الأحلامُ نصوصٌ أدبية
بقلم: أحمد ع. الحضري
(1)
في رواية «مائة عام من العزلة» للروائي العالمي «جابرييل جارثيا ماركيز» حكاية صغيرة عن فتاة شديدة الجمال عاشت في «ماكوندو» وأَحَبَّها كثيرٌ من الرجال. تصِف الرواية مشهدًا جميلًا تصعد فيه «ريميديوس» إلى السماء بينما كانت تقومُ بطيِّ الملاءات. يحكي ماركيز كيف أن هذا المشهد كان مستوحًى من حدثٍ حقيقيٍّ جرى في قريته، قرَّرَتْ في سياقه إحدى النساء -بعد هروب حفيدتها مع أحد شباب القرية- أن تغطِّي على ما حدث بالفعل، بحكايةٍ عن صعود الفتاة إلى السماء. يقول أيضًا إن تفصيلة صعودها إلى السماء حين كانت تطوي الملاءات تحديدًا أتته حين رأى في أحد الأيام امرأة تجمع الملاءات أثناء هبوب رياح عنيفة. في هذا المشهد اختار ماركيز أن يحكي فقط ما قالته الجَدَّة، متجاهلًا الحدث الواقعيَّ الأصليَّ، أضاف بعض عناصر من مشاهد مختلفة لتكتمل الصورة التي تناسب سياق الرواية. ومن خلال عملية الاختيار والتكثيف التي قام بها أثناء خلقه للمشهد، نجح في صياغة مشهدٍ مبهرٍ، يروي فيه حكايةً غير منطقية بمعايير الحسِّ اليوميِّ العادي، لكنها في سياق الرواية حين يتم توظيفها بشكل سليم، تكون شديدة الإيحاء والجمال.
العَلاقة بين المشهد الروائي والحدث الواقعي الأصلي، عَلاقةٌ غريبةٌ من وجهة نظرٍ ما، المشهدان يتشابهان ويختلفان في الوقت نفسه، المشهد الروائي هنا مستمَدٌّ من الواقع، لكن جرى عليه شكل من أشكال التحريف، استخلص الروائيُّ جوهرًا ما من المشهد الواقعي، وسَرَدَهُ بشكلٍ مكثَّفٍ بعد بعض الحذف والإضافة. في الأحلام يحدث أمرٌ شبيه؛ ففي الحُلم أيضًا بعضُ عناصر مستمدَّة من الحياة الواقعية، لكن الطريقة التي يتم بها توظيف هذه العناصر تكون مختلفة أشدَّ الاختلاف؛ فقد ندمج في الحُلم بين شخصين مختلفين؛ لرابطٍ قد نراه دون أن نَعِيَهُ بينهما، وقد يُفتَّت الشخص في المقابل إلى أشخاص مختلفين، كأن تكون أنتَ المشاهِد وما تشاهده في الوقت نفسه.
أثناء الصحو نركِّز بشكلٍ واعٍ على ما نعدُّه مهمًّا: الأحداث الكبرى في يومنا تشغل تفكيرنا، قد تؤرِّقنا وتؤخِّر النوم عنا، لكن أثناء النوم يُعاد ترتيب الأمور، قد تظهر هذه الأحداث أو لا تظهر. فإن ظهرَتْ ظهرَتْ محرَّفَةً، ممتزجة مع غيرها، بشكلٍ عجائبيٍّ، وقد تَغِيبُ تمامًا بشكل قد يثير الدهشة، لتظهر مكانها أحداث وتفاصيل يراها المستيقظ تافهةً أو غير ذات قيمة. للحلم نظرة مختلفة لما هو مهم أو غير مهم.
بشكلٍ ما، الأمر نفسه يحدُث في الكتابة؛ قد تغدو الأحداث الكبرى التي تجري في الحياة مجرَّد خلفية، أو قد يتمُّ تجاهلها للتركيز على تفاصيلَ صغيرةٍ يخفيها صخبُ وضجيجُ الأحداث الكبرى. المنطق الذي يستدعي به الحلم/الكتابة هنا أحداثَ أو تفاصيلَ الواقع قد يبدو أحيانًا مشوَّشًا أو غامضًا للوهلة الأولى. لكن الكتابة العظيمة -كما الأحلام- تعلِّمنا أن النظرة المتأنية والتأمل الهادئ ستتم مكافأتهما بالكثير من المتعة والفَهم.
(3)
في الصحو نكون قادرين على التفكير المجرَّد، في النوم نفقد هذه القدرة مع فقدان الذات الواعية. أثناء الحلم نحوِّل الأفكار المجرَّدة إلى صورٍ متتابعةٍ بصريةٍ أو سَمْعية؛ التشابه بين صورتين أو حالين مثلًا قد يتمُّ نقله عن طريق تواليهما. في الكتابة أيضًا إن سيطَرَتْ عليكَ فكرةٌ مجرَّدةٌ بشكل كبير، ولم تتمكن من تحويلها إلى عناصر وعَلاقات تُناسِب الشكلَ الفنيَّ الذي تكتب فيه، فأنتَ ببساطة تكتب مقالًا. في الكتابة الأدبية لا بدَّ أن تلتفت إلى قوانين وحساسيات الشكل الذي تكتبه، وقد يكون من المناسب أن تتراجع الأفكار المجرَّدة، التي قد تكون أحيانًا هي الحافز الأصلي للكتابة، إلى الخلف قليلًا.
المنطق المختلف للحُلم يكون قادرًا -من خلال ما يتميَّز به من تكثيف شديد- على التعبير عن علاقاتٍ ومعانٍ قد تغيب عنا أثناء اليقظة، ربما لأن تركيزنا يكون مُنصَبًّا على زاوية نظرٍ واحدةٍ بعينها، أو ربما لأننا نكون أقدر أثناء النوم على استدعاء والاستفادة من ذكريات قد لا نكون على وعيٍ بها أثناء اليقظة. لعل من المفيد هنا للتوضيح ذكر القصة المشهورة لاكتشاف حلقة البنزين، يذكرُ «أوغست كيكولي» August Kekulé أنه بعد حيرة طويلة امتدَّتْ لأعوام أثناء محاولته فهم الكيفية التي تترابط بها ذرات الكربون معًا، اكتشف الشكل الحلقيَّ لجزيء البنزين نتيجةً لحُلمٍ راوَدَه، رأى فيه ثعبانًا يأكلُ ذيله، استلهم منه حلَّ اللغزِ الذي أرَّقَه لفترات طويلة. أما استفادة الشعراء والفنانين من الأحلام، واستغلالهم للرؤى التي تراودهم فيها كمصدر إلهامٍ فهو أمرٌ شائعٌ، لا أظنه يحتاج إلى أمثلة لتوضيحه.
(4)
هناك دائمًا ما يمكن أن يتعلَّمه الكُتَّاب من الأحلام، هناك تشابهات وتوازيات من المفيد التأمُّل فيها وملاحظتها بين الكتابة والحلم. أثناء الكتابة، وخصوصًا أثناء كتابة الشعر، من المفيد أحيانًا أن تؤجِّل التحكم العقلي فيما تكتُبُ قليلًا، ترخي الزمام للأفكار حتى تندفع دون رقابة، ثمَّ تتأمَّلها في تتابعها، ووقتها قد تكونُ قادرًا على تنظيم ما بدا عشوائيًّا للوهلة الأولى في كتابةٍ وصورٍ متماسكةٍ ومبتكرة. أتحدثُ عن تأجيل تحكُّم العقل لا إلغائه؛ لأني أرى أن الكتابة لا تُشبِه الحلم تمامًا، ربما تشبه أكثر ذلك الرجلَ الذي استيقظ من نومه للتوِّ ليحكي حُلمه الذي راوَدَه، موضحًا ومتأملًا فيه بعين المتيقِّظ.
(5)
في النهاية قد لا تكون هناك حاجة للإشارة إلى دور اكتشاف «فرويد» للاوعي، وأهمية وثورية كتابه عن تفسير الأحلام؛ فهذا الدور أشهر من أن يُغفَل. ومن المعروف الأثر الكبير لأفكاره على مجالات مختلفة، منها الكتابة، التي كان أبرزها ظهور المدرسة السوريالية التي كانت أفكار فرويد أحد روافدها المهمة. أعلَتِ السوريالية من شأن اللاوعي والتفتَتْ إلى الحلم كمنبعٍ شديدِ الثراء ووسيلة للوصول إلى تبصُّراتٍ وإيحاءاتٍ جديدة ومتفردة.
_________________
* سبق نشر هذا المقال في موقع هنداوي في 1 فبراير 2015، وفي كتاب "الفأر في المتاهة" عام 2016.
تعليقات
إرسال تعليق
أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء