامية موسيقية يابانية يرجع تاريخها إلى القرن الرابع عشر تؤدى بممثلين يرتدون أقنعة]، ودرست أيضًا صناعة الأقنعة. ودَرَّسَت في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة كيوتو سانجيو  (Kyoto Sangyo University). 

 
     بعد عودتها من اليابان عملت في مجال الإخراج، أخرجت مجموعة من الأفلام المستقلة، وفاز فيلمها  (Body of Correspondence -1994)  بجائزة في مهرجان سان فرنسيسكو (New Visions Award at the San Francisco Film Festival). والفيلم به عناصر من السيرة الذاتية لروث أوزيكي أثناء رحلتها لليابان لجلب بقايا جدتها من اليابان. ووصلت روايتها التي أعرضها هنا، للقائمة القصيرة للبوكر التي تم إعلانها اليوم.

تعليقات

  1. أحييك وأشكرك على هذا العرض الرائع القيم لهذه الرواية أستاذ أحمد، وكذلك على التعريف بالكاتبة وسيرتها.
    وهذا العرض أثار شغفنا للحصول على الرواية وقراءتها.
    كل الشكر والتحية.

    ردحذف
    الردود
    1. أستاذ أحمد صالح، سعيد أن أعجبك العرض، وسعيد بإطرائك، وأتمنى أن تجد هنا على الدوام مزيد من الموضوعات المفيدة ... أشكرك جداا

      حذف

إرسال تعليق

أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

النوافذ

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات