الروحانية في الفن
المقاطع التالية منقولة من كتاب الروحانية في الفن لكاندنسكي تعريب فهمي البدوي
"إن الموسيقى كامنة في فطرة الإنسان، لهذا تؤثر في الروح مباشرة"، ويقول ديلاكروا: "كل أمرئ يعرف أن اللون الأصفر و البرتقالي والأحمر كلها ألوان توحي بالفرح والوفرة". هاتان المقولتان تكشفان عن العلاقة الحميمة بين الفنون بشكل عام، وبين فن الموسيقى، وفن الرسم الملون بشكل خاص. وقال جوتة : "لفن الرسم الملون أن يعتبر العلاقة بين الفنون ركيزة محورية له". وبهذه الملاحظة/النبوءة يبدو جوتة وكأنه هو الذي تنبأ بالموقع الذي يحتله فن الرسم الملون الآن، إذ يقف هذا الفن في الواقع في أول الطريق المؤدي به -إذا هو استقل بإمكاناته- إلى التجريد، أي إلى التكوين الفني الخالص.
ولفن التلوين سلاحان تحت تصرفه:
1- اللون
2- الشكل
إن الشكل form يجوز أن يكون كافيًا وحده لتمثيل شيء حقيقي أو وهمي، ويوجد في حيز يتحدد به. أما اللون فيستحيل عليه أن يمثل وحده شيئا بل يستحيل عليه أن يستغني عن حدود أيا كانت: إن مدىً لا نهائيًا من اللون الأحمر يمكن أن تراه بالتصور العقلي، غير أن الأمر يختلف عندما يقدم الأحمر في حالة الرسم.. عندئذٍ لا بد أن تصاحبه علاقات محددة المعالم من الألوان المكملة. ومن العلاقة بين اللون والشكل تولد قضية تأثيرات القالب؛ فالقالب وحده، حتى إن كان مجردًا تجريدًا كاملا أو هندسيًا فإن له قدره على الإيحاء لا تتوقف، تأمل مثلا المثلث؛ فبغض النظر عن كونه حاد الزاوية أو منفرج الزاوية أو متساوي الأضلاع، فإن له قيمة روحانية خاصة به وهي قيمة بالنسبة للقوالب الأخرى يمكن تعديلها بشكل ما، وينسحب هذا على شكل الدائرة والمربع وكل شكل هندسي يمكن تصوره. وهكذا يتضح تأثير الشكل واللون؛ "مثلث أصفر"، و"دائرة زرقاء"، و"مربع أزرق" .. كلها مختلفة ولها قيم روحية مختلفة. من البديهي أن كثيرًا من الألوان تتخالف مع قوالبها الشكلية؛ فالألوان ذات المذاق الحاد تحتاج إلى شكل هندسي حاد. والألوان الناعمة الرقيقة تحتاج إلى أشكال مستديرة أنثوية.ومع ذلك لا يجب التعميم، فليس كل مزيج غير متناسب من القوالب والألوان نشازًا بالضرورة، بل لعله بقليل من التحريك، يكشف الطريق لإمكانات جرس جديد، ولأن الألوان والأشكال لا تحصى فإن آثارها والمزج بينها يبقى معينًا لا ينضب.
***
وفي النهاية يجد الفنان أن عليه أن يضحي بما هو مشتت للروح؛ فيجد نفسه متوغلا في مملكة التجرد. ولكن ... هل معنى ذلك إذا أنه يجب علينا أن نتخلى كلية عن كل الموضوعات المادية وأن نرسم ما هو مجرد فقط؟
إن مشكلة استحداث الإيقاع بين ما هو مادي وما هو غير مادي، تجيبنا على سؤالنا فكما توقظ كل كلمة في النفس نغمة باطنة، كذلك يحدث مع كل قالب شكل نرسمه، وحرمان الفنان نفسه من الإمكانية إنما يعني الحد من قدرته على التعبير، غير أن هناك إجابة أخرى على سؤالنا: إجابة يحق للفنان دائمًا أن يستخدمها كلَّما عنَّ له سؤال يبدأ بلفظ "يجب" والحقيقة لا وجود إطلاقًا للفظ يجب في الفن لأنه "حر" دائمًا. تلك هي المشكلة الأولى، أما فيما يتصل بالإشكالية الثانية وهي إشكالية التكوين. أي إبداع العناصر الفرادى التي يتألف منها الكل فيلزمنا أن نتذكر أن لنفس القالب نفس القدرة على الاستهواء والتغير ومن ثم فإن الإيقاع بدوره يتنوع بتنوع المتغيرات في الشكل سواء في العناصر المحورية أو العناصر التي تبدو للوهلة الأولى غير ذات أهمية. كل عنصر له حضوره وفاعليته في الشكل المرئي، لكن ليس معنى ذلك أن أي فنان قادر على تقديم صورة طبق الأصل مما يجول في خاطره ووجدانه. إن تلك الأشكال المجردة التي لا يكون لها ترجمة مادية تحتاج إلى سند نظري لتبصير المتلقي. وبالمثل كلما صار الفن أكثر صعوبة تزداد ثروته من التعبير، وفي الوقت ذاته تتساقط مشكلة الإبهام والغموض ويحل محلها مشكلة: إلى أي مدى يحجب، ويبهم سحر شكل معين. ومرة أخرى تتسع دائرة الإمكان، إمكان مزج سحر معمَّى، ملثَّم بآخر صريح واستخلاص إمكانات جديدة للتداعي.
***
لهذا نرى أن الفن عبر الأزمنة ليس الشكل الظاهر ولكنه المعنى الباطن. نستخلص من هذا أن الحديث عن المدارس في الفن وعن معالم وخطوط التطور فيه وعن مبادئ الفن .. إلى غير ذلك، هو حديث مبني على خطأ في الفهم لا يؤدي إلا إلى التشويش والالتباس.
على الفنان أن يصم أذنيه عن تعاليم عصره ولا يلقي بالا إلا إلى اتجاه الحاجة الباطنة ويصغي إلى كلماتها هي دون كلام، وحينئذٍ سيستخدم - آمنًا من عثار وزلل - وسائل يعترف بها معاصروه أو يمنعونها ويحرمونها. ذلك أن الوسائل مقدسة ما دامت تطلبها وتفرضها الحاجة الباطنية .. وما عدا ذلك فكل وسيلة "حرام" ما دامت تتجه إلى كبت الحاجة الباطنة أو تحجبها.
عزيزي أحمد إزيك . .
ردحذفعندي تعليق على كلام كاندنسكي عندما يقول أن الأشكال المجردة تحتاج إلى نصوص نظرية موضحة حتى يتذوقها المتلقي . . فأنا أجزم بأن الشكل المجرد أو اللون المجرد . . إذا ضبط إيقاعه جيدا وإذا روعيت قيم الإنسجام ( الهارموني ) في تكوين العمل الفني فإن المتلقي سوف يتذوق هذا العمل بسلاسة وسهولة دون الحاجة لقراءة نصوص شارحة . . لأن النفس البشرية تستجيب للإيقاع المصنوع بجودة . . فأعتقد أننا إذا أردنا تزيين ميدان عام مثلا أو محطة مترو فسوف نلجأ للأشكال المجردة أكثر من وضع تقليد للوحة الموناليزا . . سوف يصعب وضع الموناليزا في الشارع لأنك تحتاج إلى التمعن فيها لوقت ما . . أما الأشكال المجردة فيسهل تذوقها لكن يجب ألا يقدم عليها إلا الفنانون المتمرسون جيدا . . . وشكرا لك على هذا المقتطف الهام . . .
العزيز أشرف: هذا الكتاب حسب ما أعلم كتب في بداية حياته نوعًا وفكره وفنه تطورا كثيرًا بعد ذلك ... لكنه يظل كتاب مهم للدخول للفن التجريدي بشكل عام ولكاندنسكي بشكل خاص... أما بخصوص تعليقك:
ردحذفلا أعلم إن كنت قد قرأت هذه العبارة له أو عنه ... لكنه في هذا الكتاب لا أذكر أنه تكلم عن مصاحبة اللوحة بكتابة نظرية بل نقل رؤية شخصية جدًا للأشكال والألوان ... أما الفقرة الواردة هنا "أما اللون فيستحيل عليه أن يمثل وحده شيئا بل يستحيل عليه أن يستغني عن حدود أيا كانت: إن مدىً لا نهائيًا من اللون الأحمر يمكن أن تراه بالتصور العقلي، غير أن الأمر يختلف عندما يقدم الأحمر في حالة الرسم.. عندئذٍ لا بد أن تصاحبه علاقات محددة المعالم من الألوان المكملة" ففيه يتحدث عن أن اللون منفردًا دون تشكيل غير كافي لصنع لوحة ... بل إن العلاقات بين الألوان المختلفة والأشكال التي تتخذها هذه الألوان هي ما تصنع اللوحة .. وأظن أن قراءة الفقرة الأخيرة من الاقتباس كافية لتوضيح مدى اتفاقكما في رأيي :) شكراا جدا على مرورك الثري
يا صديقي لقد جاء في مقتطفك هذه العبارة (( إن تلك الأشكال المجردة التي لا يكون لها ترجمة مادية تحتاج إلى سند نظري لتبصير المتلقي.)) وهي ما اعتمدت عليه في تكوين ملاحظتي . .
ردحذفوكتاب كاندسكي فعلا كتاب مؤسس في مجال التنظير للفن التجريدي فضلا عن عرضه الجيد لأفكار الفنان نفسه حول الفن وقيمة الجمال . . ولذلك أشكرك مرة أخرى على الاتيان بهذا الكتاب إلى دائرة الضوء في مدونتك الممتازة . .
مدونه ممتازه
ردحذفشكرا لكم
رائع جدا
ردحذفتمنياتنا لكم بالمزيد من التقدم والازدهار
هل هناك pdf للكتاب بحثت عنه كثيرا لم اجده
ردحذفالسلام عليكم، المعلومات رائعة إذا كان في امكانية الحصول على نسخة pdf جازاكم الله خيرا
حذف