الفن والحرية (اقتباس)




ولقد كان الفنان في ذلك المجتمع ومضطرًا إلى العمل في ظروف من القهر لو طبقنا عليها النظريات الجمالية التحررية الحديثة، لاستحال أساسًا إنجاز أي عمل ثقافي أصيل منذ البداية. ومع ذلك فإن بعضًا من أروع الأعمال الفنية قد ظهرت هنا في الشرق القديم، على وجه التحديد، وذلك في ظل أقسى ضغط يمكن تصوره، مما يثبت أنه لا توجد علاقة مباشرة بين الحرية الشخصية للفنان وبين القيمة الجمالية لأعماله. ذلك لأن من الحقائق التي ينبغي الاعتراف بها أن كل مقصد للفنان ينبغي أن يشق طريقه خلال شبكة شديدة الإحكام. فكل عمل فني ينتج بفضل التوتر بين سلسلة من المقاصد وسلسلة من العوامل التي تقاوم تحقيق هذه المقاصد -أعني توترًا بين عوامل مقاومة مثل عدم السماح بموضوعات معينة، ومظاهر التعصب الاجتماعي، وسوء الحكم لدى الجماهير، وبين المقاصد التي إما أن تكون قد استوعبت بالفعل عوامل المقاومة هذه، وإما أن تقف في وجهها صراحة ودون مواربة. فإذا كانت عوامل المقاومة في اتجاه معين مما يستحيل التغلب عليه، فعندئذ تتحول ملكة الابتكار لدى الفنان وقدرته على التعبير إلى هدف لا يعترض طريقه شيء، ولكنه نادرًا ما يكون لديه مجرد الشعور بأن العمل الذي أنجزه بديل للعمل الحقيقي. وحتى في أشد الديموقراطيات تحررًا نجد أن الفنان لا يتحرك بحرية وانطلاق كاملين. فهناك عوامل لا حصر لها، خارجة عن نطاق فنه، تعمل على تقييد حريته حتى في مجتمع كهذا. وقد يكون للاختلاف في مقدار الحرية أهمية عظمى بالنسبة إليه شخصيًا، أما من حيث المبدأ فليس ثمة فارق بين الأوامر الغاشمة لحاكم مطلق، وبين تقاليد النظام الاجتماعي، حتى لو كان ذلك النظام شديد التحرر. ولو كانت القوة في ذاتها مضادة لروح الفن ، لما أمكن أن تنشأ الأعمال الفنية الرائعة إلا في حالة الفوضى الكاملة. ولكن الواقع أن الشروط التي تتوقف عليها الطبيعة الجمالية لعمل ما تتجاوز نطاق التقابل بين الحرية والقهر السياسيين. ومعنى ذلك إنه إذا كانت وجهة النظر الفوضوية على خطأ، فإنه الموقف المتطرف الآخر لا يقل عنه خطأ، وأعني به افتراض أن القيود التي تحد من حرية الفنان في الحركة هي في ذاتها نافعة مثمرة، وأنه حرية الفنان الحديث هي المسؤولة بالتالي عن عيوب الفن الحديث، وأنه من الواجب فرض القهر والقيود بطريقة مصطنعة على أساس أنها هي الضمانات المزعومة لظهور فن له "أسلوب" بالمعنى الصحيح.

مقطع من كتاب: الفن والمجتمع عبر التاريخ
تأليف: أرنولد هاوزر
ترجمة: فؤاد زكريا 
الفصل الأول من الباب الثاني (مجلد١)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

النوافذ

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات