أحلام المساجين (مقتطف)
أعتقد أن «لسنج» هو الذي قال ذات مرة: «توجد أشياء تؤدي بك إلى أن تفقد عقلك، وإلا فإنه لا يوجد لديك ما تفقده». ثم إن رد الفعل غير السوي إزاء موقف غير سوي هو استجابة سوية. بل إننا الأطباء النفسيون نتوقع أن تكون ردود أفعال الانسان إزاء موقف غير سوي، كأن يحول إلى مستشفى للأمراض العقلية، ردود أفعال غير سوية قياسا إلى درجة سوائه، وفي ذلك يمثل أيضًا رد فعل الإنسان إزاء ادخاله معسكر اعتقال حالة غير سوية للعقل، ولكن إذا حكمنا عليها موضوعيا فإنها تعتبر حالة سوية، وأنها - كما سنشير إلى ذلك فيما بعد -رد فعل طبيعي تجاه مثل هذه الظروف. هذه الاستجابات قد بدأت تتغير في غضون أيام قليلة. يتضح ذلك في انتقال السجين من الطور الأول [الصدمة] إلى الثاني؛ وهو طور البلادة النسبية، حيث يصل به إلى نوع من الموت الانفعالي.
***
كانت البلادة - وهي العرض الرئيسي للمرحلة الثانية - وهي الميكانزم الضروري للدفاع عن الذات. لقد أصبح الواقع مظلما، وغدت كل الجهود وكل الانفعالات متمركزة حول مهمة واحدة: المحافظة على الحياة -حياة الفرد ذاتها وحياة زميله. لقد كان من المتواتر أن تسمع المسجونين، بعد عودتهم في المساء الى المعسكر من مواقع عملهم، يتنهدون بارتياح قائلين: «حسنا، لقد انقضى يوم آخر».
من المفهوم اذن أن مثل هذه الحالة من التوتر، وما يصحبها من الشعور بالحاجة المستمرة إلى التركيز على هدف بقاء الشخص حيا، قد تقهقرت بالحياة الداخلية للسجين إلى مستوى بدائي. ولهذا فكثيرا ما كان زملائي بالمعسكر ممن تلقوا تدريبا على التحليل النفسي يتحدثون عن ظاهرة «النكوص» عند نزيل المعسكر -وهذه الظاهرة هي التقهقر إلى أشكال من الحياة النفسية أكثر بدائية من تلك التي يعيشونها. ويتضح ذلك فيما تتضمنه احلام السجين من أماني ورغبات.
ما الذي كان يحلم به السجين في معظم الحالات؟ لقد كانت أحلامه تدور حول الخبز والكعك والسجائر والحمامات الساخنة اللطيفة. ولقد أدى به نقص إشباع هذه الرغبات البسيطة إلى السعي إلى إشباعها في الأحلام.
وسواء أكان هذه الأحلام تأثير طيب أم لا، فان هذا موضوع آخر؛ فلقد كان على السجين الحالم أن يستيقظ من أحلامه إلى واقع حياة المعسكر، والى التناقض المريع بين حقيقة الواقع ووهم الأحلام.
ولست أنسى أبدا كيف أني استيقظت ذات ليلة على أنين أحد المسجونين الزملاء، وكان يطرح نفسه متقلبا هنا وهناك أثناء نومه، وكان واضحا أنه كان يعاني حينذاك من كابوس مفزع، ولما كنت أشفق دائما بصفة خاصة على أولئك الذين يعانون من أحلام مفزعة أو من هذيان عنيف، فقد أردت أن أوقظ هذا الانسان المسكين. وفجأة غيرت رأيي وسحبت يدي التي كانت مستعدة أن تهزه، وخشيت حينذاك من الشيء الذي كنت على وشك أن أفعله. ففي تلك اللحظة صرت واعيا بالحقيقة التي نعيشها وهي أنه لا الحلم ولا أي موضوع آخر مهما بلغت درجة الرعب التي يثيرها، يمكن أن يكون سيئاً كواقع المعسكر الذي يحيط بنا، والذي كنت على وشك أن أعيده إلى ذهنه.
مقاطع من كتاب:
الإنسَان والبحَث عَن المعَنَي: معنى الحياة والعلاج بالمعنى، مقدّمة في العِلاج بالمعَني والتسامي بالنفسْ/ فيكتور فرانكل
تعليقات
إرسال تعليق
أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء