المفارقة
بقلم: أحمد ع. الحضري
(١)
في إحدى قصائد الهايكو اليابانية يقول الشاعر: «كانت العصافير تطيرُ من فزَّاعةٍ إلى أخرى.» والاقتباس الوارد هنا هو القصيدة كلها لا مقطع منها؛ فقصائد الهايكو معروفة بتكثيفها الشديد. لكن القصيدة هنا رغم قِصَرِهَا تحمل مفارقة تلفِت الانتباه، وتدفع إلى الابتسام. ففي صورةٍ بصريةٍ -تبدو عاديةً- تم الْتِقاطها ببراعة، يلمح الشاعر التناقض الظاهر بين دور الفَزَّاعة المفترض، وحالها الفعلي في هذه اللحظة. وبالْتِقاطه للحظة في تكثيف، وشاعرية، وصياغة محكمة يبرز التناقض المحبَّب.
By: M.C. Escher |
تقول قصيدة هايكو أخرى: «بائع المراوح … يحملُ حِملًا من الهواء … يا للحرارة!» في هذا النص القصير للغاية أكثر من مفارقة؛ تظهر المفارقة الأولى في تعبيره «حِملًا من الهواء.» الهواء كما نعلم خفيف للغاية، حتى إننا نستخدم الكلمة للتعبير عن الخفة المتناهية، لكن القصيدة هنا من خلال الصياغة البارعة تجعل البائع يرزح تحت حِملٍ من الهواء. تكمن المفارقة الثانية في أن من يحمل حِمل الهواء ويبيعه للآخرين لكي يقاوموا به حرارة الجو، هو أكثر من يقع فريسة لهذه الحرارة، خصوصًا مع حمله الثقيل الذي يتجول به: «يا للحرارة!» الصياغة الثاقبة تنقل لنا نظرة الشاعر للمشهد، وهي نظرة تدفعنا إلى الابتسام؛ استمتاعًا بالصورة اللافتة والتكثيف الخارق. تنقل القصيدة كل هذا في أقل من عشر كلمات! هذه هي قوة المفارقة؛ فالمفارقة قادرة على أن تكون موجزة، ومشحونة، وكاشفة، وجاذبة للانتباه، ودافعة للتفكير أيضًا في نفس الوقت.
في الفقرة الأولى من تمهيد كتاب: «تاريخ موجز للمفارقة: الفلسفة ومتاهات العقل» A Brief History of the Paradox: Philosophy and the Labyrinths of the Mind للمؤلف «روي سورينسن» Roy Sorensen يقول المؤلف:
يصف الرياضيون الأعداد الأولية باعتبارها ذَرَّات الأعداد؛ لأن كل الأعداد يمكن تحليلها باعتبارها حواصل لهذه الأوليات. أنا أنظر إلى المفارقات باعتبارها ذرات الفلسفة؛ لأنها تؤلِّف نقاط الانطلاق الأساسية لأي تأمل منضبط.
يفسر رأيه هذا بأن:
الفلسفة تنعقد بأسئلتها أكثر مما تنعقد بإجاباتها. والأسئلة الفلسفية الأساسية تأتي من المفارقات التي تبرز لنا في نطاق مخططنا المفاهيمي المعتاد.
توضح المقدمة نفسها بعد ذلك أن المفارقات أسئلة تُوقِفُنا بين عدة إجابات جيدة. يتساءل للتوضيح: «حين تنقسم أميبا إلى اثنتين، هل تتوقف عن الوجود؟» ويوضح كيف أن لهذا السؤال أكثرَ من إجابة واحدة، ويؤكد أن فرض إجابة من هذه الإجابات سيكون متعسفًا؛ فمن جهة هي تتوقف عن الوجود بشكلها الأصلي، لكن من جهة أخرى هناك حيوانات يمكن أن تنجو من فقدان أجزاء منها، وإذا اعتبرناها ما زالت موجودة؛ فهل يصح أن نشير إليها باعتبارها فقط أحد الفردين الناتجين عن عملية الانقسام، وهل يصح أن نشير إليها باعتبارها كلتيهما؛ مخالفين في هذا الفكرة التي تُنظر للكائن الحي باعتباره كلًّا موحَّدًا؟
يقول الكتاب بعد ذلك:
قد يبدو الحس المشترك Common sense كأنه كلٌّ سرمديٌّ خالٍ من التشقُّقات، لكنه في الحقيقة يشبه سطح الأرض؛ بازل مكون من صفائح ضخمة تتصادم وتحتكُّ ببطء بعضها ببعض. استقرار اليابسة ناتجٌ عن قوًى وقوًى مضادة كبيرة. التوازن ليس مثاليًّا؛ هناك دائمًا توترٌ كامنٌ، وبين الحين والآخر، يحدث انزلاق. المفارقات تشير إلى خطوط الصدوع في عالم الحس المشترك الخاص بنا.
ثم يتساءل:
هل يمكن أن نَعُدَّ المفارقات أعراضًا لزَلَّات في المنطق البشري؟ هل هي إشارات إلى حقائق لا يمكن التعبير عنها؟
(٣)
ما هي المفارقة paradox؟
إذا راجعنا قاموس Merriam-Webster فسنجد أنه يعرِّفها بأنها: «تعبير يبدو أنه يقول شيئين متعارضين، لكنه قد يكون صحيحًا مع ذلك.» أحيانًا تنتج المفارقة عن صياغة ملتبسة بشكلٍ متعمدٍ أو عرضيٍّ، وأحيانًا تكون المفارقة معبِّرةً عن جدلٍ حقيقيٍّ لا يمكن حلُّه بسهولةٍ ككثيرٍ من المفارقات الفلسفية المشهورة.
المفارقة في الأدب أداة من الأدوات المهمة للغاية، وهي كثيرًا ما تكونُ قادرةً -كما أشرنا في بداية المقال- على الإمساك بالتناقضات الكامنة في لحظات أو رُؤًى بعينها. قد تسكن المفارقة الشعرية في صُلب المشهد أو الحدث الموصوف، وقد تنبع من ذات الشاعر بشكلٍ أكبر، لكنها في الحالين قد تعبر عن رؤية مختلفة للعالم أو للذات.
المفارقة حاضرة كذلك في الأحاديث اليومية، ربما تأثُّرًا بالأدب، وربما لأن أي لغة لا تخلو منها؛ فحين نتحدث مثلًا عن الغائب الحاضر، نعني شخصًا غاب عنَّا بجسده، لكنه حاضرٌ معنا مع ذلك بأفعاله أو مآثره. وهناك من سار بهذه المفارقة خطوة أبعد متحدثًا عن «غياب الحضور وحضور الغياب».
نحن الآن ندرك أن المفارقة حاضرة كذلك في العلم الحديث، وقد قدمت نظرية النسبية وفيزياء الكَمِّ عددًا من المفارقات التي تبدو مدهشة وغير منطقية من وجهة نظر الحس المشترك، لكنها صارت مجرد بَدَهِيَّات من وجهة نظر الفيزياء اليوم. يقول «رودولف بيرلز» Rudolf Peierls أحد أبرز علماء الفريق الذي صنع أول قنبلة ذرية: «لقد تعلَّمَ الفيزيائيون دائمًا الكثير من المفارقة.»
___________________________
المفارقة في الأدب أداة من الأدوات المهمة للغاية، وهي كثيرًا ما تكونُ قادرةً -كما أشرنا في بداية المقال- على الإمساك بالتناقضات الكامنة في لحظات أو رُؤًى بعينها. قد تسكن المفارقة الشعرية في صُلب المشهد أو الحدث الموصوف، وقد تنبع من ذات الشاعر بشكلٍ أكبر، لكنها في الحالين قد تعبر عن رؤية مختلفة للعالم أو للذات.
المفارقة حاضرة كذلك في الأحاديث اليومية، ربما تأثُّرًا بالأدب، وربما لأن أي لغة لا تخلو منها؛ فحين نتحدث مثلًا عن الغائب الحاضر، نعني شخصًا غاب عنَّا بجسده، لكنه حاضرٌ معنا مع ذلك بأفعاله أو مآثره. وهناك من سار بهذه المفارقة خطوة أبعد متحدثًا عن «غياب الحضور وحضور الغياب».
نحن الآن ندرك أن المفارقة حاضرة كذلك في العلم الحديث، وقد قدمت نظرية النسبية وفيزياء الكَمِّ عددًا من المفارقات التي تبدو مدهشة وغير منطقية من وجهة نظر الحس المشترك، لكنها صارت مجرد بَدَهِيَّات من وجهة نظر الفيزياء اليوم. يقول «رودولف بيرلز» Rudolf Peierls أحد أبرز علماء الفريق الذي صنع أول قنبلة ذرية: «لقد تعلَّمَ الفيزيائيون دائمًا الكثير من المفارقة.»
___________________________
(١) أنقل قصائد الهايكو الواردة في المقال عن كتاب: «كلاسيكيات الهايكو» الصادر عام ٢٠٠٦ في جزأين عن المجلس الأعلى للثقافة، وهو من ترجمة وتقديم: بدر الديب.
(٢) استخدم «فخري صالح» في ترجمته لكتاب «موت الناقد» لرونان ماكدونالد، الصادر مؤخرًا، تعبير «المفارقة الضدية» كترجمة لكلمة Paradox تمييزًا لها عن المفارقة الساخرة Irony.
(٣) «غياب الحضور وحضور الغياب» هو عنوان ديوان شعر عامية للشاعر المصري الراحل «عمر نجم».
تعليقات
إرسال تعليق
أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء